في أواخر عام 1970، بعد موجة حراكات شبابيّة عالميّة تأثّر بها لبنان، وفي إثر تردّي الوضع الاقتصادي جرّاء تداعيات أزمة بنك “إنترا” (1966)، انتخب سليمان فرنجيّة رئيساً للجمهوريّة بفارق صوتٍ واحد عن الياس سركيس (50\49) ليطوي فترة 12 عاماً من الحكم الشهابي (عهدا الرئيسين فؤاد شهاب وشارل حلو). ومع فوزه، وجد فرنجيّة نفسه في مواجهة مع جبهات عدّة في المجلس النيابي وفي الإدارة، فدعا إلى تأليف حكومة قويّة ومتجانسة وذات ركائز شعبيّة متينة. وكان لاحتقان الشارع دوره في التأثير على الخيارات. فقد كان الرأي العام يطالب بفعل إصلاحي جدّي يتخطّى منطق المحاصصة، بخاصّة بعد تفاقم أزمة غلاء المعيشة والركود الاقتصادي واستمرار معاناة الطلاب في إيجاد فرص عمل بعد التخرّج. وهو ما دفع المرشح لرئاسة الوزارة صائب سلام قبل يوم من بدء الاستشارات للقول بأنّ الأهم من الحكومة هو ما يطمح إليه الشعب، والمطلوب “القيام بثورة عاجلة من فوق، تكون ثورة الحكم على نفسه وعلى الأساليب التي تخطّاها العصر. وتمنع بالتّالي قيام الثّورة من تحت”.
نظراً لأهميّة استرجاع تلك الفترة التاريخيّة المشابهة في الكثير من ظروفها ومجرياتها للواقع الذي نعيشه اليوم، طالعنا ما وثّقته بعض الصحف من أحداث بين تشرين الأوّل 1970، وأيّار 1972، لنرصد في هذه المقالة مسار تأليف الحكومة. ونتطرّق إلى الفترة الأولى التي تلت تشكيلها والتي انتهت باستقالة وزير التربية غسان تويني بعد 100 يوم. ونولي موضوع الغلاء والاحتكار تركيزاً خاصاً نظراً لتشابهه مع الوضع الحالي ومع صعود خطاب يطالب بإلغاء الاحتكارات وفتح سوق المنافسة. وقد أدّت هذه المحاولات حينها إلى استقالة 4 وزراء بعد نزاع داخلي في الحكومة حول إقرار المرسوم 1943 الآيل إلى إلغاء احتكار التجّار وصولاً إلى استقالة الحكومة على مشارف انتخابات نيابيّة جديدة في أيّار 1972.
المسار الطويل لتأليف حكومة الشباب
أفضت الاستشارات النيابية في تشرين الأوّل 1970، إلى تكليف صائب سلام برئاسة الحكومة ومطالبة النوّاب بحكومة برلمانيّة موسّعة من 16 وزيراً، يمثّلون الكتل النيابية. كان الحديث يدور حول صيغ عدّة: “حكومة لون واحد، حكومة اتّحاد وطني، حكومة انسجام، حكومة مختلطة، حكومة من 16، من 14، من 12، من ستة”. وبعد مشاورات حثيثة، أعلن سلام في 7 تشرين الأوّل 1970 نبأ تشكيل حكومة من 12 وزيراً. لكن تشكيلة الـ12 المؤلّفة من أقطاب الكتل سقطت على الفور إزاء إصرار النائب ريمون إدّه، عميد الكتلة الوطنية، على الحصول على وزارة الدفاع بعد أن تمّ تعيينه وزيراً للمال. حاول المعنيّون إيجاد مخرج مناسب فاقترحوا حكومة من 8 أقطاب سقطت أيضاً بسبب شروط الكتل (وضع “فيتوهات” على بعض الأسماء). وانتشرت أحاديث حول حلّ المجلس النيابي، عدّها البعض تهديداً بهدف الضغط على الكتل للتعاون. واستمرّت المشاورات لتؤدّي إلى فشل تشكيل حكومة أخرى من 16 وزيراً وحكومة رابعة من 6 وزراء -وزير من كل طائفة-. وفي 12 تشرين الأوّل لوّح سلام بالاعتذار، واقترح على فرنجيّة حلّاً من اثنين، إمّا حكومة مصغّرة من أقطاب أو حكومة “إكسترا برلمانيّة” -أي من خارج المجلس-، تتولّى حلّ المجلس وتشرف على إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة.
لكن ظهر اليوم التّالي، فاجأ سلام الجميع بإعلان حكومة تشكّلت على عجل من أصحاب اختصاص مجهولين لدى الرأي العام (أطلقت جريدة “النهار” عليها لقب حكومة مجهولين يوم تأليفها)، وسمّيت حكومة الشباب لأنّ أغلبها من الشّباب. يروي الياس سابا، وزير المال آنذاك، في مقابلة مع “المفكرة القانونيّة” أنه تلقّى اتصالاً من سلام طلب منه الحضور إلى منزله ليفاجأ بإعلان الحكومة وتعيينه وزيراً للمال. ويضيف سابا أنّه في الجلسة الأولى للحكومة عقدت في منزل سلام قال الأخير للوزراء: “شوفوا يا حبيباتنا إنتو وزرا تقنيين ما إلكن علاقة بالسياسة، خلّولنا السياسة إلنا”، فردّ عليه سابا “دولة الرئيس غير مقبول هذا الكلام، فدستوريّاً أنا مسؤول مثلك، أنا سياسي، وبإمكان مجلس النوّاب طرح الثقة بي”. ويردف سابا بأسلوبه الفكاهي “وبلّشت من أوّل يوم دقّي وعصري معه”. من جهة أخرى، يشرح كريم بيطار، نجل وزير الصحة آنذاك إميل بيطار لـ”المفكرة”، “أنّه لم تأخذ الأمور أكثر من 6 أشهر حتى اصطدم المنطق الإصلاحي بالمنطق التقليدي. فبين الوزراء من كان مستعداً للمضيّ حتى النهاية في معاركهم الإصلاحيّة، ومنهم، ربما الأكثريّة، من رضخ وقبل لعب لعبة النظام”.

حراك الشارع
منذ البداية ناصب مجلس النوّاب الحكومة العداء. وعبّر النواب خلال مناقشة البيان الوزاري عن استيائهم ممّا اعتبروه تخطّياً للأصول الديمقراطية بتشكيل حكومة من خارج المجلس النيابي، رغم منحهم الثقة لها بـ76 صوتاً من أصل 99. وقد تبارى الخطباء حينها على وصف سوء الوضع المعيشي من بطالة وغلاء، وتحدّث معظمهم عن واقع الفساد والطائفيّة والاحتكارات ومشاكل الإدارة، وذكّروا بمطالب الناس بخاصّة المتعلّق منها بالنظام التعليمي والصحّة والسكن والعمل وضمان الشيخوخة. وأشار النائب فريد جبران إلى أنّ “الحكومات تتوالى منذ فجر الاستقلال، فتأتي بالبيانات والوعود ولا يتحقق شيء. هذه الحكومة الماثلة اليوم أمامنا هي اعتراف بهذه الحقائق المفجعة”. ثم تساءل جبران إذا ما كان بإمكان “نظام مهترئ يقوم على الرشوة وعلى الفساد وعلى السرقات وعلى الاحتكارات وعلى الاستغلال بأبشع صوره أن يقوم بثورة؟”
بالمقابل، لم تتوقف الإضرابات والتظاهرات منذ بداية العهد، وشكّل الطلّاب عصبها الأساسي كما شاركت فيها نقابات وقطاعات عدّة مثل المزارعين والسائقين وموظفي المصارف ونقابات الأفران ونقابات موظفي القطاع النفطي ونقابات المصالح المستقلّة ومصالح المياه والقطاع السياحي والاتحاد العمّالي العام… كلّ وفقاً لتطلّعاته ودوافعه. وبعد 3 أشهر فقط على تشكيل الحكومة، أحصى وزير العمل والشؤون الاجتماعيّة منير حمدان 45 محاولة إضراب، أكثرها لم ينفّذ بعدما تمّ التوصّل فيها إلى اتفاق مع الدولة. وكانت معظم المطالب تتمحور حول زيادة الرواتب، والعطل ومواعيد العمل والتعويضات ومنها ما يتعلّق بالضمان الصحّي. وحول المطالب المستجدّة للعمّال قال حمدان إنّه ليس لدى الوزارة جهاز فنّي يتولّى رصد المشاكل والتنبّؤ بها قبل حدوثها.
أوّل قرارات الحكومة
اعتبر الإعلام أنّ “الأسابيع الأربعة الأولى [للحكومة] ستكون المحكّ”. وبالفعل، بدأت التحدّيات بفضيحة ماليّة، كان أثارها المجلس النيابي في بداية العهد حول مشروع قانون قطع حساب موازنة 1969 الذي طرحه وزير المال الأسبق بيار إدّه عام 1968. تمّ الإعلان حينها عن مخالفات وأخطاء جسيمة في أرقام الموازنة. فالوزير إدّه حاول تغطية عجز الموازنة من مال الاحتياط، علماً أنّ هذا المال كان نفذ منذ عام 1962، وبات موجوداً حسابيّاً فقط. وخلال جلسة مناقشة البيان الوزاري، سُئل الوزير سابا عن العجز فأكّد أنّ الاحتياطي نفذ، وأنّ على الخزينة التزامات ماليّة تفوق موجوداتها، مشيراً إلى أنّ الحكومة أنفقت من حسابات البلديّات. وقال إنّه عازم على إعداد بيان مفصّل لوضع الخزينة يعرضه على المجلس النيابي خلال مناقشة موازنة عام 1971 التي بدأ العمل عليها منذ اليوم الأوّل. لم يمضِ أسبوع حتّى افتتح الوزير سابا أول خطواته الإصلاحيّة بإلغاء مساعدات ومكافآت واعتمادات غير مجدية كانت لحِظتها موازنة الوزارة السابقة.
وكذلك بدأت الحكومة العمل على تطبيق الضمان الصحي. فما أن تولّى إميل بيطار شؤون وزارة الصحّة حتّى ألغى المادة الأولى من مرسوم رقم 16662 تاريخ: 18/06/1964، التي تشترط على المريض إثبات العوز من خلال شهادة فقر الحال (صادرة عن مجلس الاختيارية أو رئيس البلدية أو المختار أو طبيب القضاء) كي يتمّ قبوله في مستشفى حكومي للعلاج، الأمر الذي اعتبره بيطار مذلّاً. أمّا وزير التصميم حسن مشرّفية فدشّن عهده بإجراء إحصاء للقوى العاملة، على اعتبار أنّ “الموارد الإنسانيّة تعتبر من أهم المصادر التي يجب تجنيدها في خدمة الإنماء”. من جهة أخرى ولمواجهة انتقادات النوّاب لحكومة من خارج المجلس، قرّر وزير الأنباء والتربية، غسان تويني نقل مجريات جلسة مناقشة البيان الوزاري مباشرة، للمرة الأولى في تاريخ لبنان. يقول المؤرّخ كمال صليبي في كتابه Crossroads to Civil War 1958 – 1976 أنّه “لفترة وجيزة، عمّ في البلاد مزاج تفاؤلي. لكنّ النوايا الحسنة التي أتت مع الحكومة بدأت تواجه معارضة جادّة من المصالح المترسّخة للمؤسسّة السياسية ومؤسّسة رجال الأعمال اللبنانيين”.

استقالة وزير التربية بعد 100 يوم على التكليف
طوال 3 أشهر، لم تهدأ حركة الطلّاب في الشارع ولم تتحقّق مطالبهم، ولا اقتنعوا بالحوارات التي كان يجريها وزير التربية معهم أثناء تظاهراتهم أمام وزارة التربية. في 20 كانون الثاني 1971، قام 300 طالب ثانوي باحتلال طابقين من مبنى وزارة التربية في الأونيسكو. على الإثر، أعلن وزير التربية والأنباء غسّان تويني استقالته في مؤتمر صحافي. وقال في كتاب وجهه إلى رئيس الجمهوريّة: “استمراري في الحكم أصبح غير ذي موضوع لأنّ الوضع الحاضر لم يعد يمكّنني من تحقيق ما تكوّن لديّ، إثر 3 أشهر من الممارسة، من اقتناع راسخ بوجوب تحقيقه بغير الأساليب التي في متناول هذه الحكومة”. واعترف أنّه في “الواقع لم ننفّذ شيئاً أساسيّاً يذكر”. وفيما يخص الطلّاب قال “حضّرنا إحصاء قد يكون مضحكاً عن مطالب الطلاب والمعلمّين فوجدنا أنّ لهم 45 مطلباً. 45 قضيّة متراكمة عبر عهود طويلة من اللاعناية”. كما تحدّث عن ضرورة تعديل القوانين، وقال تويني “إنّه كان مطلوباً من الحكومة أعمال غير اعتياديّة لأنّها جاءت بصورة غير اعتياديّة. فإذا بها لا تتمتّع إلّا بصلاحيّات اعتياديّة”. وعن أسباب الاستقالة قال إنّها “دعوة إلى الجرأة وإلى حكم شجاع”. في اليوم نفسه مساء، أقرّ مجلس الوزراء قانون موازنة 1971، وتمّ تعيين وزيرين مكان تويني، هنري طربيه وزيراً للأنباء، ونجيب أبو حيدر وزيراً للتربية.
وزارة التصميم ومحاربة الغلاء
سعى وزير التصميم مشرفيّة إلى معالجة مشكلة غلاء الأسعار التي كانت بدأت قبل عهد حكومة. وتمثّلت بارتفاع أسعار إيجارات المساكن، وغلاء التعليم والتطبيب والمأكل والملبس. وكانت صدرت عن مصرف لبنان إحصاءات أشارت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة بنسبة 5.3% سنة 1969، والمواد الأوّلية بنسبة 5.9%، والمواد المصنوعة بنسبة 9.1% ومواد البناء بنسبة 12.6%. وبشكل عام، أشارت دراسة لوزارة التصميم إلى ارتفاع كلفة المعيشة بنسبة 11% بين العامين 1966 و1970 . ويشير المؤرّخ كمال صليبي إلى أنّ الغلاء كان بسبب موجة عالميّة من ارتفاع الأسعار من جهة، وبسبب أزمة التضخّم الناتجة عن تدفّق أموال النفط الخليجي إلى لبنان من جهة أخرى، بالإضافة إلى الشهيّة على الربح للمستوردين والتجّار.
وذكرت مقالة في “النهار” أبرز أسباب الغلاء وفق تصريح للوزير مشرفيّة هي احتكار استيراد أصناف معيّنة إضافة إلى مسألة تعدّد الوسطاء وكثرة الباعة، ومسألة النقل والتخزين والتلف والتكاليف. أمّا معالجة المشكلة فلا يمكن أن تتم عبر الأجهزة القائمة وفقاً لمشرفيّة لأنّها “لا تملك الإمكانات ولا الصلاحيّات، فالأمر بحاجة إلى أجهزة متخصّصة بجوانب مختلفة”. عمل كل من وزير الاقتصاد، ووزير الزراعة ووزير الماليّة كلّ ضمن نطاق وزارته وصلاحيّاتها على معالجة المشكلة. لهذه الغاية زاد وزير الماليّة من اعتمادات وزارة التصميم في الموازنة بهدف إعداد دراسة وافية بشأن غلاء الأسعار. وقد أنجزت الوزارة الدراسة، وقرّر مشرفيّة نشر الأرقام التي تحدّد ارتفاع كلفة المعيشة، وجعل النشر عمليّة روتينيّة. وتراوحت الحلول المطروحة أمام الحكومة بين زيادة الأجور أو ضبط الأسعار بينما اقترح مجلس التصميم السير بالأمرين معاً.

الاحتكار مشكلة قديمة جديدة
بعد اشتداد أزمة غلاء الأسعار، أثير موضوع الاحتكار إعلاميّاً ومن قبل عدد كبير من النوّاب. وحول أشكال الاحتكارات نستعين بما فنّده منها النائب عبد المجيد الرافعي خلال الجلسات النيابيّة. فانتقد الرئيس سلام بخصوص الاحتكارات البترولية وعلى رأسها شركة نفط العراق “آي. بي. سي.” التي أصرّت على الاحتفاظ بالأنابيب والمصفاة التي تملكها في لبنان، بعد خسارة أملاكها في العراق وسوريا، وطالب الرافعي بتأميمها كما فعل العراق. كما انتقد احتكار الكهرباء من قبل شركة قاديشا التي رفعت التعرفة على المواطنين فقاموا بتظاهرات عدّة وقرّر البعض منهم الامتناع عن الدفع. كما طرح الرافعي سؤالاً على الحكومة حول احتكار الملح من قبل ملّاحات أنفة. وتحدّث في جلسة أخرى عن احتكارات الشركات الأجنبيّة واحتكار الريجي. فيما أكّد النائب معروف سعد في إحدى الجلسات النيابيّة، أنّ الغلاء “ليس له مبرّر شرعي ولا نرى أنّ هناك قاعدة على أساسها ترتفع (أسعار) الحاجيات أو تنزل ولكن نرى أنّ الاحتكاريين لعدم مراقبتهم ولعدم كبح جماحهم يتصاعدون في احتكارهم ويتصاعدون في رفع الأسعار”. كما تساءل سعد بما أنّه لدى الحكومة 25 ألف طن من السكر، “لماذا لا تنزله إلى الأسواق لتضارب المحتكرين وتوقفهم عند حدهم؟” وتساءل حول الحليب لماذا “منعوا استيراده وبعد كم يوم سمحوا به. ارتفع سعره وما زال مرتفعاً”. كما أنّ احتكار الأدوية ومواد البناء والمواد الغذائيّة (السكر، الملح، المواد الحيوانيّة كاللحوم والحليب ومشتقّاته…) كانت كلّها مطروحة أمام الحكومة لمعالجتها.
اشتداد الحرب على الاحتكار… واستقالتان
بدأت الحرب الحقيقيّة على الاحتكار بقيادة الوزيرين سابا وبيطار في تموز 1971، من خلال القرار 361، والذي وضع آليّة لتسعير الدّواء، ثمّ بمرسوم 1943 في أيلول، والذي عدّلت بموجبه تعريفة الرسوم الجمركيّة. وفي مضمون القرار 361 وُضعت أصول لتحديد أسعار مبيع الأدوية المستوردة أو المصنّعة محلّياً. فتم تحديد سعر الكلفة في المادة 3 و4، ثمّ حدّدت المادة 5 نسبة الأرباح بـ: 10% للمستورِد، و30% للصيدلي. وبدلاً من أن تساند نقابة الصيادلة القرار الذي ترك هامشاً واسعاً لربح الصيادلة وقفت ضده، ونفّذ بعض الصيادلة إضرابات رمزيّة. ولاحقاً، بدأ المستوردون يقطعون أصنافاً من الأدوية من السوق، في محاولة ضغط على بيطار للتراجع عن القرار.
أمّا في مضمون المرسوم 1943، فقد تمّ تعديل التعريفة الجمركيّة لنحو 545 صنفاً من السلع، وضعها المرسوم في جداول مرمّزة. وتراوحت معدّلات الرسوم في التعريفات الجمركيّة على تلك السلع، بعد التعديل، بين 8% و100%. لكن الحملة كانت بدأت ضد المرسوم حتّى قبل أن يُنشَر وقبل أن يفسِّر الوزير سابا مضمونه. وأوضح سابا لـ”المفكرة” أنّ تعديل الرسوم أتى على سلع تمّ تصنيفها أنّها كماليات بعد دراسة علميّة طويلة، سواء لأنها فاخرة مثل السيارات والعطور والكحول، أو لوجود منتجات بديلة عنها مثل معجون الأسنان والصابون المستورد. لم تهدأ الحملة الإعلاميّة التي شُنّت على المرسوم، بقيادة أطراف عدّة من الأحزاب المحسوبة على اليسار واليمين أو من قبل التّجار. وكانت الحجّة أنّ “الضرائب” المفروضة تضرّ بالطبقة الوسطى وتضرّ السياحة، كما حاجج آخرون أنّ الزيادة في الرسوم شملت سلعاً يستخدمها عامّة الناس. وقامت تظاهرات وأضرب التجّار احتجاجاً. حاول صائب سلام أن يلغي القرار 361 لكن كان للرئيس فرنجيّة رأي آخر. ثمّ تفاقمت الخلافات داخل الوزارة وتمّ إلغاء المرسوم فقدّم سابا استقالته في آخر أيلول لكن الاستقالة رفضت. وأراد رئيس الحكومة صائب سلام إجراء تعديل وزاري بإبدال سابا وبيطار ووزير ثالث، وفقاً لما أشارت النّهار، لكن يبدو أنّ هناك اعتبارات حالت دون ذلك. في الفترة نفسها، قدّم وزير الأشغال العامّة والزراعة هنري إدّه الذي صوّت ضدّ المضيّ بمرسوم 1943 استقالته. وذكرت جريدة النّهار أنّ السبب كان مشادّة مع الوزير سابا، إذ اعتبر إدّه أنّ تخفيض ميزانيّة وزارة الأشغال بعد إلغاء المرسوم موجّه ضدّه.
بعض الحلول لغلاء الأسعار والاحتكار… واستقالتان جديدتان
شهد النصف الثاني من ولاية الحكومة بعض الإجراءات في محاربة الاحتكار والغلاء. في آب 1971، رفض مجلس الوزراء التمديد لشركة قاديشا. ووجّه وزير الموارد جعفر شرف الدين كتاباً في أيلول إلى مصلحة كهرباء لبنان كي تسترد الدولة منشآتها من الشركة، لانتهاء مدّة عقدها. وفي بداية تشرين الثاني، أقّرت لجنتا المال والإدارة مشروعاً لزيادة الرواتب 5%، وقال الوزير سابا إنّ الأسعار سترتفع بعد هذه الزيادة لأنّ الدولة لم تتّخذ إجراءات حاسمة للحؤول دون ذلك. ويذكر سابا أنّه في إحدى جلسات للجنة وزاريّة تشكّلت بعد إصدار المرسوم 1943، فوجئوا أنّ مصلحة حماية المستهلك لا تضمّ غير ستّة موظّفين، فاقترح سابا حينها أن تعير وزارة الدفاع عشرات من موظفيها للعمل كمراقبين أو مفتّشين في المصلحة. كما شهدت تلك الفترة ملاحقات قضائيّة للتجّار المضاربين. وكان عدد المحالين على القضاء من التجّار بتهمة رفع الأسعار والغش والاحتكار بلغ في 6 تشرين الثاني 1971 ، 237 تاجراً. من ناحية أخرى، اقترح سابا حلولاً لمشكلة الغلاء، منها زيادة عدد مراقبي مصلحة حماية المستهلك، وإنشاء محكمة خاصّة تعمل على امتداد 24 ساعة كل يوم للنظر في مخالفات رفع الأسعار. بينما اقترح وزير الاقتصاد تخفيض رسوم الاستيراد على بعض الحبوب والمواد الغذائيّة.
لكن استمرّت الخلافات داخل الحكومة، وواجه بيطار العقبة نفسها التي واجهها سابا، بخصوص مشروعه المتعلّق باحتكار الدواء، وعند وصوله إلى حائط مسدود قدّم استقالته في 24 كانون الأول 1971. ثمّ قدّم وزير التصميم حسن مشرفيّة استقالته في أواسط آذار، وقال إنّه كان أعرب عن رغبته في الاستقالة يوم استقال هنري إدّه إلّا أنّ رئيس الجمهوريّة طلب منه الانتظار والبقاء حتى ينتهي من وضع خطّة سداسيّة كان يعمل عليها. بعد بضعة أيّام عيّن وزيران جديدان مكان مشرفيّة وبيطار، واستمرّت الحكومة للإشراف على الانتخابات. وبعد الانتخابات النيابيّة، تشكّلت حكومة جديدة برئاسة سلام وذلك في نهاية أيّار 1972.
الإصلاح المتعذّر
لم تتغيّر معظم المطالب المرفوعة خلال أول السبيعينيّات عن تلك المرفوعة اليوم، مع اختلاف شدّة الأزمة الحالية. وكما حاول بعض الوزراء والنواب رفع الصوت والتصدّي للعوائق وطرح حلول لها، أراد وزراء عدّة في حكومة الشباب العمل على إنهاء مشاكل بنيوية أعاقت بناء الدولة والمجتمع كقضية الاحتكارات ومكافحة الغلاء وإصلاح الإدارة. لكنّهم وُضعوا في مواجهة مع التجار ومع داعميهم من السلطة الحاكمة فأجبروا على الاستقالة أو على الرضوخ للأمر الواقع. ومن هنا يمكن طرح السؤال التالي: كيف نستطيع الخروج من دوّامة العجز عن إجراء أي إصلاح؟ وهل بالإمكان أن يصل إلى الحكم أشخاص مثل إميل بيطار والياس سابا مع صلاحيات أوسع لتطبيق تغيير جذري؟
نشر هذا المقال في العدد 68 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان. احتكارات المحاصصة الشاملة