حكم قضائيّ يقرّ بصحّة الزواج المدنيّ “عن بُعد”: إنجاز حقوقيّ جديد في مواجهة جدار الطوائف


2025-06-01    |   

حكم قضائيّ يقرّ بصحّة الزواج المدنيّ “عن بُعد”: إنجاز حقوقيّ جديد في مواجهة جدار الطوائف
رسم رائد شرف

أصدرت قاضيّة الأحوال الشخصية فاطمة ماجد في تاريخ 22 أيار 2025 حكمًا بقبول دعوى تسجيل زواج مدنيّ، رغم تواجد الزوجيْن جسديًّا على الأرض اللبنانيّة. وقد استند الحكم على المادة 25 من القرار 60 ل/ر التي تنصّ على الاعتراف بصحّة الزواج المدنيّ المعقود في الخارج، بعدما اعتبرتْ أنّ الزواج “عن بُعد” أمام موظّف عامّ من ولاية يوتاه الأميركيّة ووفْق قانونها يعدّ منْعقدًا كذلك أي في الخارج، أيًّا كان مكان تواجد الزوجيْن. وللوُصول إلى هذه النتيجة، تضمّن الحكم حججًا بالغة الأهميّة تمحورت حول وجوب تفسير القوانين على النحو الذي يوفّر أكبر حماية ممكنة للحقوق الفرديّة المحمية دستوريا ودوليا وعلى ضوء تطور المجتمع وتحديدا الوسائل الإلكترونية المتاحة. وهي حجج مؤدّاها تعزيز الاعتراف بحريّة الأفراد في شؤونهم الخاصة وفي الآن نفسه التضييق من هيمنة الطوائف في هذا المجال.    

وقبل المضيّ في تحليل الحكم، من المهمّ إبداء الملاحظات التمهيدية الآتية: 

أولا، إن قضية “الزواج عن بعد” بدأت فصولها في 2021 حين لجأ زوجان للاستفادة من الفرصة المتاحة في ولاية يوتاه الأميركية لعقد زواج عن بُعد. وإذ حصل ذلك في ظلّ التضييق على السفر تبعا لانتشار وباء الكوفيد والأزمة المالية وتأخّر الأمن العام في تجديد جوازات السفر، فإن نجاح هذين الزوجين في تسجيل زواجهما دفع عشرات الأزواج إلى الاحتذاء بهما، حيث قدّر عدد الزواجات الحاصلة على هذا النحو في 2022 ب 70 زواجا. وأمام انتشار هذه الظاهرة، عمدت المديرية العامّة للأحوال الشخصيّة إلى رفض تسجيل عقود الزواج معتبرةً إياها مخالفة للنظام العامّ. بل ذهبتْ إلى إلغاء التسجيلات الحاصلة سابقا، من دون إيلاء أي اعتبار للأوضاع الناشئة والحقوق المكتسبة، ومنها حصول ولادات لم يعد بإمكان الأزواج المعنيّين تسجيلها. وعليه، ذهب أغلب الأزواج المعنيين تحت ضغط ولادة وشيكة، إلى عقد زواج ثان، إما من خلال الانتقال جسديّا إلى دولة أخرى مثل قبرص أو تركيا أو من خلال عقد زواج ديني أمام إحدى الطوائف المعترف فيها في لبنان (وهو الزواج الوحيد المتاح حاليا وفق المديرية العامة للأحوال الشخصية في حال الزواج على الأرض اللبنانية). لكن رغم ذلك، رفض عدد من هؤلاء الأزواج (ومنهم الزوجان المعنيان في هذه القضية) التسليم بقرار المديرية العامة، والتجؤوا تاليا إلى القضاء أملًا بانتزاع حقهم بتسجيل زواجهم.   

