يشهد العديد من البلدان في الفترة الأخيرة ازدياد الاحتجاج ضدّ سلطة/حكم القضاة. وفق هذه النظريّة، تشكّل السلطة القضائيّة، التي من شأنها إبطال قوانين صادرة عن مجلس نوّاب منتخب أو قرارات صادرة عن السلطة الإجرائيّة التي يساهم ممثلو الأمّة في اختيارها، خطرا على الديمقراطية. إذ أنّ صلاحية الإبطال هذه تعني أن سلطة أقّل شرعية -في حال اعتمدنا الانتخاب كمصدر وحيد للشرعية- تسيطر على قرارات سلطات أكثر شرعية منها. وهذا يشكل خطرا على ديموقراطيّة الحكم التي تقدّس سيادة الشعب الممارسة عبر ممثليه.
وفي حين ظهرت عبارة “حكم القضاة” في الولايات المتحدّة تبعا لاجتهادات جريئة للمحكمة العليا الأميركية، أي في نظام يعلن التزامه بمبادئ دولة قانون (بشكل عام على الأقل)، أصبحت تستعمل من قبل أنظمة أقلّ ديمقراطية واحتراما للقوانين والدستور، والتي تخشى القرارات القضائية المتصديّة لتعسّفاتها. من آخر المتحجّجين بهذه النظريّة حكومة بنيامين نتنياهو. إذ لا يخفي هذا الأخير ازدراءه للقضاء الذي يلاحقه في قضيّة فساد. هذا فضلا عن أنّ العديد من حلفائه في الحكومة والبرلمان يشاركونه نظرته السيّئة بالنسبة إلى القضاء وبخاصة المحكمة العليا.
وتعود الحساسية حيال هذه المحكمة إلى 1995 حين أعطت لنفسها دور محكمة دستورية وهو الأمر الذي يعتبره معارضوها بمثابة “انقلاب دستوري”. فالدستور الإسرائيلي أو القوانين الأساسية لم تنُط بالمحكمة العليا صلاحيّة إلغاء قوانين صادرة عن السلطة التشريعيّة. وبالرغم من امتناع المحكمة عن استعمال هذه الصلاحيّة بشكل منتظم، تمّ انتقادها على هذا الصعيد، لا سيما من قبل الأحزاب اليمينيّة والمستوطنين، بالنظر إلى بعض قرارات إبطال قوانين كانت رمتْ إلى تشريع المستوطنات. بالإضافة إلى صلاحيتها في مراجعة دستوريّة القوانين وإبطالها، تتمتّع المحكمة العليا أيضا بصلاحيّة إبطال قرارات حكوّميّة، حتى أن من صلاحيّاتها إبطال قرار تعيين وزير من قبل رئيس الحكومة. كلّ هذا ساهم في دفع الحكومة اليمينيّة إلى تقديم مشاريع قوانين ترمي إلى ضبط ما تعتبره تجاوزات من قبل السلطة القضائيّة.
تسييس عملية تعيين القضاة
في ظلّ القانون الأساسي الحالي، يتمّ تعيين القضاة من قبل رئيس الجمهوريّة بناء على اختيارهم من قبل لجنة انتخاب قضاة. تتكوّن هذه الهيئة من 9 أعضاء: رئيس المحكمة العليا، قاضييْن من المحكمة العليا يتم انتخابُهما من قبل الجسم القضائي، وزير العدل ووزير آخر يتم تعيينه من قبل الحكومة، عضوين من البرلمان منتخبين من قبل أعضائه، وممثليْن من غرفة المحامين. فتتكوّن إذا هذه اللجنة من ممثلين من جميع السلطات مع تمثيل أكبر للقضاة. ويتمّ تعيين القضاة بقرار من غالبية 7 من أصل 9 أعضاء من هذه اللجنة، أي من دون منح ممثلي السلطات السياسيّة (الوزيرين والنائبين) الدور الأهمّ في تعيين القضاة. فيأتي هذا التعيين عادة نتيجة توافق بين الأطراف.
وعليه، يرمي الاقتراح إلى الحدّ من إمكانية تحالف القضاة والمحامين، أي المهنيين، ضدّ الأعضاء المسيّسين، إذ يصبح أعضاء اللجنة 11 عضوًا: ثلاثة ممثلين عن القضاء، أحدهم رئيس المحكمة العليا وثلاثة وزراء وثلاثة رؤساء لجان كنيست (لجنة الدستور، لجنة الكنيست، ولجنة مراقبة الدولة) وإثنين يمثلان الجمهور يختارهما وزير القضاء؛ هذا يعني أن اللجنة ستصبح مكوّنة من ثلاثة قضاة وثمانية محسوبين بدرجة أو أخرى على القوى السياسية الحاكمة. ومن شأن هذه التشكيلة أن تمنع تعيين قضاة لا يشاركون توجّهات السياسيين، لا سيّما بشأن المستوطنات أو وضع السجناء والحريّات العامة بشكل عام.
