حكومة المقالع تستعين بالحرب لمضاعفة جرائمها: إعادة الإعمار بـ “البلطجة”؟


2024-12-10    |   

حكومة المقالع تستعين بالحرب لمضاعفة جرائمها: إعادة الإعمار بـ “البلطجة”؟
رسم رائد شرف

في حين كان لبنان يلملم جراحه، كانت حكومة تصريف الأعمال تبحث ضمن الركام على غنمٍ ينعش خزائن المحيطين بها. هذا الغنم تمثّل في تسليم الجبال والتلال التي ما تزال صامدة لشركات الإسمنت. فقد سمحت الحكومة بموجب قرارها رقم 56 الصادر في تاريخ 4 كانون الأول 2024 لهذه الشركات استثنائيا ب “استخراج المواد الأولية اللازمة لصناعة الترابة تلبية لحاجة السوق المحلي وذلك لمدة سنتين” اعتبارًا من تاريخ صدور القرار. وتمّ تبرير هذا القرار الهائل في مفاعيله بالحاجة الملحّة  لمادة التّرابة لإعادة الإعمار وإعادة النازحين إلى بيوتهم. ولم ينسَ مجلس الوزراء من التذكير بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والدمار الهائل الذي سببه العدوان الإسرائيلي الأخير. 

واللافت أنّ القرار نصّ في ختامه على أنّ الإذن يُعتبر لاغيًا “في حال صدور إطار قانوني جديد من وزارتي البيئة والصناعة ينظم أعمال المقالع والصناعات الاستخراجية ويحافظ على النظم البيئية والصحة العامة ويحترم التزامات لبنان والمعاهدات الدولية لجهة الحفاظ على البيئة وتحقيق التنمية المستدامة”. والواقع أن هذه الجملة تشكل تسليما من الحكومة بفشلها في المحافظة على أيّ من هذه القيم فائقة الأهمية المكرسة ضمن أسمى حقوق الإنسان، وتاليا بكونها حكومة فاشلة في دولة فاشلة بكل ما للكلمة من معنى. وهو فشل لا يتأتى من عجز تقني في وضع نصوص ناظمة (بدليل نفاذ المرسوم 8803/2002 الناظم والضامن لهذه الحقوق) ولكن عن تمسّك الطبقة الحاكمة بمنح شركات الإسمنت امتياز انتهاك كل هذه القيم بهدف منحها أعلى هامش ربح، بفعل احتكارها مخالفة القانون بعد احتكارها سوق الإسمنت بفعل حظر استيراده.

وتعليقا على هذا القرار، يهمّ المفكرة القانونية التذكير بدايةً بخطورة المخالفة التي تشكّل ليس فقط مخالفة للقوانين الناظمة ولكن أيضا للقرارات القضائية الملزمة، قبلما نناقش المبرّرات التي استند إليها القرار لجهة حاجة السوق إلى التّرابة من أجل إعادة إعمار ما دمرته الحرب الإسرائيلية.   

الحكومة تعلن الحرب على القانون 

قبل أيام من بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان وتحديدا في تاريخ 9 أيلول 2024، أمر وزير الداخلية بسام المولوي قوى الأمن الداخلي بوجوب تنفيذ قرار مجلس شورى الدولة الصادر قبل قرابة شهر في 13 آب بوقف المقالع. وبذلك، كلّل الناشطون البيئيون ومعهم المفكرة القانونية المعركة الأخيرة التي خاضوها لوقف التدمير البيئي والقانوني الذي كانت انتهجتْه الحكومات السابقة بانتصار قضائي بالغ الأهمية. وكانت هذه المعركة قد بدأت مع الطعن الذي قدّموه أمام مجلس شورى الدولة لإبطال القرار الذي كانت أصدرته الحكومة في تاريخ 18 أيار 2024 بمنح شركات الترابة مهلة سنة لمواصلة استثمار مقالعِها خلافا للقانون. وقد استجاب المجلس لهذا الطعن بأن أصدر قراره بوقف تنفيذ قرار الحكومة، وهو القرار الذي استجاب له وزير الداخلية كما سبق بيانه. لم يكن هذا القرار الأول من نوعه إذ كان الناشطون البيئيون واتحاد بلديات الكورة نجحُوا قبل ذلك في استصدار 4 قرارات إبطال لقرارات مماثلة تباعا في تواريخ (19/1/2022 و20/1/2022 و15/3/2022 و20/4/2023). إلا أنّ استثنائية انتصارهم الأخير تمثّلت في نجاح هؤلاء في فرض تنفيذه على أرض الواقع. إذ بخلاف القرارات السابقة التي كانت تصدر بعد انتهاء مدة السماح الممنوحة لشركات الإسمنت (وكانت قصيرة نسبيا تتراوح بين شهر وثلاثة)، فإن قرار أيار 2024 قد منح مهلة سنة وتم وقف تنفيذه قبل انقضاء 9 أشهر منها. 