ثانيا، إن هذه القضية تشبه في عمقها وأبعادها إلى حدٍّ كبير المحاولة السّابقة لتشريع الزواج على الأرض اللبنانية، والتي ارتبطت بقضيّة أخرى قوامها شطب الطائفة عن الأحوال الشخصية عملا بحرية المعتقد التي تجيز الانتماء أو اللاانتماء إلى طائفة وأيضا الإعلان أو عدم الإعلان عنها. آنذاك، لجأ عدد من الأزواج بعد شطب قيدهم الطائفي إلى عقد زواج مدني في لبنان أمام كاتب عدل. وفيما سجّلت المديرية العامة بعض هذه العقود تبعا لآراء استشارية صادرة عن وزارة العدل، فإنها سرعان ما توقّفت عن ذلك. وقد برّر ذلك وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق بما معناه أن القضية لا تستأهل حتى النقاش وأنه يكفي من يريد إبرام زواج مدني أن يسافر إلى قبرص. وتماما كما حصل مع الأزواج “عن بُعد”، عمد أغلب الأزواج من شاطبي الطائفة إلى عقد زواج آخر لتسوية أوضاعهم. وإذ التجأ بالمقابل قلة منهم إلى القضاء، فإن القرار القضائي الوحيد الذي أخذنا علمًا به هو الحكم الصادر عن قاضي الأمور المُستعجلة جاد معلوف في 2018 والذي وضع مطالعةً مرجعيّةً للإقرار بصحّة هذا الزّواج، وإن انتهى إلى إعلان عدم اختصاصه كقضاء مستعجل في إلزام المديرية العامة بتسجيله. وإذ انحسرت هذه الزواجات بعدئذ تبعًا لموقف المديرية العامة برفض تسجيلها، فإن الجهد الحقوقي والقضائي الحاصل آنذاك شكّل محلّ إلهام في النقاشات والقضايا المتصلة بالأحوال الزوجية وحقوق الأفراد في التحرر من سلطة الطوائف على الأحوال الشخصية. وليس أدلّ على ذلك من استعادة الحكم الصادر في قضية الزواج عن بعد العديد من الحجج الواردة في حكم القاضي معلوف.

تعزيز “أمرة النفس” في الشؤون الخاصّة

أول القيم التي انبنى عليها الحكم من أجل الحدّ من هيمنة الطّوائف على الأحوال الشخصيّة، هي الحقوق والحريّات الفردية الأساسيّة التي يضمنها الدستور والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي يشكّل جزءا لا يتجزّأ منه وفق مقدّمته. وهذه الحقوق تشمل وفق الحكم حريّة المُعتقد وحقّ الفرد في الزواج وتكوين عائلة فضلا عن الحقّ في المساواة من دون تمييز. 

انطلاقا من ذلك، اعتبر الحكم “أنّ الحقّ بالزواج ليس بحاجة إلى إقرار قانون، لأن الأصل هو الإباحة ولا يمكن حرمان أفراد من الضمانات القانونية ذات القيمة الدستوريّة ومنها الحقّ بالزواج”… على أن يكون للمشرّع “الحق بتحديد شروط الزواج وتقييده” من دون المسّ بجوهر هذا الحقّ. ولئن استعادت القاضية ماجد هنا حجج القاضي معلوف في قضية شاطبي القيد بما يؤكد مجدّدا على صحة إبرام هؤلاء عقدا مدنيا على الأرض اللبنانية رغم الفراغ التشريعيّ، فإنّها هدفت من خلال هذه الاستعادة إلى تحقيق غايةٍ أخرى قوامها التّأكيد على تمتّع الأفراد بحريّة واسعة عند إبرام زواج مدنيّ “في الخارج” في اختيار القانون الأجنبيّ الذي يرغبون بإخضاع زواجهم له من دون اشتراط توفر أيّ روابط خاصّة مع الدولة المعنيّة، وذلك سنداً للمادة 25 من القرار 160 ل/ر. 

ونلحظ هنا أن جديد الحكم يكمن ليس في التذكير بحرية الاختيار المكرّسة في المادة 25 والمعمول بها بصورة منتظمة من دون أيّ إشكال أو منازعة بما يتّصل بعقود الزواج المدنية المبرمة في الخارج، إنّما في ربط هذه المادّة بحريّة الأفراد في المعتقد وحقوقهم في تكوين أسرهم وفق ما يرونه مناسبا، واعتبارها تطبيقًا وتجليّا لها. وندرك أهميّة هذه الإضافة في مقاربة الحكم لاحقا لحريّة اختيار القانون الأجنبيّ في حال إبرام زواج مدني عن بُعد ومع تواجد الزوجين على الأرض اللبنانية: فهل يعمل بهذه الحرية فقط في حال انتقال الزوجين جسديّا إلى خارج لبنان كما نفهم من حرفيّة المادة 25 أم يعمل بها أيضا في حال الزواج وفق القانون الأجنبي وأمام موظف عام أجنبي عن بُعد وحتى ولو لم ينتقل الزوجان إلى الخارج، تماما كما حصل في القضية المعروضة على المحكمة؟ وقد بدت المحكمة وكأنّها تعمّدت قبل الإجابة على هذا السؤال ربطه بحماية الحقوق والحريات الدستورية، ووجوب تفسير النصوص على النحو الذي يجعلها أكثر ضمانا لها والتزاما بها. فإذا تم ذلك، أعلنت المحكمة أن “‘إخضاع عقد الزواج المدني لقانون من اختيار الفرقاء .. يشكل إقراراً بحقّ معترفٍ به دستوريا ومستوجب الحماية”، وأن إقرار هذه الحرية في قضية الزواج عن بُعد لا يخالف مطلقًا النظام العام اللبناني في مسائل الأحوال الشخصية بخلاف ما أثارته المديرية العامة للأحوال الشخصيّة، بل هو على نقيض ذلك تماما “يحافظ على النظام العام” من خلال محافظته على الحقوق الدستورية. 

من هذه الزوايا كافة، بدا الحكم حريصا على توسيع الحقوق الدستورية للأفراد في اتجاه جعلها بمثابة خطوط حمراء تنحسر أمامها هيمنة الطوائف في تنظيم الأحوال الشخصية. 

تعزيز “دور القضاء” في حماية الحقوق والحريات

ثاني القيم التي انبنى عليها الحكم من أجل الحدّ من هيمنة الطوائف والإدارة العامة في فرض القواعد العامة، هو تعزيز دور القضاء كحامٍ للحقوق والحريات. وقد تمّ ذلك من خلال تكريس أمرين اثنين: 

الأول، تجريد الإدارة العامّة المتمثلة بالمديرية العامة للأحوال الشخصية من أيّ سلطة تقديرية لصحة الزواج. وهذا ما نقرأه في إحدى حيثيات الحكم، حيث جاء حرفيّا: “إن صلاحية دوائر الأحوال الشخصية هي صلاحية إداريّة تقتصر على تسجيل وثائق الزّواج التي تستوفي الشروط المنصوص عليها في القانون، وبالتالي لا يكون للإدارة أن تقدّر مدى صحة أو قانونية الزواج أو عدمه وأن تمتنع بالتالي لهذه الحجة أو تلك عن تسجيل الزواج للشخص المعني وأن قيامها بهذا الأمر إنما ينطوي على تجاوز لحدّ الصلاحيات المناطة بالإدارة إذ أنّها بذلك تكون تعرّضت لصحّة أو عدم صحّة الزّواج مخالفةً بذلك مبدأ فصل السّلطات، وأنّ تقدير هذا الأمر يعود للمحكمة المختصّة”. بمعنى أن جلّ ما يمكن الإدارة فعله وفق الحكم هو الطعن في قانونية هذا الزواج أمام المحكمة التي يعود لها وحدها الفصل في مسألة صحّة أو بطلان الزواج وفي ما يترتب على ذلك من مفاعيل. ولئن استند هذا الحكم على الرأي الاستشاري الصادر عن هيئة التشريع والاستشارات في تاريخ 22 آذار 2000، فإنه تمايز هنا بالمقابل عن الحكم الصّادر عن القاضي معلوف الذي منح الإدارة صلاحية أوسع في تقدير مدى صحة العقد بالاستناد إلى قرارات صادرة عن محكمة التمييز. ومؤدّى التمايز في هذا التوجّه هو تعزيز حماية حقوق الأفراد في التمتّع بحقوقهم وممارسة حريّاتهم وفق القوانين بحيث يحصر النظر في مشروعيتها في القضاء من دون أي تدخل للإدارة العامة، وفي الآن نفسه تعزيز دور القضاء وضمنًا القضاء المستعجل كحامٍ للحقوق والحريات.      