التأكيد على سيادة السلطة التشريعيّة
كما أشرنا إليه أعلاه، منحتْ المحكمة العليا نفسها منذ 1995 صلاحية إبطال قوانين سنّتها السلطة التشريعيّة. وتمارس هذه الصلاحيّة على القوانين الأساسيّة المتعلّقة بحقوق الإنسان. وتُمارس هذه الصلاحيّة لردّ القوانين حتى من قبل هيئة مكوّنة من ثلاثة قضاة فقط. وهذا أوّل ما يتطرّق إليه النصّ الإصلاحي، إذ يهدف إلى الاشتراط لردّ قانون أن تنعقد المحكمة العليا بكامل أعضائها الـ 15، ويتطلب رفضه موافقة أغلبية 12 قاضيًا من 15 أو أيضا 15 من 15 أي بالإجماع وفق اقتراح آخر.
أخطر من ذلك، يهدف الاقتراح إلى إعطاء السلطة التشريعيّة، في حال تمّ إبطال القانون من قبل المحكمة العليا، صلاحيّة إقرار قانون تجاوز override clause تلغي بالأغلبيّة البسيطة (61 من أصل 120 أعضاء) قرار المحكمة العليا القاضي بعدم “دستوريّة” القانون أو عدم مطابقته للقوانين الأساسيّة. وهذا الأمر يعطي الأغلبية الحاكمة التي تسيطر على الحكومة سلطة التحكّم بقرارات المحكمة العليا، وإذًا التحكّم بكلّ السلطات. ويشكل هذا الأمر مخالفة صارخة لمبدأ فصل السلطات كما لمبدأ المحاكمة العادلة.
تحصين قرارات السلطة التنفيذيّة والإدارة
اعتمدت المحكمة العليا مبدأ التناسب بالنسبة إلى قرارات السلطة السياسية والموظّفين العموميين. أدّى اعتماد هذا المبدأ إلى إلغاء العديد من القرارات الحكوميّة التي لا تتناسب مع مبرراتها أو ترشح عن استخدام مفرط وغير مبرر للقوة. وقد طبقت المحكمة العليا مبدأ التناسب لإلغاء تعيين أريه دري وزير الداخلية والصحة، مبررة ذلك بعدد الأحكام الصادرة بحقّه بشأن اختلاس أموال وقضايا ضريبيّة، ولا سيما أن إدانته بشأن اختلاس الأموال في عام 1993 اقترنت بعقوبة منع تولي مناصب رسميّة.
يهدف الاقتراح إلى إلغاء مبدأ التناسب كمعيار لمراقبة الأعمال الإداريّة والحكوميّة، ملغيا بذلك صلاحيّة مراقبة أعمال السّلطة التنفيذيّة.
بالإضافة إلى ذلك، تهدف التعديلات إلى تقليص دور المدّعي العام والمستشارين القضائيين لدى الوزارات. ففيما يتمّ تعيينهم حاليا حسب معيار كفاءتهم المهنيّة وتكون آراؤهم مقيّدة للوزراء، يهدف الاقتراح إلى تحويل مناصبهم إلى مناصب ثقة ويتولى وزير العدل التعيينات فيها من خلال عملية مسيّسة وغير مهنيّة. الأهمّ، ستصبح آراؤهم غير ملزمة.
كخلاصة، أمكن القول أن هذه التعديلات الأوليّة تذكّرنا بالأولويات نفسها التي نجدها لدى الأنظمة الاستبداديّة والفاسدة في مقاربتها للقضاء: أهمّها السّطو على استقلاليّته عبر السيطرة على عمليّة تعيين القضاة، بالإضافة إلى تقليص صلاحيّاته بأكبر شكل ممكن. وفي حين أنّ المحكمة العُليا في الكيان الصهيوني انتهكت في العديد من قراراتها الحقوق الأساسية للفلسطينيين، فإن من شأن تحرّر الحكومة الإسرائيلية من أي ضوابط في ظلّ تنامي التطرّف الصّهيوني والعدائية العنصرية ضدّ هؤلاء أن ينذر بمزيد من الانزلاقات شديدة الخطورة.