مرّة جديدة يحكم القضاء لصالح الطفلة إيلّا طنّوس التي تعرّضت لأخطاء طبية أدّت إلى بتر أطرافها الأربعة، فأصدرت محكمة استئناف الجزاء في بيروت برئاسة القاضي المنتدب طارق بيطار حكما بتاريخ 5 أيّار 2021 يُنصف إيلّا وعائلتها ويحكم بتعويضات عالية وصلت إلى 10 مليارات ليرة لبنانية وبدخل شهري لها على عاتق المستشفيات والأطباء المدانين. واستند الحكم إلى ثلاثة تقارير طبية، أبرزها التقرير الصادر عن لجنة التحقيقات القضائية التي رأسها آنذاك نقيب الأطباء الحالي د. شرف أبو شرف. وبدل أن يعلن هذا الأخير عن رضاه لاستناد القاضي إلى تقريره، ها هو يُعلن بصفته ممثلاً عن نقابة الأطباء إضراباً تحذيرياً لمدّة أسبوع يستهلّه باعتصام أمام قصر العدل صباح اليوم الإثنين ومطالباً بإبطال الحكم عبر حلّ قضائي أو قانون.
“لا شيء سيعوّض لابنتي ما خسرته”
انتظر حسّان طنّوس والد إيلّا زهاء سبع ساعات يوم 5 أيّار ليستلم الحكم في قصر العدل في بيروت، ليعود ويتنفّس مرّة جديدة خاتماً معاناة سبع سنوات تجاوز فيها أصعب المحن. ومرّت السنوات السبع بين معاناة في القضاء ومعاناة إيلّا الشخصية وعائلتها للتعامل مع خسارة أربعة أطراف جرّدتها من الاتّكال على نفسها في أبسط الأمور. لكنّ الطفلة التي تضع كلّ طاقتها لتتأقلم، تصدم أي شخص ينظر إليها بالصعوبات التي تجاوزتها حتى تمكّنت من اكتساب مهارات ولو من دون أطراف.
يعدد الوالد مواهب ابنته في حديث مع “المفكرة” أثناء انتظاره صدور الحكم: “… إيلّا تغني وترسم وتعزف وتكتب فروضها المنزلية بمهارة عالية وبخط واضح مستخدمة يديها المبتورتين، تتكل على نفسها بطريقة تدهشنا..”.
بعد كلّ هذه السنوات، يستعيد الوالد ذكريات الأيام الصعبة ويقول: “أشعر بأنّه لو عوملنا بطريقة مختلفة منذ البداية لما توجّهت إلى القضاء، لكنّي ووجهت بمعاملة قاسية”. يُتابع، “حتى حين اتخذت القرار برفع دعوى قضائية، تواصلت مع عشرات المحامين ليأخذوا الدعوى ورفضوا، إلى أن تواصلت عبر أحد الأصدقاء بالمحامي نادر عبد العزيز الشافي الذي قبل الدعوى مباشرة”.
إنّها الساعة الثانية والنصف، يتوجّه رئيس القلم إلى مكتب القاضي بيطار ويعود حاملاً كدسة أوراق تمثل حكماً مؤلفاً من 125 ورقة. سلّم رئيس القلم الفقرة الحكمية لطنّوس ووكيله ومحاميين آخرين يمثلان الجامعة الأميركية في بيروت. يقرأ وكيل طنّوس المحامي نادر عبد العزيز الشافي الفقرة الحكمية، ينظر إليه طنّوس ليتأكّد من رأيه كمحام في هذا الملف. فيسأله: “أخبرني، هل هو حكم جيّد؟” يُجيبه الشافي “إنّه أكثر من جيّد”. ومن ثمّ يبدأ المحامي الشافي يفصّل الفقرة الحكمية: “ردّ طلبات الجهات المستأنفة والمستأنف عليها أي الرهبانية المارونية والدكتورة رنا شرارة والطبيب عصام معلوف والجامعة الأميركية في بيروت…”. ويُضيف، “مصادقة على الحكم البدائي، أي لا تغيير في الوصف الجرمي، يعني أنّه لا يحق للجهات المدانة التمييز”. يتابع: “رفع قيمة التعويضات إلى 9 مليارات ليرة ونصف مليار لكلا الوالدين ودخل شهري لإيلّا”. وفي الأخير، “الحكم بالإجماع، أي لم يخالف أيّ من المستشارين الحكم النهائي”.
يعلّق حسان طنّوس على الحكم لـ”المفكرة” قائلاً إنّ “لا شيء سيعوّض لابنتي ما خسرته، أطرافها لن تعود”. ويُضيف، “أجد اليوم أنّه حكم عادل، وتأكدنا اليوم أنّه لا يوجد أخطاء طبيّة بلا محاسبة”. ويقرّ بأنّه مرّ وعائلته بمرحلة شديدة الصعوبة ولكن “ابنتي ستسلك درباً طويلاً تتعامل فيه مع خسارتها، وهذه الصعوبات ستواجهها وحدها مهما كنّا إلى جانبها ومهما ساندناها، فهي من خسرت أطرافها وهي التي ستسعى لاكتشاف إمكانياتها للتقدّم”.
تضع عائلة إيلّا كلّ إمكانياتها لمواجهة تداعيات ما حصل مع ابنتهم والسعي لتعبيد دربها إلى المستقبل وإلى حين سيكون عليها الاعتماد على نفسها في غياب عائلتها. ويعدد الوالد حاجات ابنته “فهي لن تعيش حياة عادية، تحتاج لرعاية دائمة وخاصة مدى العمر، وهذا ليس طريقاً سهلاً”. يُضيف، “كلّما كبرت إيلّا كل ازدادت احتياجاتها ومتطلّباتها”.
رابطة سببية بين الخطأ والنتيجة
توصّل القاضي بيطار إلى هذا الحكم بالاستناد إلى ثلاثة تقارير تؤكّد الضرر اللاحق بالطفلة بنتيجة أخطاء طبيّة: تقرير لجنة التحقيقات الخاصّة في نقابة الأطباء، تقرير الطبيب أمين قزي وتقرير لجنة التحقيقات القضائية برئاسة د. أبو شرف. اللجنة الأخيرة عيّنها قاضي التحقيق في بيروت جورج رزق، وأصدرت التقرير الذي بموجبه ظنّ القاضي رزق بمستشفيين، وهما الجامعة الأميركية في بيروت والرهبانية اللبنانية المارونية مالكة مستشفى سيدة المعونات في جبيل وبالطبيبين د. رنا شرارة ود. عصام معلوف بجرائم الإيذاء غير المقصود. بالإضافة إلى الظن بمستشفى أوتيل ديو والطبيب قارلو يغيا أغ خجريان بجرائم عدم الإغاثة التي تم تبرئتهما لاحقاً. وفي معرض التصديق على إدانة الطبيب معلوف رأى القاضي بيطار أنّ إيلّا لم تكن تعاني من أيّة مشاكل صحية سابقاً، وأصيبت بأعراض شبيهة بأعراض الـ Grippe وثم تطوّرت هذه الأعراض لتظهر علامات الصدمة الإنتانية الناتجة عن إصابة إيلّا ببكتيريا عقديّة Streptococcus A (بدأت بارتفاع في الحرارة لأكثر من 5 أيّام، وانخفض نشاطها وتراجعت شهيّتها، ثم اشتدّت حالتها ووصلت إلى إسهال أخضر مخاطي غزير مع تقيؤ وانحلال بالجسم وانخفاض بالضغط وارتفاع عدد الكريات البيضاء…). ولم تتلقّ إيلّا الرعاية اللازمة في مستشفى المعونات من قبل طاقمها الطبّي كما من قبل طبيبها د. عصام معلوف. ويُفهم من الحكم أنّ الطبيب معلوف وعلى الرغم من تدهور حالة الطفلة، لم يشك أنّها تعاني من صدمة إنتانية جرّاء إصابتها ببكتيريا عقديّة وتأخّر في إعطائها المضادات الحيوية اللازمة بهدف انتظار تبوّل الطفلة لإجراء فحص لها، وهذا التوجّه كان متأخّراً، عدا عن أنّه أدى إلى تأخّر علاج الطفلة من ثم اشتداد وضعها سوءاً. واعتبر القاضي بيطار أنّ الطبيب مدان بالخطأ الطبّي الذي أدّى إلى عملية البتر.
