صدر بتاريخ 3/12/2014 حكم عن مجلس العمل التحكيمي في طرابلس برئاسة القاضي منير سليمان، ألزم صاحبة العمل بتسديد أجور مستحقة عن ثلاث سنوات عمل عائدة للعاملة في الخدمة المنزلية (المدعية)، بالإضافة الى تعويض شهر إنذار. وقد استند المجلس لهذه الغاية الى المادة 656 من قانون الموجبات والعقود، تبعاً لاستثناء عاملات المنازل من قانون العمل[1]. وكانت العاملة قد عملت خلال الفترة الممتدة من 1998 الى 2001 لدى المدعى عليها التي تمنعت عن تسديدها أي أجر محتفظة بأوراقها الثبوتية. وبذلك، حصلت المدعية بعد ست عشرة سنة من بدء عملها وبعد ثلاث عشرة سنة من ترك عملها وبعد إحدى عشرة سنة من ترحيلها وسبع سنوات من تقديم دعواها أمام المجلس على حكم ابتدائي بإقرار حقها بأجورها الزهيدة التي لم تتقاض حتى اللحظة أي قرش منها. تجدر الإشارة الى أن العاملة كانت قد ادعت من قبل على صاحبة العمل بجرم إساءة الأمانة، أمام القاضي المنفرد الجزائي في أميون، فنالت حكماً سرعان ما فسخته محكمة الاستئناف في الشمال في 30/11/2006، بحجة أن طبيعة النزاع بين الطرفين هو مدني ناشئ عن عقد العمل وليس جزائياً[2]. وبذلك، نفهم أن وكلاء المدعية لم يلجأوا الى المجلس التحكيمي إلا بعدما خاب مسعاهم أمام القضاء الجزائي، وهذا ما يفسر تأخرهم في اللجوء الى هذا المجلس. ويستدعي هذا الحكم ملاحظات عدة، أبرزها الآتية:
الأول، أنه يشكل إثباتاً جديداً على خطورة المخالفات المرتكبة بحق عاملات منزليات:
يظهر من الحكم مجموعة من المخالفات الكبرى المرتكبة بحق العاملة.
فعلى صعيد تسديد الأجور، تبين للمجلس أن العاملة لم تتقاض أي أجر على مدى ثلاث سنوات من عملها لدى المدعى عليها. وكانت هذه الأخيرة قد حاولت نقض الادعاء من خلال قولها بأنه ليس للعاملة أي دليل على عدم قبضها أجورها، ساعية من خلال ذلك الى نقض عبء الإثبات الذي يقع مبدئياً على الذي يدّعي القيام بواجبه (تسديد الأجر). وقد زعمت في هذا الإطار أنها كانت تسدد أجور العاملة من خلال حوالات مصرفية الى عائلتها. لكن هذه الحجة سقطت حين عجزت عن التصريح عن اسم المصرف كما تمنعت عن إبراز أي من الإيصالات “متذرعة بعامل الوقت والنسيان، علماً أن المطالبة بالأجور من قبل المدعية والنزاعات بشأنها استهلت بعد أقل من شهرين على ترك المدعية لمنزل المدعى عليها أي بعد أقل من ثلاثة أشهر على دفع آخر أجر مفترض لها”[3].
كما ظهر من تحقيقات وزارة العمل أن صاحبة العمل لم تكن تسمح للعاملة بالخروج من المنزل. وفي الاتجاه نفسه، ظهر أنها كانت تحتفظ بأوراقها الثبوتية فلم تسلمها إياها إلا بعدما تأكد تسفيرها وترحيلها من قبل الأمن العام بعد القبض عليها بعد سنتين من تركها العمل.
وعليه، يظهر أن العاملة قد عملت سخرة طوال ثلاث سنوات، من دون أن يسمح لها بالخروج من المنزل أو حتى بالاحتفاظ بأوراقها الثبوتية. وأنها حين خرجت من المنزل “هرباً”، عدّت بحكم الفارّة، فتم توقيفها (لم يشر الحكم الى مدة التوقيف) وترحيلها من دون أن تستوفي أي قرش عن سنوات عملها الطويلة.
وفي هذا الإطار، وإذ تثبّت المجلس من عدم تسديد الأجور (وهو الأمر الذي يدخل مباشرة ضمن اختصاصاته في هذه الدعوى)، فإنه أشار عرضاً الى احتمال وجود “أمور(ا) أخرى على درجة من الخطورة .. لا تدخل ضمن إطار الدعوى الراهنة باستثناء هذه الأخيرة”. ومن المرجح أن يكون الحكم قد قصد توفر مفهوم العمل القسري الذي هو شكل من أشكال الإتجار بالبشر كما عرفته الفقرة الأولى من المادة 586 من قانون العقوبات المعدلة عام 2011.وبالطبع، كان بإمكان المجلس إحالة الملف للنيابة العامة لو كانت الأفعال المذكورة قد حصلت بعد إقرار قانون جرائم الإتجار بالبشر ولم يكن مر الزمن عليها.
الثاني، أنه يكشف عن محدودية الحماية القضائية والقانونية للعاملة:
تظهر محدودية الحماية القضائية والقانونية من خلال أمور عدة.
فنلحظ بداية أن العاملة لم تبادر الى أي خطوة قضائية من أي نوع كان، خلال فترة عملها، لوجود استحالة عملية للقيام بذلك، في ظل منعها من الخروج من المنزل. كما نلحظ أنها لم تقم بذلك حتى بعد تركها العمل بل اكتفت بتوجيه إنذار بوجوب تسديدها أجورها وأنها لم تباشر الادعاء إلا بعد القبض عليها بعد سنتين من تركها العمل. ومرد ذلك هو طبعاً هشاشة وضعها بعدما جعلها نظام الكفالة في وضع الخارجة عن القانون والفاقدة لحق الإقامة في لبنان فور تركها العمل، ما يجعل أي ادعاء من قبلها بمثابة تسليم لذاتها. وبذلك، شكلت هذه القضية دليلاً إضافياً على ما أسميناه صناعة المحاكمة الغيابية[4]، أي أن العاملة لا تباشر ادعاءها، مهما بلغ حجم المظالم ضدها، إلا بعد ترحيلها.
الأمر الثاني المعبر عن محدودية الحماية القانونية، تمثل في رد دعواها الجزائية بعد ثلاث سنوات من تقديمها، وذلك حين فسخت محكمة استئناف الشمال الحكم الصادر لمصلحتها بعدّ صاحب العمل مرتكباً جرم إساءة الأمانة بحقها. وكان بعض المحامين، وفي مقدمهم رولان طوق، قد سعوا الى تكييف عدم تسديد الأجر بإساءة أمانة، لإحاطة العاملة بضمانة تحصيل حقها بفعالية وسريعاً.
الأمر الثالث، تمثل في بطء مجلس العمل التحكيمية، وتحديداً في هيئاته السابقة وربما ما كان الحكم يصدر لولا تغير رئيسه. وما يثير الانتباه في قضيتنا هذه، هو مرور ما يعادل عاماً كاملاً بين كل إجراء وآخر منذ تاريخ تقديم الدعوى أمام المجلس. فعلى سبيل المثال، وردت أول لائحة جوابية من صاحبة العمل، المدعى عليها، بعد سنة على تقديم استحضار الدعوى. وعام كامل آخر مر بعد تقديم اللائحة الجوابية الأولى وجلسة التحقيق المنعقدة في وزارة العمل. وتتبعها سنة أخرى بين جلسة التحقيق وصدور مطالعة مفوض الحكومة، لتلحقها سنة إضافية من الانتظار قبل دعوة المجلس الفرقاء لجلسة استجواب. وأخيراً وبتاريخ 6/3/2013 صدر عن المجلس قرار قضى “بتكليف المدعية بإبراز التحقيقات الجارية معها في وزارة العمل، في حال وجودها، وتلك التي تمت من قبل الأمن العام”. ويلحظ بالمقابل مسارعة القاضي منير سليمان، بعد استلامه مهام رئاسة المجلس، خلال أول جلسة له في هذه القضية، الى اختتام المحاكمة بتاريخ 5/11/2014 ليصدر حكمه بعد أقل من شهر من ذلك التاريخ. في القضية بتاريخ 3/12/2014 خاصة في ظل انتفاء الحاجة الى المزيد من المماطلة أو أي تفصيل إضافي. وقد كان من اللافت في الحكم تأكيد المجلس في هيئته الجديدة على اختصاصه للنظر في هذه القضية رغم استثناء عاملات المنازل من حماية قانون العمل. فـ”لا يكون اختصاص مجلس العمل التحكيمي محصوراً بتطبيق أحكام قانون العمل، أقله لناحية إعطاء الوصف الصحيح للعقد، بل يشمل النزاعات بين الأجراء وأصحاب العمل الناجمة عن تطبيق عقد العمل. وبالتالي فإن معيار هذا الاختصاص هو طبيعة العقد وليس القانون الواجب التطبيق“.
الثالث، أنه يكشف عن دور سلبي لمفوض الحكومة ووزارة العمل في ضمان حقوق الأجراء:
من خلال قراءة ملف الدعوى، كان من اللافت جداً أن تأتي مطالعة مفوض الحكومة مساندة لإدلاءات صاحبة العمل لجهة عدم اختصاص هذا المجلس بالنظر في القضية المطروحة أمامه وذلك سنداً لأحكام المادة 7 من قانون العمل التي تستثني العمال في الخدمة المنزلية من الاستفادة من أحكام قانون العمل. ويكون مفوض الحكومة، بمطالعته هذه، قد أوصى بحجب حق العاملة بالتقاضي والمطالبة بحقوقها، بعدما كانت محكمة استئناف الشمال قد توصلت الى إلغاء حقها في المداعاة جزائياً بعد سنوات عدة من المداعاة كما سبق بيانه. وعليه، الجدير بالذكر أن هذه القضية ليست القضية الوحيدة التي يظهر فيها انحياز مفوض الحكومة لمصالح أصحاب العمل انحيازاً فاقعاً، من شأنه أن يؤدي الى حجب حق العامل بالتقاضي. ففي قضية أخرى[5]أيضاً مرتبطة بعدم تسديد أجور عاملة في الخدمة المنزلية، اعتبر مفوض الحكومة أن مسؤولية الفسخ تقع على عاتق العاملة التي “فرّت” من منزل صاحب العمل رغم أن هذا الأخير كان قد امتنع عن تسديدها أجوراً لأشهر عدة.
ورغم أن المجلس رفض فحوى هذه المطالعة من خلال حيثيات مبدئية كما سبق بيانه، فإن من شأن وجود مطالعة أن يطرح إشكالية الدور المرتقب من مفوضي الحكومة لدى مجالس العمل التحكيمية. فما هي الوظيفة المرتقبة منهم؟ وما هي المبادئ التي يقتضي بهم التقيد بها في إطار القيام بهذه الوظيفة؟
بقي أن نشير الى أن هذه القضية تثبت أيضاً إمكانية تفعيل مجالس العمل التحكيمية عند تعيين قضاة كفوئين، علها تخرج من ركودها الذي غالباً ما يصل الى درجات من البطء لا تتناسب إطلاقاً لا مع موضوع الدعوى ولا مع التزام الدولة بتأمين حماية فعالة وسريعة لحقوق الأجراء.
نشر هذا المقال في العدد | 24 |كانون الثاني /يناير/ 2015 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
حق المعرفة لألشخاص المٌتبنّين
[1]سارة ونسا، المفكرة تدشن مرصدا لقضايا عاملات المنازل امام القضاء: العاملات أمام مجالس العمل التحكيمية في بيروت وبعبدا، المفكرة القانونية، العدد 9، أيار 2013.
[2]تراجع بهذا الصدد المقابلة التي أجرتها المفكرة القانونية
مع الأستاذ رولان طوق، منشور على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية في 13-8-2013.
[3]العبارات بين القوسين وردت في متن الحكم.
[4]سارة ونسا، عاملات المنازل، النيابة العامة والامن العام: هكذا تنظم المحاكمة الغيابية، المفكرة القانونية، العدد 12،كانون اول 2013
[5]سارة ونسا، المفكرة تدشن مرصدا لقضايا، مذكور اعلاه