وعليه، بدا أنّ الحكومة التي خجلتْ من استمرار تمرّدها على القانون والقرارات القضائية المتتالية فأوقفت تنفيذ قرارها في أيلول 2024، عادتْ لتجد في “الدّمار الهائل” الذي أحدثتْه الحرب الإسرائيلية ذريعةً تمنحها مبرّرًا لمعاودة تمرّدها المعهود والمنتظم واستعدادها لتدمير البيئة والقانون من أجل مصالح شركات الإسمنت. ولئن افترضت أن ذريعةً كهذه لا تتوفّر دائما، فإنها سارعت إلى مضاعفة مدة السماح لشركات الإسمنت (يعني الاستباحة للجبال) عما كانت عليه قبل الحرب لتصل إلى “سنتيْن” بدل السنة. فكأنّها ردّت على إدانتها بمنح سماح لسنة من خلال منح سماح لسنتيْن، وبتعبير آخر على إدانتها بارتكاب مجزرة بيئية من خلال ارتكاب مجزرتين إضافيتين. 

المبرّر الساقط 

كما سبق بيانه، برّرت الحكومة انتهاكها القانون عنوةً بالدّمار الهائل وحاجة السّوق إلى توفير مواد البناء الضرورية لإعادة الإعمار. ويفهم من ذلك أنّ توفير مواد البناء لا يمكن حصوله إلا من خلال السماح بأعمال مخالفة للقانون. وهو أمر غير صحيح لسببين على الأقل: 

الأول إنّ بإمكان الحكومة أن توفر هذه الحاجة من خلال منح تراخيص قانونية على أساس المرسوم 8803، بعد التثبت من مراعاة الشروط البيئية والحفاظ على حقوق خزينة الدولة. ولا يعيق ذلك إلا أمر واحد، قوامه إصرار الشركات على تواجد المقالع قرب معاملها أي في مناطق مسكونة وحسّاسة بيئيا وتاليا في مناطق يحظر الترخيص فيها وفق المرسوم. وفيما قد يزيد هذا العائق من كلفة الإنتاج بفعل زيادة كلفة النقل، فإنّه يحدّ بالمقابل من الأضرار البيئيّة سواء على صعيد الثّروة المائية أو التلوّث أو الصحّة العامّة في المناطق المأهولة. ولا نحتاج إلى كثير من الجهد لنرى أن الوفر الحاصل لدى شركات الإسمنت الخاصة  من خلال تمكينها من استثمار مقالع قريبة من معاملها أعلى بكثير من الخسائر البيئية والمالية في خزينة الدولة. 

أما السبب الثاني، فيقوم على أن بإمكان الحكومة إلغاء حظر استيراد الإسمنت عملًا بمبادئ حريّة المنافسة، بما يضمن ليس فقط توفير السّلعة المطلوبة إنما أيضا توفيرها بأسعار معقولة تكاد تصل إلى نصف الأسعار التي تتداول بها الشركات بعدما ضمنت احتكار السوق بفعل هذا الحظر. 

مما تقدم، يصبح واضحًا أنّ استباحة القوانين والبيئة (أو ما يصح تسميته البلطجة القانونيّة) ليست ضرورة لا بدّ منها، بل هي على العكس من ذلك هدف كانت الحكومة تترقب الفرصة للقفز إليه، خدمةً لمصالح شركات الإسمنت والمستفيدين منها. وليس أدلّ على ذلك من أن القرار لم يضعْ أيّ سقف لكميّة المواد المسموح إنتاجها ولا منع التصدير، على نحو جعل الاستباحة والضرر الناجم عنها مبررين بتغليب مصالح شركات الإسمنت أكثر مما هما مبرران بضرورات السوق.  

للاطّلاع على القرار رقم 56 حول تنظيم عمل شركات الترابة

انشر المقال



متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، قرارات إدارية ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني