حكم قضائي لصالح جرحى الثورة: القانون حين يحمي الضعفاء في مواجهة تخلي الدولة عن وظيفتها


2013-02-01    |   

حكم قضائي لصالح جرحى الثورة: القانون حين يحمي الضعفاء في مواجهة تخلي الدولة عن وظيفتها

في تاريخ 17 – 3 – 2012، أصدر الرئيس التوافقي في اليمن عبدربه منصور هادي القرار الجمهوري رقم 8 لسنة 2012 بشأن ضحايا حركة الاحتجاجات السلمية التي شهدتها البلاد خلال عام 2011، ونص مضمون القرار الذي صدر في الذكرى السنوية الأولى لما عرف في اليمن بمجزرة الكرامة التي سقط فيها أكثر من 40 شهيداً أثناء ذروة الاحتجاجات على حكم الرئيس اليمني السابق على (اعتبار كل المدنيين الذين سقطوا عام 2011 بسبب الاحتجاجات السلمية شهداء الوطن)[1]. وكان هذا القرار أول اعتراف قانوني من قبل صيغة الحكم الجديدة التي أنتجتها المبادرة الخليجية في اليمن بأن ضحايا الحركة الاحتجاجية السلمية هم (شهداء الوطن). كما رتب ذات القرار التزاماً صريحاً على الدولة بالتكفل بعلاج الجرحى (على الحكومة توفير الرعاية الصحية للمصابين ومعالجتهم في الداخل أو الخارج بحسب طبيعة الإصابة)[2]، علاوة على اعتماد راتب جندي لكل شهيد ومعاق بسبب الثورة، وانشاء صندوق لرعاية شهداء وجرحى الثورة الشعبية السلمية.
وقد شكل هذا القرار الجمهوري قاعدة للتحرك القانوني الذي قام به عدد من جرحى الثورة الذين انتظروا لأكثر من عام. وفيما كانت هناك العديد من الحالات الصحية لعدد منهم تتدهور، كان الجدل يزداد حول الاهمال اللانساني لهم، وحول الاستثمار السياسي لمعاناة الجرحى من قبل أطراف سياسية بعينها، تقوم بتبني علاج بعض الجرحى الذين ينتمون إلى لون سياسي محدد[3]. تبنى قضية الجرحى بشكل أساسي النائب البرلماني المستقل والمعروف، وهو أحد القيادين الأساسين للحركة الاحتجاجية ضد نظام صالح، أحمد سيف حاشد. وبعد حصوله على توكيل قانوني من ععد من جرحى الثورة وبتعاون عدد من المحامين، تقدم بأول دعوى قضائية من نوعها في اليمن تطالب الحكومة بتبني علاج الجرحى والتكفل به التزاماً بالقرار الجمهوري بهذا الشأن.
وبالتأكيد، يمكن القول أن الحكم الصادر في تاريخ 14 – 11-  2012 عن المحكمة الإدارية الابتدائية في صنعاء يشكل أول حالة تدخل قانوني في مسار نزاع بين مؤسسات الدولة وعدد من ضحايا الحركة الاحتجاجية التي شهدتها الجمهورية اليمنية في العام 2011، ويُمكن التأكيد بأن الحكم الذي استجاب في نصه لـ 11 شخصا من جرحى "الثورة الشعبية" ضد الحكومة ممثلة برئاسة الوزراء، يُشكل حالة فريدة في القضاء اليمني الذي لم يسبق له أن أصدر أحكاما ضد هيئة رسمية رفيعة المستوى. وهو يشكل من هذه الزاوية مؤشرا على أهمية التداعيات التي أحدثها امتداد الربيع العربي إلى اليمن في وظيفة القانون التي كانت سابقا مؤسسات إنفاذه تحت السيطرة الكلية لجهاز الدولة التنفيذي.