أما الأمر الثاني الذي يعكس توجُّها نحو تعزيز دور القضاء، فقد تمثّل في تفسير القوانين المحليّة، على النحو الذي يجعلها أكثر مواءمة للمواثيق الدولية وتطور الأوضاع الاجتماعية، مع ما يتيحه ذلك للقاضي من قدرة على أداء دور رائد في تطوير القوانين. وهذا ما شهدناه بشكل خاصّ ضمن الحجج التي وردت في الحكم في سياق تفسير عبارة “الزواج المدني المعقود في الخارج” الواردة في المادة 25 من القرار 60 ل/ر. فقد استبعدت القاضية ماجد الأخذ بالتفسير الحرفيّ لعبارة “في الخارج” أو ربطها بمكان تواجد أطراف عقد الزواج المدني جسديّا خارج الأراضي اللبنانية، طالما أنّ من شأن ذلك أن يجعل إمكانيّة الزواج المدنيّ متاحةً عمليًا وواقعيًا فقط لمن تسمح له ظروفه الماديّة بالسفر إلى الخارج وأن يحرم سائر المواطنين من الحقّ في الزواج مدنيّا خلافًا لمبدأ المساواة وعدم التّمييز أمام القانون. بمعنى أنها استبعدت التفسير الحرفي للعبارة المذكورة لكونه يؤدّي إلى نتيجة غير مقبولة قوامها مخالفة المواثيق الدولية، لتذهب في اتجاه توسيع نطاقها ليشمل الزواج المعقود عن بُعد وفق قانون إحدى الدول الأجنبية أمام موظف عام أجنبي، ولو كان الزوجان متواجدين فعليا في لبنان. 

ومن المهمّ بمكان الإشارة هنا إلى أنّ القاضية ماجد أضافت إلى ذلك إمكانية استناد القضاء على تطوّر المجتمع وتحديدًا الوسائل التكنولوجية في تفسير القوانين. فبعدما رأت أنه لم يكن عند وضع القرار 60 ل/ر (1936) بالإمكان تصوّر حصول الزواج في الخارج سوى من خلال واقعة انتقال طرفي العقد جسديّا إلى خارج الأراضي اللبنانية، فإنها اعتبرت نفسها مخولة توسيع نطاق عبارة “خارج لبنان” بعدما بات من الممكن إجراء مراسم الزواج وتوثيقها إلكترونيّا فضلا عن التوقيع بصيغة رقمية. ولم يفت القاضية ماجد هنا التأكيد على أن المشرع اللبناني اعتمد بدوره التوقيع الإلكتروني في قانون نافذ (المادة 4 من القانون المتعلق بالمعاملات الإلكترونية) وإن ترك للسلطة التنفيذية تحديد دقائق تطبيقه “عند الاقتضاء”.   

ومن هذه الزوايا، يؤمل أن يسهم الحكم في تكريس دور القضاء في تطوير القوانين، وبخاصة في المجالات الحساسة التي يمتنع المشرع عن الخوض بها ومنها ما يتصل بالأحوال الشخصية أو المجالات التي شهدت أو تشهد تطورا اجتماعيا وتقنيا كبيرا ما يزال المشرع عاجزا عن اللحاق به.  

العالم الافتراضي يخفّف وطأة السلطة على الواقع

أخيرا، وفضلا عن كلّ ما أثرناه أعلاه لجهة تعزيز أمرة الفرد أو مكانة القضاء، يشكّل الحكم إضاءةً على تأثيرات تطوّر العالم الافتراضيّ على الهيمنة على العالم الواقعيّ. فبقدر ما يسهل التواصل عالميّا سواء من حيث الانتقال جسديّا أو افتراضيّا، بقدر ما تضعف الفواصل الجغرافية وتتراجع معها مشروعيّة اشتراط انتقال الزوجين إلى الخارج من أجل إبرام زواج مدنيّ. وما يبقى اليوم محدودًا بفعل تفرّد ولاية يوتاه الأميركية في تنظيم الزواج عن بُعد، قد يتحوّل غدًا إلى ظاهرةٍ حقيقيّة في حال ازدياد اعتماد هذا النوع من الزواج من قبل دول أخرى. 

خلاصة
شكّلت هذه القضية وانتصار قضاء الدّرجة الأولى لها، دليلا على استمرار مقاومة هيمنة الطوائف في مجال الأحوال الشخصية، مقاومة تسعى مجدّدا إلى تسهيل الزواج المدنيّ الاختياري على الأرض اللبنانية وإن بوسائل مغايرة. لكن يبقى أن ثمّة مخاوف تعززها التجارب والمحاولات السابقة من أن تنتهي هذه المقاومة كما مقاومة شاطبي القيد الطائفي إلى تسجيل مزيد من النقاط الحقوقية والقضائية، التي تبقى رغم أهميتها الفائقة، أضعف من أن تغيّر الممارسات السّائدة. هذا ما قد يتقرر في محكمة استئناف بيروت ولكن الأهم في أوساط الفئات الاجتماعية المعترضة وخصوصًا الشابة منها. فلنراقب.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني