بتاريخ اليوم، أصدرت القاضية فاطمة جوني (وهي القاضية المنفردة الجزائية في بيروت) قرارها في النزاع العالق بين الماردين: حزب القوات اللبنانية الذي يتمثل ب 15 نائبا في المجلس النيابي من جهة وشركة ال.بي.سي آي ومديرها بيار الضاهر الذي قد يكون أحد أبرز الإعلاميين على صعيد المنطقة العربية. يلحظ أن هذا النزاع كان بدأ فصولا في 2007 أي منذ قرابة 12 سنة وأنه يتصل بملكية شركة ال بي سي آي والشركات التابعة له، بحيث ادعى حزب القوات اللبنانية أن الضاهر أساء الأمانة الموكلة إليه بإدارة التلفزيون الذي كانت أسسته القوات ومولته بنظام الجباية المعتمد منها خلال الحرب، فعمد إلى الاستيلاء عليه والتنكر لملكيتها له. وقد انتهت القاضية جوني في حكمها إلى إبطال التعقبات بحق بيار الضاهر والشركات التابعة لمجموعته، وعمليا إلى رد دعوى القوات اللبنانية.
وبمطالعة سريعة للحكم المكوّن من 112 صفحة، بدا أنه لم ينحصر في وقائع النزاع بين هذين الغريمين (الماردين) إنما ذهب أبعد من ذلك في اتجاه فتح صفحات منسية من اقتصاد الحرب ومخلفاتها، والعمل على قراءتها بمقاربة مغايرة، تشكل بحد ذاتها انعطافة عما هو قائم. وهو من هذا المنطلق شكل علامة فارقة في التعامل مع إرث الحرب ومخلفاته، ويستحق من هذه الزاوية مناقشة مضمونه وأبعاده بما يتجاوز حدود المصالح وردود الأفعال المتشنجة.
وإذ نأسف إزاء بعض التعليقات التي تناولته من زاوية ضيقة حيث ذهب البعض إلى مقارنته بالأحكام الصادرة ضد القوات اللبنانية في زمن الوصاية السورية، يهمنا تسجيل الملاحظات الآتية:
أولا، أن الحكم تجاوز وقائع النزاع بين الطرفين ليعيد الاعتبار للانتظام العام وللدولة:
قبل التدقيق في مسألة تفرغ القوات اللبنانية عن التلفزيون للضاهر، رأى الحكم بشكل لافت أن ثمة مسائل يقتضي حلها أولا، وهي مسائل تستدعي اعتبارات تتجاوز تفاصيل العلاقة بين الفريقين وما اتفقا أو ارتضيا عليه، لتتصل بالانتظام العام وتاليا بحقوق المجتمع والدولة.
وعليه، وفيما أسندت جمعية القوات اللبنانية دعواها إلى كونها المالكة الحقيقية للتلفزيون، انتهى الحكم إلى دحض هذا السند (أي ملكية القوات للتلفزيون) وتاليا إلى ردّ دعواها بالاستناد إلى اعتبارات ثلاثة:
الأول، أن القوات كانت في الثمانينات أي في فترة تأسيس التلفزيون إحدى الميليشيات المشاركة في الحرب الأهلية وقد تكوّنت آنذاك “بنظر القانون خارج إطار الشرعية” مما يمنع من الاعتراف باكتسابها شخصية معنوية وتاليا امكانية اكتسابها لحق الملكية أو أي من الحقوق الأخرى. وللوصول إلى هذه النتيجة، ذكّر الحكم أن “الدولة هي وحدها من يحق لها أن تنشئ القوات المسلحة، لأنّ أمن الوطن والمواطن هو من صميم الوظائف الحصرية للدولة، ولا يجوز لأية هيئات أو جماعات إنشاء تشكيلات عسكرية أو غير عسكرية إلا بإجازة من الدولة”. وقد سعى الحكم إلى تحصين هذه الخلاصة من خلال التأكيد على أنها نتيجة طبيعية للقانون الوضعي اللبناني، وأنها تنطبق على جميع الميليشيات والمجموعات المسلحة، “أيا كانت المبررات التي حتّمت وجودها، وأيا كانت الغايات التي سعت إلى تحقيقها، وأيا كان التأييد الذي حظي به كل منها ضمن منطقة نفوذه”. وقد وضعت القاضية نفسها بذلك على مسافة واحدة من جميع الميليشيات المتحاربة آنذاك، على نحو يبعد عنها أي اتهام بالتحيز السياسي لهذا الطرف أو ذاك.