كما قصّرت مستشفى المعونات وطاقمها الطبي وفقاً للحكم بـ “أخذ مؤشرات الطفلة الحيوية كقياس الحرارة والضغط، والتأخير في إعلام الطبيب المعالج عن وضع الطفلة، كما لم يتوفّر طبيب طوارئ في القسم عند وصول الطفلة، وإيلاء مهمة العناية بالأطفال في الطوارئ لطبيبة لم تنهِ تخصّصها في طب الأطفال..”.
أمّا بالنسبة لمستشفى الجامعة الأميركيّة والطبيبة شرارة، فحدّد القاضي بيطار التقصير الذي تعرّضت له إيلّا بأمور أبرزها: “.. الاستمرار بإعطاء الطفلة جرعات من مقويات التقلّص العضلي الذي لم يتوقّف حين أظهر تخطيط صدى القلب أداء طبيعياً.. “، و”الاستخدام المطوّل لرافعات الضغط الذي ساهم في تمدّد الغرغرينا وانتشارها، وساهم في النتيجة الحاصلة وهي بتر أجزاء بليغة من الأطراف..”. ومن ناحية ثانية، “…تم استخدام موسّعات الأوعية بصورة متأخرة، أي بعدما كانت الغرغرينا قد تطوّرت..”. كما ..”جرى التأخر بتشخيص الغرغرنيا … والتأخّر في استشارة طبيب الأوعية والشرايين… ولكانت الطفلة لولا ذلك حافظت على أجزاء هامة من أطرافها..”.
وفضلاً عن ذلك، خلص الحكم إلى اعتبار أنّ الجامعة الأميركية ارتكبت التقصير في التأخّر بتشخيص نوع البكتيريا، وإرسال مختبر المستشفى عيّنات من السوائل المسحوبة من رئة الطفلة إلى ألمانيا وانتظار زهاء أسبوع كامل للحصول على النتيجة بدلاً من الاستعانة بالمختبرات المحلية التي تمّ التثبّت من حيازة أحدها على هذا النوع من الفحوصات وهو مختبر مستشفى القديس جاورجيوس.
مواقف تصعيدية من نقابة الأطباء
ما أن صدر الحكم حتى فوجئت العائلة بمواقف عدّة صدرت عن عدّة مرجعيات طبيّة ترفضه وتدعو إلى دراسة سبل إلغائه: اللجنة الطبية في المركز الطبي في الجامعة الأميركية في بيروت التي رفضت إدانة الطبيبة رنا شرارة وأكدت على أنّ المركز الطبي لديها قدّم التشخيص والعلاج المطابقين للمعايير الدولية، رافضة الاعتراف بأيّ خطأ طبي تعرّضت له إيلّا في المستشفى. وصدرت أيضاً مواقف مندّدة بالحكم عن الجسم الطبّي في المركز الطبي التابع للجامعة الأميركية، وهيئة الأطباء في “التيار الوطني الحر” ونقابة المستشفيات. وانتقدت البيانات الحكم من ناحية التعويضات العالية، كما حذّر بعضها من أنّ هذا النوع من الأحكام سيؤثر على الخدمات الطبية حيث أنّ الأطباء سيكونون متردّدين في معالجة الحالات الخطيرة. إضافة إلى موقف لنقابة المستشفيات التي اعتبرت في بيان أنّ التعويضات في الحكم “فاحشة” و”لا تتناسب مع الواقع اللبناني ولا مع واقع القضية بحد ذاتها”.
أمّا الموقف المفاجئ فقد جاء من نقابة الأطباء التي كانت المحكمة استندت إلى التقريرين الصادرين عنها وهما تقرير لجنة التحقيقات في نقابة الأطباء الذي حمّل مسؤولية كاملة على مستشفى سيدة المعونات والطبيب معلوف، وتقرير لجنة تحقيق قضائية كان ترأسها النقيب الحالي د. شرف أبو شرف وحمّل مستشفى المعونات والجامعة الأميركية مسؤولية الخطأ الطبي، فيما حمّل أوتيل ديو وطبيباً مسؤولية عدم الإغاثة.
وقد تمثلت المفاجأة في موقف النقيب د. شرف أبو شرف الذي دعا إلى الاعتصام اليوم الاثنين 10 أيّار والإضراب التحذيري لمدّة أسبوع والتوقّف عن العمل دون الحالات الطارئة، بالإضافة إلى التوجّه لزيارة وزيرة العدل للتوصّل إلى إبطال الحكم عبر حلّ قضائي أو قانون. وكان أبو شرف قد أعلن في وقت سابق أنّ النقابة قرّرت “دراسة الملف مجدداً، آخذة بعين الاعتبار أموراً لم تذكر في التقارير السابقة كالنظام الصحي العام ووضع الطوارئ والأطباء في المستشفيات، وكيفية نقل المريض من مستشفى إلى آخر”. فكأنّما النقابة تتهيأ للعدول عن تقاريرها السابقة تحت وطأة ضغط المستشفيات والأطباء.
عائلة إيلّا تفاجأ بردّ النقابة
ردّت عائلة إيلّا على موقف نقابة الأطباء، أولاً عبر كتاب وجّهته إلى النقابة عبر وكيلها المحامي نادر عبد العزيز الشافي يوضح أنّ عائلة طنوس متفاجئة بموقف النقابة لناحية العمل إلى وضع تقرير جديد لمحاولة استغلاله وهدر حقوق الطفلة، واعتبرت أنّه حصل “تحت ضغط البعض”. وعليه، استغربتْ العائلة في الكتاب توجّه النقابة إلى الاعتصام أمام قصر العدل، وبالمقابل صرّحت بأنّها عوضاً عن ذلك، “ترحّب بأن تقدم النقابة على دراسة الملف مجدداً، وانّما لاتخاذ العقوبات المسلكية بحق الأطباء”.
وأوضحت العائلة أنّ النقابة رفضت اتخاذ أي تدابير مسلكية بحق الأطباء رغم المطالبات الحثيثة، وكانت الحجّة بأنّ النقابة تنتظر الحكم القضائي. وأضافت العائلة، “على الرغم من صدور كل القرارات والأحكام القضائية التي تدين المستشفيات والأطباء فلم تتخذ النقابة أي تدابير. وطلبت العائلة من النقابة عدم السماح بتزوير الحقائق، ودعت النقابة إلى الاجتماع مع العائلة لتقديم كافة المستندات والتقارير ذات الصلة”.
المستغرب في هذه المواقف الرافضة للحكم هو أنّ أياً من الجهات المدّعى عليها قد سعى طيلة فترة المحاكمة إلى فتح الباب مع العائلة للصلح. ولطالما أبدى طنّوس خلال الجلسات أنّه مع كلّ ما واجهته العائلة فإنّ المستشفيات لم تجرّب ولو لمرة واحدة أن تساندها في محنتها. حتى حين طرح القاضي بيطار الصلح فإنّه لم يلمس جدّية لدى أيّ من المدّعى عليهم للنقاش. وهذا ما ركّز عليه الوالد في فيديو نشره على فيسبوك لافتاً إلى أنّه “جرى اجتماع مع المدعى عليهم وأبدينا تأييداً لاقتراح القاضي بأن تتولّى المستشفيات علاج إيلّا، قالوا أنهم سيردون علينا لكن لم يعاودوا التواصل معنا”.
ولفت طنّوس إلى أنّ التعويضات التي يتكلّمون عنها أنّها “فاحشة” هي تعويضات لجزء بسيط من الكلفة الحقيقية لعلاج إيلّا، وذكر الأسعار الباهظة للأطراف الصناعية التي لا يغطيها الضمان وهي تكلّف عشرات آلاف الدولارات، وعمليات الترميم، والمرافقة طيلة عمرها لمساعدتها في أداء أبسط الأمور. وقال: “أعيدوا يدي وقدمي ابنتي ولا نريد مالاً”.
للاطّلاع على الحكم