وأكثر ما يلفت في الحكم، الذي أصدرته القاضية في المحكمة الادارية رغدة عبدالرحمن عبدالواحد وهي من القاضيات الاناث القلائل في جهاز القضاء اليمني الذي يتسم بكونه جهازا محافظا وذكوريا، الأسباب التي قادت القاضية الى اعلان اختصاص المحكمة. والشق الأول لهذه الأسباب يتعلق بالطابع المستعجل للقضية، حيث أن (القضاء المستعجل تظهر إليه الحاجة في الحالات التي تتعرض فيها حقوق المدعي لخطر محدق قد يؤدي إلى إلحاق الضرر به وهي حالات تستدعي الحصول على حماية عاجلة  قد لا تتحقق عادة عن طريق إتباع إجراءات التقاضي العادية)[4]، وقد استمد نص الحكم هذه الأولوية من زاوية تعرض المدعيين لخطر شديد (وقد أصبحوا عرضة للموت جراء الإصابات البالغة التي تعرضوا وبسبب الإهمال الذي لاقوه من قبل الجهات المعنية وهذا في حد ذاته يعد خطراً محدقا وضررا وشيكا يستدعي فرض الحماية المستعجلة)[5]. وبذلك، أكد الحكم على الاستحقاق الأصيل للحماية التي يوفرها القانون للفئات الضعيفة في مواجهة الدولة، بما يوجده هذا من فرق في وظيفة القانون التي كان ينظر اليه في اليمن باعتباره مُعطى تشريعيا مفرغا من المعنى ويوظف، لأسباب سياسية أو بسبب اكراهات القوة والنفوذ، لصالح مراكز القوى.
أما الشق الثاني من أسباب الحكم فهو يتصل بمسؤولية حكومة الوفاق الوطني، فهي قائمة من كونها جهة ادارية تخلت عن وظيفتها أو امتنعت عن القيام بها، بما يرتبه ذلك من مخالفة جسيمة تُرتب عليها المسؤولية (بناء على فكرة الخطأ المرفقي كما هو الحال في هذه القضية حيث أن المدعى عليها وبدلاً من تفعيل أحكام القانون وتطبيقه عملت على تعطيله ولم تمتثل لتنفيذ القرار الصادر عن رئيس الجمهورية مستغلة في ذلك سلطتها الوظيفية)[6].
ويمنح سياق تعاطي المحكمة الادارية مع الدعوى المرفوعة أمامها من قبل المدعين من جرحى الثورة اليمنية، تأكيدا على الحق القانوني المتوفر للأفراد في الاحتماء بالقانون لتصحيح الانحراف الواقع بوظائف السلطة في مواجهتهم ، أو لوقف تعرضهم لاضرار بالغه يرتبها عليهم اخلال السلطة بالقيام بواجباتها او امتناعها عن ادائها، (فالسلطة الإدارية هي سلطة قانونية لا يجوز للإدارة أن تتخذها وسيلة لمخالفة القانون وإهدار المشروعية والخروج عن الغاية التي استهدفها القانون عند تخويل الإدارة تلك السلطة)[7].
وخلال استعراض نص الحكم، يمكن التثبت من الاداء الرسمي السيء في مواجهة الدعوى المرفوعة حيث لم تقم الحكومة ببعث ممثل قانوني لها لحضور جلسات المحكمة التي استغرقت اربع جلسات، بدءا من الجلسة الاولى التي انعقدت بتاريخ 5 – 11 – 2012 وحتى جلسة النطق بالحكم التي انعقدت بتاريخ 14 – 11 – 2012. و(وحيث أن المحكمة قد سارت بإجراءاتها وذلك فيما يتعلق بإعلان المدعى عليها وفقاً للقانون إلا أنه قد تم رفض استلام الإعلان من قبل المدعى عليها وفقاً لما هو ثابت في ملف القضية وحرصاً من المحكمة على حق الدولة فإنه تم إعلان المدعى عليها بواسطة وزارة الشئون القانونية كونها  الممثل القانوني للدولة حسب ما هو ثابت في ملف القضية)[8]ومع استمرار عدم حضور ممثل قانوني عن الحكومة قامت المحكمة بتنصيب محام عنها واستكمال اجراءات المحاكمة وصولا إلى اصدار الحكم الذي أكد مسؤولية الدولة بالتكفل التام برعاية الجرحى وعلاجهم على نفقتها في أي مكان تستدعيه حالاتهم الصحية. لقد كان تحايل السلطات على أي دعاوي قضائية بالامتناع عن الحضور فيها عادة متبعة تستخدم لتعطيل السير فيها، وشكل الاداء الحاسم للقاضية رغدة المعطى الأساسي الذي منح سير هذه القضية وتيرة منضبطة تستجيب لطابعها المستعجل والانساني.
رغم صدور هذا الحكم القضائي الذي قضى ب(إلزام المدعى عليها بتنفيذ قرار رئيس الجمهورية رقم(8)لسنة2012 الفقرة(ج) بشأن ضحايا الاحتجاجات السلمية لسنة2011 وذلك بتوفير الرعاية الصحية للمصابين ومعالجتهم في الخارج بحسب طبيعة الإصابة والتقرير الطبي المرفق لكل حالة في مراكز  متخصصة على نفقة الدولة وذلك لما بيناه في الحيثيات)،[9]إلا أن الحكومة لم تلتزم بتنفيذه رغم تعهد رئيس الحكومة بذلك في لقائه مع بعض ممثلي الجرحى. وقد اضطر ذلك هيئة الدفاع ووكيل الجرحى إلى التقدم للمحكمة الادارية بطلب التنفيذ الجبري للقرار الصادر عنها، حيث قامت المحكمة بتوجيه (إعلان بالتنفيذ الجبري الى رئاسة الوزراء أبلغتها بموجبه بتوريد المبلغ المحكوم به بالإضافة الى التكاليف التقديرية لعلاج (9) حالات من الجرحى)[10]، وهو ما تكرر لخمس مرات قبل ان تقوم المحكمة باصدار (مذكرة الى محافظ البنك المركزي اليمني ألزمته بموجبها بتوريد الى خزينة المحكمة مبلغ وقدره(330000$) ثلاثمائة وثلاثين ألف دولار أمريكي و (440000) أربعمائة وأربعون ألف ريال و(5150000) خمسمائة وخمسة عشر ألف ريال التكاليف التقديرية لعلاج طالبي التنفيذ وأتعاب المحاماة وتكاليف الفحوصات الأولية، وذلك من حساب رئاسة الوزراء.. مالم فان المحكمة ستتخذ الإجراءات القانونية المنصوص عليها في المادة(489)مرافعات والمادة(165)عقوبات)[11].
مازالت حتى الآن هيئة الدفاع عن الجرحى تقوم بمتابعة الحكم القضائي والمذكرة التنفيذية له، لكن ايا يكن مآل القضية، فان مجمل الوقائع التي أنتجها انتصار المحكمة للضحايا في حركة الاحتجاجات السلمية في اليمن تشكل سياقا فريدا ينحاز فيه القضاء إلى المستضعفين، ضمن تحول مهم تبدو فيه المؤسسة القضائية لأول مره حساسه لوظيفة القانون الحقيقية، وما يفترض أن تنهض به نصوصه، والجهات القائمة على تفسيره والنطق باسمه وإنفاذه، من مسؤوليات في مواجهة سلطات تعودت الانصراف عنه والانحراف بوظيفتها خارج موجباته ونواهيه وروحه.



[1]الفقره (أ)، الماده (1)، قرار رئيس الجمهورية رقم 8 لسنة 2012 بشأن ضحايا الاحتجاجات السلمية،http://www.al-tagheer.com/news.php?id=41676
[2]الفقرة (ج)، الماده (1)، مصدر سابق
[3]بيان جبهة انقاذ الثورة بشأن اوضاع الجرحى http://harfsofian.com/print_wimg_news.php?id=7754
[4]نص الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية الابتدائية في صنعاء بشأن جرحى الثورة الشبابية الشعبية السلمية، بتاريخ 14- 11- 2012
[5]نص الحكم الصادر، مصدر سابق
[6]نص الحكم الصادر، مصدر سابق
[7]نص الحكم الصادر، مصدر سابق
[8]نص الحكم الصادر، مصدر سابق
[9]نص الحكم الصادر، مصدر سابق
[10]مؤتمر صحفي لهئية الدفاع عن جرحى الثورة الشعبية السلمية
[11]نص مذكرة تنفيذ الحكم رقم (70) الصادر من المحكمة الابتدائية في صنعاء إلى محافظ البنك المركزي اليمني.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، بلدان عربية أخرى



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني