بتاريخ 22 آب 2017، صدر حكم عن المجلس التأديبي الاستئنافي للطائفة الأرثوذكسية في قضية بيدوفيليا يرجح أن تكون الأولى من نوعها داخل هذه الكنيسة. وكانت فصول هذه القضية بدأت حين قدم شقيقان لمطرانية جبل لبنان إخبارين ادّعيا فيهما تعرضهما في فترات مختلفة، وهما ما يزالان قاصرين، للتحرش من قبل أرشمندريت يرأس أحد الأديرة (نتحفظ عن ذكر اسمه). ورغم أن المحكمة عاقبت هذا الأخير بالنفي لسنتين وبتعليق رئاسته للدير لخمس سنوات، فإنها فعلت ذلك لمخالفته تعليماتها ولتجاوزه قواعد الحشمة بعدما برأته من فعل التحرّش بداعي الشكّ. وعند التدقيق في الحكم، يظهر جلياً أن المحكمة أسهمت، من خلال ضعف خبرتها في مجال البيدوفيليا، في تعزيز الشكوك بدل تبديدها في اتجاه أو في آخر، بعدما حجبت أو شوّهت وقائع جد مؤثرة في الدعوى المعروضة أمامها. ولعلّ أخطر ما ورد في سياق صناعة الشك هذه، هو تهجم المحكمة على الشقيقين واستهزاؤها بهما والجهات المؤيدة لدعواهما، وصولا إلى تظهير الادّعاء على أنه مجرد مؤامرة للنيل من المستقبل الكنسي للأرشمندريت. ومؤدّى ذلك، ليس فقط توجيه رسالة لأي متحرش داخل هذه الكنيسة بإمكانية إفلاته من العقاب، إنما أيضا وبشكل خاص، تخويف أي ضحية محتملة من الإفصاح عما تعرضت له وإرغامها تاليا على لزوم الصمت، تجنّبا لتهجم المحكمة عليها. ومن هذه الزاوية، بدا تمشي المحكمة بمثابة نموذج يُدرّس حول الأساليب المعتمدة لرد ادعاءات ضحايا البيدوفيليا.
وإذ تضمن الحكم بندا يمنع نشر مضمونه كليا أو جزئيا، سارعت جهات غير معروفة إلى نشره على صفحات الفايسبوك، علما أن المحكمة والمدعى عليه كانا الجهتين الوحيدتين اللتين تحوزان على الحكم. وما أن نشر الحكم، حتى انطلقت حملات تشهير بالشقيقين، اللذين اعتُبرا سيئي النية ومتآمرين ضد الكنيسة الأرثوذكسية. وعليه، وتبعا لحصول خطأ في تسريب الحكم، لم يعد من الممكن التعامل معه على أن محتواه سري، إذ من شأن ذلك أن يؤدّي إلى إبقاء الممارسات القضائية في التعاطي مع قضايا البيدوفيليا، بما فيها من اشكالات، قائمة وعمليا إلى حرمان ضحايا التحرش من امكانية اللجوء إلى القضاء. هذا مع العلم أننا احتراما للشقيقين وللجهة المدعى عليها، ننشر من الحكم الأجزاء الضرورية منه لنقد الجوانب السلبية فيه، وذلك بحدود الضرورة ومن دون أي تجاوز.
هدم مصداقية مدّعي التحرش: جلاد بلباس ضحية
في هذا الصدد، استهلّت المحكمة تحليلها من خلال استعادة أقوال الشقيقين المدونة في المراحل المختلفة من القضية، ساعية جاهدا إلى استخراج أي اختلاف أو أمر غير منطقي يحتمل أن يكون ظهر فيها. ويشار إلى أن الشابين كانا حررا إخبارا أودع لدى مطرانية جبل لبنان وكان سببا في انطلاق القضية، كما أدليا بإفادتين، واحدة أمام المجلس التأديبي الابتدائي والثانية أمام المجلس التأديبي الاستئنافي. وسنعطي هنا عددا من الأمثلة عن كيفية عمل المحكمة في هذا السياق:
المثال الأول، اتصل بعدد المرات التي أدلى الشقيقان بتعرضهما فيها للتحرش. فقد رأت المحكمة أن الشقيق الأصغر ذكر حادثتين فقط في الإخبار وسبع مرات في الإفادة أمام المرجع الابتدائي، فيما أنه أدلى بأنه صعد خمس مرات إلى الدير. وقد خلصت المحكمة تبعا لذلك إلى القول بأن ثمة تباينا واضحا في أقواله لجهة عدد المرات التي تعرض فيها لما أسماه تحرّشا، مما يوحي بعدم دقة إفادته وأقواله، الأمر الذي يقتضي أخذه بعين الاعتبار عند الحكم بحصول تحرش أو عدمه. ويلحظ أنها خلصت إلى هذه النتيجة من دون أن تسأل الشاب عن تفسيره لما رأته اختلافا ومن دون القيام بأي جهد فكري للتأكد فيما إذا كان هنالك أي تفسير منطقي محتمل له. فألا يمكن مثلا لمن ذهب خمس مرات إلى الدير أن يتعرض للتحرش فيه سبع مرات، بمعدل أكثر من تحرش في كل زيارة؟ ثم ألا يمكن أن تكون إفادته الأولى اقتصرت عما رآه أفعال التحرش الأخطر؟ التعامل نفسه لقيته إفادات الشقيق الأكبر. فرغم أنه صرح في جميع إفاداته أنه تعرض للتحرش في 2003 في منزل الأرشمندريت وبشكل لا لبس فيه، فإن المحكمة تمسكت باختلاف ورد في المحاضر الممسوكة منها لتستخرج اختلافا بين أقواله أمامها وأقواله السابقة. فهي رأت أن تصريحه أمامها بأن ما حصل في 2003 كان أول تحرش، يتناقض مع أقواله السابقة حيث صرح أنه تعرض منذ تم اختياره ابنا روحيا وهو في الحادية عشرة من عمره لأنواع عدة من المداعبة والتدليك والتحرش،.لتخلص إلى اعتبار أقواله مجردة من كل صدقية لكونها مشوشة ومتناقضة. وكل ذلك بالطبع دون استيضاحه عن أسباب ما اعتبرته تناقضا في الأقوال.
أما المثال الثاني الذي استخرجته المحكمة، فقد اتصل باختلاف إفادات الشقيق الأصغر حول وجود أشخاص آخرين معرضين للتحرش. فهذا الأخير صرّح في الإخبار بعدم معرفته لأشخاص تعرضوا للتحرش، ليعود ويصرح أمام المرجع الابتدائي أنه عرف من أخيه أن هنالك أشخاصا غيره وقعوا لاحقا في المشكلة نفسها وإن كان لا يعرفهم. تبعا لذلك، تساءلت المحكمة كيف له أن يدعي عدم معرفته لضحايا آخرين فيما أن شقيقه يدعّي أنه ضحية؟ وقد رأت المحكمة ذلك كافيا للقول بأن “ثمة ظلالا كثيفة من الشك” ليس فقط حول أقواله… بل أيضا حول أقوال شقيقه. ولم تكتفِ المحكمة بهذا الحدّ، بل أعابت عليه أن يتبنّى المعلومات التي استقاها من شقيقه معتبرة أنه بذلك “أضاف إلى إفادته أخبارا غير مؤكدة سمعها بالتواتر واستعملها لكي يثبت ويدعم مصداقية إفادته وأقواله من خلال تعميم فعل التحرّش” المدعى به، منكرة عليه حق اعتبار شقيقه مصدرا موثوقا. وأخطر ما ذهبت إليه المحكمة في هذا المحلّ هو أنها استخدمت ما رأته اختلافا في أقوال الشقيق الأصغر لإهمال مجمل الأدلة حول حصول تحرشات أخرى، بما فيها الإفادات الموثقة أمام المرجع الابتدائي لعدد من الأشخاص المعروفين بأسمائهم، منهم من ضحايا التحرّش ومنهم من الشهود عليه. فكأنما يكفي لدحض حصول تحرشات أخرى، أن يتأخر المدعي (القاصر آنذاك) في الإدلاء أو حتى أخذ العلم بها أو أن يكون لا يعرف المتحرش بهم شخصيا. وقد بدت المحكمة بذلك كأنها تؤسس “حقيقتها القضائية” ليس على ما تثبته أو تدحضه من وقائع، إنما على فرضيات منطقية مجردة. الأمر نفسه نستشفه في حيثية أخرى للمحكمة استندت فيها على فرضية أخرى قوامها “وجود جهات منظمة قامت بشن حملة مدروسة وعنيفة هدفها تشويه سمعة الارشمندريت … من دون التمحيص في دقة الأفعال المنسوبة إليه، فكانت زيادة بعدد الضحايا للتأكيد في اللاوعي الجماعي أنه تحرّش فعلا بعدد كبير من القاصرين وأنه ممعن في تصرّف مستمر ومتكرر”. ويلحظ أن المحكمة افترضت أن هذه الجهات لم تمحص في دقة الأفعال المنسوبة إلى الأرشمندريت فسارعت إلى اتهامه، فيما أن الثابت هو أنها (أي المحكمة المختصة في التمحيص بالوقائع) لم تجرِ أي تمحيص في هذه الأفعال لتسارع إلى تبرئته. وتبعا لهاتين الفرضيتين، قررت المحكمة صرف النظر عن الاستماع إلى الضحايا الآخرين الذين أدلوا بإفادتهم في المرحلة الابتدائية وإهمال الاتهامات المساقة بوجود ضحايا عديدين لأنها برأيها كناية عن أقوال يتم تناقلها من شخص إلى آخر، معتبرة أنها غير ثابتة بالقرائن المادية ومن دون أي دليل جدّي.
أما المثال الثالث، وهو الأخطر والأكثر دلالة على موقف المحكمة المسبق من ضحايا التحرش، فقد تمثل في دحض أقوال الشقيق الأصغر على خلفية افتقادها للمنطق السليم. فبعدما سجلت أنه كان يبلغ في فترة التحرش المدعى به أربع عشرة سنة وأنه كان يمارس العادة السرية ويعرف النشوة وبأنه استمر بالصعود إلى الدير والانفراد مع الأرشمندريت طوال سبعة أشهر، اعتبرت قوله بأنه لم يكن يفهم ما يحصل معه وأنه لم يكن قادرا على تجنب حصول التحرش، بأنه في غير موقعه المنطقي وأنه يفتقد إلى المصداقية. وهي بذلك بدت وكأنها اعتبرت بلوغ الطفل قرينة لإثبات إدراكه الأفعال الجنسية وتاليا قدرته على صدّ التحرش، وهي قرينة لا تقبل الدحض وفق المحكمة بحيث أن أي قول يعاكسها يعدّ غير منطقي ولا يحتمل التصديق. وبهذا الموقف، بدت المحكمة وكأنها تستعيد الحجج المسهلة عموما للبيدوفيليا والتي تجعل الطفل مسؤولا عن التحرش به، من دون أي مراعاة لوضعه ومدى قدرته على إدراك الواقع أو التحكم به، وخاصة في ظل ارتكاب التحرش من شخص يتمتع بسلطة روحية. وهي بذلك لم تخالف فقط أصول المنطق السليم ولكن أيضا الأحكام القانونية التي تعدّ أي مجامعة مع طفل دون الخامسة عشرة، بمثابة اغتصاب، من دون أي تمييز بين المجامعة الحاصلة برضاه أو من دونه.