الثاني، أنه ليس بإمكان جمعية القوات اللبنانية (المنشأة بعد انتهاء الحرب) التذرع بوجود وحدة بينها وبين “قوات الحرب” (أي الميليشيا). فادعاء هذه الوحدة الذي يجد ما يبرره وفق المحكمة “في النشأة التاريخية والواقعية للقوات اللبنانية”، لا يستقيم من الناحية القانونية، لا سيّما لناحية اصطدامه بما قرّره اتفاق الطائف الذي انتهى إلى حل الميليشيات كلها. ومن اللافت هنا أن المحكمة بررت ما توصلت إليه في هذا الخصوص بالتباين الكبير بين أهداف جمعية القوات (ما بعد الحرب) وأهدافها خلال الحرب. فالأولى هدفت وفقا لبيان العلم والخبر إلى تخطي النزاعات الفئوية والعمل على بناء وطن يعيش فيه كل أبنائه (وهي تاليا شرعية)، فيما أن الميليشيا كانت كغيرها من الميليشيات تسعى إلى تقسيم البلد وتمارس الإقتتال الأهلي بين أبناء الوطن الواحد. وقد رأت المحكمة أن هذا الاختلاف يؤدي بحدّ ذاته إلى نسف أي ادعاء بالوحدة، حتى ولو لم تتغير قيادتها ولو لم يتبدّل المنتسبون إليها. وقد تميزت القاضية جوني في هذا الصدد عن قرار سابق لمحكمة التمييز كان صدر في إطار هذا النزاع في مرحلته الاستقصائية (306/2012)، واعتبر أن الفصل بين قوات الحرب وقوات ما بعد الحرب هو “محاولة غير منطقية لفصل الحزب عن الجذور والقواعد الشعبية التي انبثق عنها”.
الثالث، أنه على فرض وجود وحدة قانونية بين المدعية والقوات خلال الحرب، فإنه من الثابت للمحكمة، وبإفادة المسؤولين في القوات، أن “التلفزيون وموجوداته تم تمويله من مال الجباية، أي من مال الشعب، وليس من مال القوات”، بحيث تم تسديد “ثمن المعدات التي جهّز بها التلفزيون ورواتب مستخدميه ونفقات تشغيله وبرامجه وبشكل عام كل مستلزماته من مال الجباية”. وقد رأت المحكمة أن الجباية الحاصلة على هذا الوجه لا يمكن أن توليها حقوقا على المتحصلات النقدية منها، طالما أنها لا تتمتع بالطابع الشرعي، سندا لأحكام الدستور الذي يجعل من جباية الضرائب وظيفة حصرية للدولة. وللوصول إلى هذه النتيجة، ذكرت المحكمة ب “أنّ حق الملكية … يرتبط وجوبا كسائر الحقوق، بشرعية تلقّي المال”، طالما أن “الشرعية هي من أركان الحق التي بغيابها ينعدم الحق بمجمله”. ف “لا يحق لأحد التذرع باكتسابه حقوقا بالإستناد إلى فعل غير مشروع، ولا يتصور أن يكون هذا الفعل سببا لإنشاء حق أو لإنهاء حق قائم قبله”.
انطلاقا من ذلك، خرجت القاضية جوني من حدود النزاع بين الفريقين، لتفرض من خلال حكمها أصول الانتظام العام، سواء في كيفية اكتساب الشخصية المعنوية أو في اكتساب حقوق الملكية. وقد انتهت بنتيجة ذلك إلى إعلان عدم قابلية الميليشيات المنشأة في زمن الحرب على اكتساب حقوق الملكية على الأموال التي جبتها أو استولت عليها. بل تبقى أموال هذه الميليشات ملكا للشعب، وتاليا للدولة. وهو انتظام عام ينطبق ليس فقط على القوات إنما على كل المجموعات المتناحرة خلال الحرب، بما يتصل بالأموال المحصلة منها.
وكان من الممكن أن يتعزز حضور الانتظام العام في هذه القضية من خلال التأكيد على قانون وسائل الإعلام المرئي والمسموع، والذي يمنع تملكها من قبل الأحزاب، تأمينا للتعددية.
ثانيا: تغليب القاعدة العامة على اعتبارات التسوية السياسية
في تكملة لما سبق، تساءلت المحكمة فيما إذا كان الواقع المعيوش بعد الحرب، والذي تمثل في استبقاء الميليشيات والأحزاب على مجمل ما استولت عليه خلال الحرب، يغير من هذا الأمر. وقد جاء ذلك في حيثية واضحة: “وحيث ربّ قائل بأن كل الأحزاب قد احتفظت بما جمعته الميليشيات التابعة لها في الحرب الأهلية، … وأنّ الدولة لم تصادر المتحصلات النقدية التي جبتها الميليشيات من الشعب”.
وقد جاءت إجابة المحكمة في هذا الخصوص جدّ معبرة. فخلافا للجو العام السائد والذي غالبا ما ينتهي إلى التطبيع مع المعطيات القائمة على الأرض بما يهدد النظام العام، اعتبرت المحكمة أنها “لا تلتزم إلا بحكم القانون في أحكامها، ولا تلزمها أية تسويات سياسية، وطالما أنها لم تقترن بقوانين صريحة تكرس ملكية الأحزاب لما جمعته ميليشياتها” في تعارض للقانون.
ويأتي هذا الموقف القضائي بمثابة تنبيه إزاء المبالغة في التطبيع مع الواقع، والتي غالبا ما أدت إلى تجاهل الأحكام القانونية. كما أدت في حالات كثيرة إلى تفسير القوانين وتطبيقها (تسخيرها) على نحو يؤدي إلى إضفاء المشروعية على الواقع، بدل إخضاع الواقع لمقتضيات القانون. والأمثلة في هذا المجال كثيرة. يكفي أن نعرف أن الفرقاء والشهود تناولوا خلال الدعوى وبالأخص في جلسة الاستجواب، مسألة الجباية أو الأموال الناتجة عن بيع الأسلحة وكأنها نشاطات مشروعة لا تختلف بشيء عن التجارة الحرة. كما تجدر الإشارة إلى مثال آخر شديد الدلالة على هذا التوجه، وهو يتمثل في القرار الصادر عن محكمة التمييز والمشار إليه أعلاه والذي بدا أقرب إلى موقف سياسي منه إلى موقف قضائي.
ثالثا: أبعاد الحكم: من يدافع عن الدولة؟ أو هل تدافع الدولة عن حقوقها؟
وفق الحكم، مُوّل تأسيس التلفزيون “بالكامل قبل وصوله إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي، من مال الجباية، … بحيث لا الميليشيا ولا حزب القوات اللبنانية ولا جعجع ولا الضاهر قد ساهموا بأموالهم الخاصة في تأسيس التلفزيون”. وإذ أكدت القاضية جوني على جهود الضاهر في تطوير التلفزيون بعد بلوغه مرحلة الاكتفاء الذاتي وحفظت حقه بما يقابلها، فإنها بالمقابل رأت أنه عجز عن إثبات شراء حصص القوات في التلفزيون، مما يبقيه مسؤولا تجاه الدولة، على اعتبار أن المال المستخدم في التأسيس هو مال الشعب حصرا.
وقد شدد المحكمة انطلاقا من كل ذلك على حق الدولة وربما واجبها في استعادة أموال الشعب وذلك من خلال التسطير تحت ما أوردناه هنا بين قوسين، في متن الحكم. وقد بدا من خلال ذلك وكأنه يدعو الدولة إلى ضرورة المطالبة بحقوقها في هذا الخصوص، علما أنه يؤمل أن تبادر محكمة الاستئناف (في حال استئناف الحكم) إلى إدخال الدولة (ممثلة بهيئة القضايا) رسميا في هذه الدعوى من باب حملها على الدفاع عن هذه الحقوق.
والسؤال الذي تطرحه المحكمة ضمنا في هذا السياق: كيف عسى الدولة تتعامل مع دعوتها على هذا الوجه؟ هل أنها ستعود لتنقسم على ذاتها بين مؤيد للمارد الإعلامي ومؤيد للمارد السياسي، أم أنها ستنحاز ولو لمرة لأساس وجودها: الانتظام العام (أو الخير العام) فتنجح في اتخاذ موقف واضح موحّد. بالطبع، السؤال الذي تطرحه هنا القاضية جوني ينسحب على أكثر من ملف من مخلفات الحرب ومخلفات فساد ما بعد الحرب، أولها ملف الأملاك العامة المنهوبة وليس أقلها ملف الكسارات والمرامل.
فهل تستيقظ الدولة للدفاع عن حقوقها قبل فوات الأوان؟
لقراءة المقال باللغة الإنجليزية اضغطوا عى الرابط أدناه:
War Money is the People’s Money and the State’s Right
مقالات ذات صلة:
النزاع على ملكية LBC أمام الاستحقاق النهائي مع اقتراب موعد إصدار الحكم
القاضي والسياسي والإعلامي: تجاذب حول مكان المحاكمة … ومرجعيتها
قرار هام في قضية القوات ضد LBC: هكذا أكدت القاضية جوني على مرجعية المحكمة ورصانتها
هكذا جرت جلسة استجواب جعجع وضاهر في قصر العدل: هل تتحول القضية إلى نموذج ناجح لإثبات استقلالية القضاء وكفاءته؟
إرجاء المرافعة في النزاع على ملكية الـ LBCI
قاضية تحذّر من ثقافة التدخل في القضاء: ملاحظات حول جلسة المرافعات في قضية