مرة جديدة يُسلّط الضوء على المحاكم البريطانية، التي تنظر بدعاوى رفعها مودعون ضد المصارف اللبنانية، مطالبين بالحصول على ودائعهم. فعلى مدى خمسة أيام (7 و11 و14 و16 و25 شباط الماضي)، عقدت المحكمة العليا في كوينز جلسات استماع في الدعوى المقدمة من المودع فاروج مانوكيان ضدّ مصرفي سوسيتيه جنرال وعودة، ويطالب فيها باسترجاع ودائعه التي يبلغ مجموعها نحو 4 ملايين دولار. وبالفعل، أصدرت المحكمة في 28 شباط قراراً قضى بإلزام المصرفين بتحويل ودائع المدعي إلى حساباته في بريطانيا قبل الساعة الرابعة من يوم الجمعة في الرابع من آذار الحالي.
هلع في إدارات المصارف
بالرغم من أن الحكم قابل للاستئناف إلا أنه أثار حالة هلع في إدارات المصارف، انطلاقاً من أن هكذا حكم يُمكن أن يُشجّع المودعين على رفع دعاوى مماثلة لتحصيل أموالهم. وأكثر من ذلك تؤكد مصادر قانونية مطّلعة على مسار الدعاوى أن أي استئناف لن يكون مصيره النجاح، أولاً لأن المدعي يجب أن يقدم دليلاً قوياً يبرر لجوءه إلى تلك المحكمة، وثانياً لأن محاكم الاستئناف البريطانية تنظر، عادة، في احتمال خطأ القاضي في تطبيق القانون الانكليزي. وبما أن المحاكم في الحالة الراهنة تعتمد أحكام القانون اللبناني، فيُتوقع أن لا يرفع أي متضرر دعوى استئناف. وما يؤكد ذلك هو ما نقلته “رويترز” عن مصادر في “عودة” تشير إلى أن المصرف سيلتزم بالحكم.
لذلك، علمت “المفكرة القانونية” من مصادر موثوقة أن عدداً من المصارف، ومن بينها “عودة”، بدأ بإغلاق حسابات المودعين البريطانيين أو المقيمين في بريطانيا، كإجراء احترازي، وإيداع شيك مصرفي بقيمة الوديعة لدى كتّاب العدل، اعتماداً على المادة 822 من قانون أصول المحاكمات المدنية. هدف المصارف من هذه الخطوة هو تجريد هؤلاء من أيّ صفة لمداعاتها، وتاليا قطع الطريق على الأحكام التي يمكن أن تصدر لصالح المودعين وتلزمها بتسديد الودائع نقداً. وعليه، وبخلاف الحكم الذي صدر في نهاية 2021، في الدعوى المقدمة من المودع بلال خليفة ضد مصرف بلوم، حيث اعتبر الشيك المصرفي إحدى وسائل تسديد الوديعة، تستشعر المصارف خطراً يتهدد النظام الذي أرسته بالتعاون مع مصرف لبنان والذي يقوم على تقييد حقوق المودعين بإرادتها الذاتية وبمعزل عن أي قانون. وما يزيد من الخطر هو أن المصرفين قد أغلقا حسابات مانوكيان وأودعا شيكات مصرفية بقيمتها لدى كاتب العدل تماما كما فعل بنك لبنان والمهجر في مسعى لكبح بلال خليفة، إلا أنا الحكم لم يأت لصالحهما. ويلحظ أن هذا الحكم لم يتضمن المبررات القانونية التي اعتمدتها المحكمة لإصدار قرارها، حيث يفترض أن يصدر الحكم التفصيلي في 21 آذار الحالي.
هل تطورت قراءة المحاكم البريطانية للقانون اللبناني في القضية الثانية، وتبيّن لها أن الشيك المصرفي ليس وسيلة إيفاء يُعتد بها؟ هذا ما تخشاه جمعية المصارف. فالحكم الصادر مؤخراً يُشجّع المودعين المقيمين في أوروبا على رفع دعاوى لتحصيل ودائعهم، خاصة أنه سبق أن حكمت المحكمة العليا في صلاحية المحاكم البريطانية والأوروبية البت بهذه الدعاوى، إذا كان المدعي مقيماً في الاتحاد الأوروبي في تاريخ فتح الحساب (بموجب القوانين الأوروبية لحماية المستهلك).
البعض يعتبر أن ربح الدعاوى في الخارج يعني عملياً عدم التعامل مع المودعين على قدم المساواة، بحيث يتمكن المودع القادر مادياً على رفع دعوى في الخارج من تحصيل وديعته مقابل تسليم المودع في الداخل بخسارة أمواله، أضف إلى أن الأموال التي سيحصل عليها هي عملياً أموال المصرف، التي يُفترض أن توزّع على المودعين بشكل عادل. في الظاهر يمكن أن يكون ذلك صحيحاً. لكن في الواقع، تؤكّد هذه الأحكام أن من شأن ما تقوم به المصارف من إجراءات مخالفة للقانون أن تحرك المياه الراكدة على صعيد الحلول، خاصة إذا أعطت هذه الأحكام دفعاً للقضاء اللبناني بالمضي قدماً في منع المصارف من التمادي في مخالفة القانون والاحتيال عليه.
ويؤمل تالياً أن يؤدي ما أقرّته المحكمة البريطانية إلى إنهاء مرحلة تهديد المصارف للمودعين “المشاغبين” أو الذين يرفعون دعاوى ضدها بإقفال حساباتهم وتسديدها عبر شيكات مصرفية لا قيمة لها. وعليه، فإن الضغط الذي يأتي عبر الأحكام التي تطال المصارف في الداخل والخارج، تؤكد أن الخناق يشتد حولها. ولأن دفع أموال كل المودعين ليس هو الخيار الذي تطمح له، فستكون مضطرة إلى البدء بتنظيم أوضاعها بطريقة عادلة وشاملة.
أما مسألة التحايل على القانون من خلال تطبيق المادة 822 من قانون أصول المحاكمات المدنية، فقد أثبت الحكم البريطاني أن تطبيقها لتسديد الودائع ليس سوى عملية غش، لأن المادة تلك تشير إلى أنه “للمدين الذي يريد إبراء ذمته إزاء دائنه أن يعرض على هذا الأخير بواسطة الكاتب العدل الشيء أو المبلغ الذي يعتبر نفسه مدينا به، وأن يودعه لدى الكاتب العدل نفسه إذا كان مبلغا من النقود…”. وعليه، توضح المحامية يمنى مخلوف (من أعضاء المفكرة القانونية وعضو في لجنة حماية المودعين لدى نقابة المحامين في بيروت) أنّ هذه المادة لا تشير إلى التسديد بالشيك، بل تشير إلى تسديد مبلغ من النقود. وحتى مع افتراض أن الشيك هو إحدى وسائل الإيفاء، وهو في الحالات الطبيعية كذلك، فإن إبراء الذمة لا يتحقق إلا بعد صرف الشيك. أي حتى لو وافق صاحب الوديعة على الحصول على وديعته بموجب شيك، فإن المصرف يبقى مديناً له بقيمة الوديعة إلى حين صرفها. هذا ما تؤكده المادة 444 من قانون التجارة التي تشير إلى أن “الايفاء بتسليم شيك يقبله الدائن لا يُعدّ تجديداً لعقد الدين بل يبقى الدين الأصلي قائماً مع جميع الضمانات المختصة به إلى أن يتم إيفاء الشيك المذكور”. وهذا الأمر هو نفسه المتبع في حال الدفع بموجب شيك بلا رصيد على سبيل المثال، فالحصول على الشيك لا يلغي جرم عدم توفر رصيد. وعليه، فإن الشيكات المصرفية هي عملية إيفاء وهمية، لا تبرئ ذمة المصرف، الذي يبقى ملزماً بالإيفاء الفعلي.
كابيتال كونترول لحماية المصارف أم وضع اليد عليها؟
لكل ما تقدمّ، وبالتوازي مع إغلاق عدد من الحسابات، سارعتْ جمعية المصارف إلى إعادة تحريك العجلة القانونية لمواجهة الكوابيس الآتية من أوروبا، من خلال السعي مجدداً إلى إقرار قانون الكابيتال كونترول في أسرع وقت. (تردد أنه يمكن إعادة طرح الاقتراح أمام اللجان المشتركة المدعوة للانعقاد اليوم، بالرغم من أنه ليس موضوعاً على جدول أعمالها). علماً أنه سبق أن أسقط الاقتراح المفخّخ للكابيتال كونترول الذي قدّمه النائب نقولا نحاس في اجتماع اللجان الذي عقد في 6/12/2021، بعد حملة واسعة. وقد أثبتتْ “المفكرة القانونية” أنّ قانون الكابيتال كونترول لا وظيفة له سوى حماية المصارف، خاصّة بعد تضمنيه مادة تشير بوضوح إلى أن “أحكام هذا القانون تُطبّق فوراً على الدعاوى والمنازعات في الداخل والخارج التي لم يصدر فيها حكم مُبرم وغير قابل لأي طريق من طرق المراجعة” ومادة أخرى بإنشاء محاكم خاصة للنظر في النزاعات بين المودعين والمصارف.
هذا كله يقود إلى أن فترة السماح التي حصلت عليها إدارات المصارف للحفاظ على مكتسباتها قد انتهت. وعلى ما أشار إليه بيان نقابات المهن الحرة الذي صدر في 28/2/2021، فإنه لم يعد بالإمكان السكوت عن مخطط تذويب الودائع في المصارف وتبديد الحقوق. فكل المؤشرات والدلائل تؤكد أن المصارف قد أفلست ولم تعد قادرة على متابعة أعمالها. وعليه، طلب اتحاد النقابات الحرة بتطبيق القانون رقم 110 الصادر في العام 1991 التي تسمح لمصرف لبنان بوضع اليد على أي مصرف يتبين أنه لم يعد في وضع يمكنه من متابعة أعماله. وبحسب الاتحاد، فإن هذا الحل هو الوحيد المتبقي، والذي يفترض أن يتوازى مع تنحية وعزل رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف الموضوع اليد عليه والحجز احتياطياً على أموالهم.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.