هذه هي أبرز الحيثيات التي انطلقت منها المحكمة لهدم مصداقية الشقيقين. والمشترك فيما بينها هو الأمور الآتية:
- أنها ارتكزت على تحليل إفاداتهم ومقارعتها بعضها ببعض أو بما تعده المنطق السليم،
- أن المحكمة اعتبرت أن أي تناقض في أقوالهما يعني بالضرورة سوء نية، من دون أي اعتبار للعوامل الكثيرة التي قد تقود إليه، ومنها مرور سنوات عديدة أو السن أو العوامل النفسية الناجمة عن الأبوة الروحية للمعتدي أو عن خطورة الاعتداء الجنسي عليهما وهما لما يزالان قاصرين. وخير دليل على ذلك هو أنها أهملت التقرير الصادر عن طبيب نفسي تم تعيينه من قبل المرجع الابتدائي لفحص الشقيق الأصغر والذي أثبت مصداقيته، من دون أن تلجأ إلى أي خبرة نفسية جديدة. وقد بدت المحكمة بذلك وكأنها تعمل بجهالة تامة لما قد يختلج ضحايا التحرش من مشاعر وبتعارض تام مع خلاصات الخبير النفسي الذي عاين الضحية،
- أن المحكمة استخرجت ما أسمته تناقضات من دون أن تجد أي سبب لدعوة الشقيقين إلى تفسيرها أو توضيحها، وهي خطوة تعتبر من الشروط المنهجية الضرورية في أي تقييم للمصداقية.
وتجدر الإشارة أخيرا في هذا السياق أن المحكمة ذهبت أبعد من ذلك في اتجاه افتراض انخراط الشقيقين في مؤامرة ضد الأرشمندريت، تقوم بها مجموعات “ضمن حملات ممنهجة مطلقة الأحكام المسبقة والقطعية لكسب رأي عام ينساق بصورة عفوية مدافعا عن شخص أعطِيَ صورة الضحية بهدف تحويل الرأي العام إلى جلاد (العبارة مستخدمة من المحكمة) لا يعرف المنطق ولا يفهم معنى الرحمة”. وبذلك، تكون المحكمة بدأت في تقويض مصداقية الشقيقين لتنتهي إلى تحويلهما من ضحيتي تحرش إلى جلاديْن لا يفهمان معنى الرحمة. وهذا ما سنعود إليه أدناه.
اليقين ليس من هذا العالم
ليس نادرا أن تردّ دعاوى تحرش بداعي الشك. فأفعال التحرش تحصل عادة في أماكن مغلقة وبمنأى عن أي شاهد، وقلما تترك أثرا ظاهرا للعيان. وانطلاقا من ذلك، غالبا ما تعمل المحاكم على تطوير أدوات عملها في جمع أدلة مختلفة تكوّن من خلال اجتماعها قناعة (يقين) المحكمة. إلا أن مراجعة حيثيات الحكم تظهر في هذه القضية مقاربة خاصة للمحكمة لمفهومي الشك واليقين. فاليقين في حصول تحرش لا يتحقق وفق ما نستشفه من حكمها من وجود إثباتات أو أدلة قوية وحسب، إنما يفترض أيضا انعدام أي احتمال، مهما كان ضعيفا، يؤشر إلى عدم حصوله. وهذا التشدد في تعريف اليقين أو فهمه إنما يقارب القول بأن اليقين بحصول تحرش ليس من هذا العالم. وما يفاقم من خطورة هذا التوجه هو أن المحكمة لم تجد مانعا في التخلي عن أي مسعى لتبديد الشكوك التي تعتريها أو لتدعيم الأدلة التي بحوزتها، وكأنها تحدّ دورها في طرح الأسئلة من دون أي مسعى للبحث عن أجوبة لها. ومن أهم المؤشرات على ذلك، الآتية:
- أن المحكمة نسفت أدلة جدّ قوية على معرفة الشقيق الأصغر بدقائق جسد الأرشمنديت وتاليا على تعري هذا الأخير أمامه. ففيما دوّن الشاب المدعي عند استجوابه من قبل المحكمة وبناء على طلبها، أهمّ العلامات الفارقة في جسد الأرشمندريت، ومنها أن لديه ندبا وأنه غير مختون مع وصف لرجليه وقدميه، جردت المحكمة هذه الأدلة من أي قوة ثبوتية انطلاقا من احتمالات افتراضية ضعيفة، بقيت عارية عن أي إثبات. فأن يعلم بوجود ندب في جسده لا يتأتى بالضرورة عن رؤيته عاريا، بل عن أن كثيرين علموا حسب الأرشمنديت بخضوعه لعملية فتاق في 2006 (أي حين كان الشاب في السابعة من عمره)! وأن يعلم بأنه غير مختون، فذلك لا يعني بالضرورة أنه رآه عاريا، بل أن ذلك يتأتى عن معرفة بالعادات القديمة حيث كان عدم ختان الذكور أكثر من ختانهم! وأن يعطي تفاصيل وافية عن قدميه ورجليه، فذلك يعود إلى أن أشخاصا عدة كانوا يدلكون، حسب الأرشمنديت، رجليه وقدميه في صالون الدير بالزيت! وبالطبع ما كان للمحكمة أن تقول ذلك لو لم تفترض مسبقا سوء النية لدى الشقيق الأصغر.
- رغم أن المحكمة رأت أن ثمة مؤشرات تلقي ظلالا كثيفة من الشكوك على قيام الأرشمنديت بالتحرش، منها قيامه بعمليات احتضان وتقبيل “ودلع”، وتدليك جسد الشقيق الأكبر في سريره الخاص بزيت جونسون، (وهي أفعال حملتها على معاقبة الأرشمندريت لتجاوزها القواعد الكنسية)، فإنها سارعت إلى إعلان يقينها القوي (العبارة من استخدام المحكمة) بأن هذه المؤشرات لا تشكل تحرشا. وقد استدلت على ذلك من تناقض إفادات الشقيق الأكبر لجهة عدد المرات التي تعرض فيها للتحرش ومن عدم تنبيهه شقيقه الأصغر من خطورة الاقتراب من الأرشمندريت، وبالأخص من تحركه بناء على تحريض جماعات لها أهدافها في تدمير سمعة الأرشمندريت،
- أن المحكمة تخلت بناء على طلب الأرشمنديت والنائب العام لديها عن الاستماع إلى إفادات الضحايا والشهود الذين أثبتوا تعرضهم للتحرش أمام المرجع الابتدائي. فبدت وكأنها لا تجد حرجا في حجب الأدلة. وهذا التوجه إنما يتعارض مع أسس البحث عن الحقائق، حيث يفترض أي بحث من هذا النوع عند وجود أي شك، إجراء ما أمكن من أعمال التقصي وصولا إلى تبديد الشكوك في اتجاه أو آخر. أما أن ترفض المحكمة الاستماع إلى شهود معروفين في أسمائهم وعناوينهم رغم إقرارها بوجود شكوك قوية، فهذا يعني أنها ترتاح إلى الشك أكثر مما تتطلع إلى الحقيقة. وهذا سبب آخر لمنع بلوغ اليقين في عالم هذه المحكمة.
نظرية المؤامرة لدحض الشهادات المؤيدة وعزل الضحية
العنصر الثالث المستخدم في صناعة الشك، هو تبني المحكمة نظرية المؤامرة والتي كان تذرع بها الأرشمنديت وأتباعه، من دون أي تردد. فتماما كما يحصل عند اتهام أي مسؤول بجرم، سرعان ما يشهر فريق الدفاع عنه فرضية وجود حملة افتراء منظمة للنيل من شخصه أو من مستقبله (السياسي أو الكنسي…). وأن يفعل الأرشمنديت ذلك أمر مألوف، أما أن تتبنى المحكمة بثقة كبيرة وبيقين قوي هذه الفرضية لتجعلها معيارا لدحض مصداقية الأدلة المقدمة منها أو للتخلي عن مزيد من البحث أو التقصي، فذلك أمر خطير، يؤدي لتهميش معاناة الضحايا المحتملة ودوسها في ألعاب الكبار، ويمهد لانخراط المحكمة في لعبة السياسة على حساب دورها في البحث عن الحقيقة. وهذا ما نقرؤه بوضوح كلي في حيثيات الحكم التي أعابت على جماعات مكوّنة من أشخاص علمانيين واكليريكيين ثلاثة أمور:
- أنها استغلّت “من اعتبرتهم ضعفاء وجعلت منهم سلما تدوسه وترتقي عليه بهدف بلوغ مصالحها الخاصة والمشبوهة”، وقد استكملت هذا القول بقول آخر مفاده أن هذه الجماعات عملت على الدفاع “عن شخص أُعطيَ صورة الضحية”،
- أنها حرّضت “المسؤولين الكنسيين لاتخاذ إجراءات صارمة بحق الأرشمندريت”،
- أنها اعتمدت “منحى تشهيريا … عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر استدعاء بعض الجمعيات المدنية لاستعمالها كمنصات تساهم في تدمير سمعة الأرشمندريت … (بهدف) جعل الموضوع قضية رأي عام يصدر الحكم القاطع بالتجريم حتى قبل المحاكمة لا بل من دونها”، مصورة “البحث عن الحقيقة من خلال المحاكمة العادلة كأنه تستّر عن الجرم لا بل مشاركة فيه”. وقد ذهبت المحكمة أبعد من ذلك تحسبا لأي نقد قد يوجه إليها في حال عدم الحكم على الأرشمنديت بالتحرش (كما نفعل الآن ربما)، حيث جاء في الحكم أن لهذه المجموعات مخططات لتهديد الرئاسة الروحية التأديبية بحملة مماثلة من التشهير إن هي اتخذت من القضية المعروضة عليها موقفا غير متوافق مع أهدافه(ا) إضافة إلى الضغط عليها باتجاه يؤدي إلى عدم حيادية القضاء وتطويعه باتجاه أو بآخر لمصالح وطموحات خاصة، مما يحول دون إحقاق الحق بعدل ورحمة”. وبذلك، بدت المحكمة وكأنها تتعامل مع المؤامرة ليس على أنها تهدف للنيل من سمعة الأرشمندريت وحسب بل من سمعة المحكمة الكنسية والكنيسة برمتها، مما يفرض عليها مكافحتها.
وما أنهت المحكمة وصفها لعناصر هذه المؤامرة حتى نسفت بصورة عامة مجمل الأدلة والبراهين والحجج الواردة في الملف الابتدائي والمتصلة بأعمال تحرش بأشخاص آخرين، “لكونها كلها مغرضة وغير حيادية لا بل لكونها كاذبة وهادفة إلى التشويش وإثارة الشقاق والنعرات والتحزبات في الجسم الكنسي الواحد”. وفي الاتجاه نفسه، استخدمت المحكمة نظرية المؤامرة لنسف ما تبقى قائما من أقوال الشقيقين بعدما اعتبرتهما جزءا منها. وهذا ما نقرؤه بوضوح في المقطع الذي ذهبت فيه المحكمة إلى نسف أقوال الشقيق الأكبر الذي “لم يستطع أن يقنع المجلس بصفته تلك لأنه يتحرّك بناء على تحريض من جماعات لها أهدافها الخاصة في تدمير سمعة (الأرشمنديت) لإقصائه عن أي دور كنسي محتمل”. وبالواقع، وبمعزل عن نوايا المحكمة، فإن لتوجهها على هذا النحو نتائج تتجاوز هذه القضية، مؤداها تهديد الضحايا من مغبة تحويل قضاياهم الخاصة إلى قضايا عامة (كما حصل في الكنيسة الكاثوليكية وأسهم في إصلاحها) وعمليا حرمانهم من أي تضامن معهم سواء تم من داخل الكنيسة أو من خارجها. فأي مسعى في هذا الاتجاه قد ينعكس سلبا على قضاياهم ويفقدهم استعداد المحكمة للاستماع جديا إلى معاناتهم. بكلام آخر، يضع الحكم ضحايا التحرش المحتملين أمام خيار من اثنين: إما أن يلزموا الصمت والعزلة، فيسلموا أمرهم للكنيسة التي تبقى صاحبة القرار في اختيار الوقت المناسب لمحاسبة أعضائها أو إصلاح شؤونها من دون أي ضغط، وإما أن يحولوا قضيتهم إلى قضية عامة فتتنكر لهم الكنيسة… ولو إلى حين.
نشر هذا المقال في العدد | 52|كانون الأول 2017، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :
“قوانين الطوائف في مغازل النساء”