تَبدأ رحلتي اليومية مع الحياة من نقطة واحدة دائما، وهي محطّة سيارات التاكسي، وتَنتهي معها. أفكّر كثيرا قبل الخروج والانطلاق نحو العالم الخارجي، كيف سأمضي كل هذا الوقت وأنا في التاكسي؟كيف سأتحمّل هذا التلاصق المحتوم؟ أربعة أشخاص في سيارة خُردة قديمة محشورين كعلبة السردين.
التاكسي في مدينة صفاقس، هو في الأصل تاكسي فردي بأربعة مقاعد فقط. لكنه يتحوّل إلى جماعي، ويفتقد إلى أدنى شروط التاكسي الجماعي. نتَقاسم الأجرة فيه بتعريفة فردية يَفرضها السائقون كلّ فترة إثر زيادة أسعار الغاز أو الأداءات، ومؤخّرا الزيادة المُشطة في التسعيرة التي فرضتها وزارة النقل.
في التاكسي، نشتمّ روائح بعضنا، نُلقِي نظرة خاطفة أحيانا على هواتف بعضنا، ونُطالع الرسائل الخاصة والحميمية ونسترق السمع إلى المكالمات الهاتفية. نستنشق غبار السيارة وغبار الشوارع.
نحن مُجبرون على فعل ذلك، فغالبا ما أخرُج محمّلةً بأكثر من حقيبة. بضاعتي التي أعرضها في المحلّ بالمدينة العتيقة، حقيبة الغداء، حقيبة أخرى مُحمّلة بالوثائق الإدارية ومحفظتي. أجدني محشورة عُنوةً بين حقائبي، أتشبّث بها وأجمعها إلى حضني، وألملِم نفسي لأُفسح المجال لرِجلَيْ الراكب الذي يجلس بجانبي، فهو ليس مضطرّا على لملمة نفسه، ولا يُبدي استعدادًا لفعل ذلك.
هذا التلاصق اليومي يُشعرني دائما بالتوتر في مدينة تُعتبر ثاني أكبر مدن تونس. منذ سنوات اضطرّتنا الحياة إلى مغادرة منازلنا وقُرانا وخرافات أجدادنا والخبز المنزلي لجداتنا نحو مدينة صفاقس، بحثا عن عمل يحفظ كرامتنا وعن حياة أفضل.
هذه المدينة تكاد لا تعترف بالنقل العمومي، فالأصل في الأشياء أن نعتمد على الحافلات والقطار والمترو كوسائل نقل عمومية مُتاحة لعامة الشعب. لكن الحقيقة أبعد من ذلك، فنحن نعتمد على سيارات التاكسي، التي تكاد تكون وسيلة النقل الوحيدة المتاحة.
منذ أقل من سنة، نفّذَ أصحاب سيارات الأجرة إضرابا عاما حضوريا بيومين، ممّا تسبّب في شلّ الحركة تماما؛ طلبة وتلاميذ تخلّفوا عن المعاهد والكلّيات، عمّال وعاملات مَشوا كيلومترات على الأرجل إلى أن يجدوا حافلة أو شخصا مارا بسيارته يتطوّع بدعوة البعض منهم وإيصالهم.
وأحيانا نجد أشخاصا بسيارات مدنية خاصة يبتّزون الناس ويعرضون عليهم خدمة النقل مقابل أجرة باهظة.
أحيانا لا نذهب مباشرة نحو طرح المشاكل اليومية الحقيقية، إذ أن إحدى أزماتنا الكبرى في البلاد هي أزمة نقل عمومي يحترم الحدّ الأدنى من كرامة الإنسان وسلامته. لكن للأسف، نتحدّث فقط عن الالتجاء إلى القطاع الخاصّ. إذ أنّ مدينتنا تعتمد فقط على الحافلات كوسيلة للنقل العمومي، وهذه الحافلات لم تعُد قادرة على تأمين سفرات منتظمة، وأصبح جزء منها خارج الخدمة.
في هذه المدينة التي تكتظ بالسكان والتي يحلُم سكانها بمنافسة المدن الكبرى في العالم المتقدم اقتصاديا و سياحياّ، يجب أن تُجهّز نفسك لكل أنواع الضغط. لقد اقتنيتُ منذ مدة سمّاعات أذن وأصبحت أعلِى من صوت الموسيقى حتى أتجنّب إزعاج صفّارات السيارات، هنا لا يكّل أي سائق من استعمال منبّه السيارة، ومع كل هذا عليّ أن أنتبه أيضا إلى المُجاوزة الممنوعة واختراق الضوء الأحمر و عدم احترام الأولوية. أصبحت أفقه قانون الطرقات دون أن أتعلّمه، فهذا أيضا يدخل ضمن الأشياء التي يجب أن أتعلمها حتى وإن كنت لا أحتاجها. وقد يُصادف أحيانا أن أدخل في شجار مع صاحب سيارة لم يحترم الأولوية، وكاد يصدمني. عليك أن تقرأ حساب حركة السيارات هنا، وتستبقَ ثقافة التجاوزات، وتركن بنفسك إلى رصيف ضيق جدا وتسمح لأصحاب السيارات بالمرور. غالبا ما يسألني أصدقائي غير القاطنين هنا عن كيفية التأقلم مع هذه التصرفات الجنونية، فأجيبهم: “نحن نُسارع الوقت هنا”.
في الحقيقة، انتهَجت السلطة منذ عقود سياسة التخلي عن النقل العمومي، وأفسحت المجال للقطاع الخاص. هكذا بدأت الأزمة الحقيقيّة التي نعيشها. تجد نفسك مجبرا على التأقلم مع الوضع العام وسياسة البلاد؛ تستعمل سيارات الأجرة الخاصة، تخضع للتعريفة التي يتم فرضها عليك عُنوة، أو تستعمل الحافلة العمومية التي لا تأتي في وقتها، فتُحشَر وسط مائة شخص في حافلة واحدة. أما بالنسبة للنساء فتكون أوضاع التنقل في الحافلات أكثر تعقيدا وصعوبة، فما عليكِ سوى البحث عن مقعد أو زاوية بعيدة عن أيادي المُتحرّشين الممتدة من كل مكان.
أذكر أنه في اليوم الأول لإضراب سواق التاكسي، السنة الفارطة، اضطررت إلى المكوث وسط المدينة في ضيافة أصدقائي. وذلك بعد ساعتين من البحث الفاشل عن حافلة والركض المتواصل وراء سيارات الأجرة بين المدن “اللواج” (وهي سيارة خاصة تنقل المسافرين بين المدن والجهات وليس داخل المدينة الواحدة) فهم أيضا استغلوا الفرصة. ومُشاجرات لا تنتهي مع أصحاب السيارات الفخمة لتفادي التحرش الذي تعرضت له، رغم أن هناك شرطيين يقفان على بعد أمتار قليلة مني، ويقومان بتفقد وثائق المواطنين بمحطة الحافلات، ولكن لم يُحرّكَا ساكنا.
كنا مجموعة من الأفراد نركض، كسرب نحل في اتجاه واحد، وراء حافلة ظننا خطأً أنها متّجهة نحو حيّنا. كان المشهد أشبه بمطاردة ثور فارّ من حظيرته. بعد كل هذا الفشل في العودة إلى الحي، اضطررت إلى الانسحاب و تركت أمي تمضي ليلتها وحيدة.
في هذه المدينة، إن لم تَقبل بكل هذه الظروف، فما عليك سوى شراء سيارة. حتى صارت المدينة تعج بالسيارات وتختنق بها. أكاد أحيانا لا أشاهد حافلة في طريقي، لا شيء سوى التاكسي والسيارات المتكاثرة. يندرج هذا أيضا في فسح المجال إلى المستثمرين في قطاع السيارات من أجل فتح مشاريعهم ونياباتهم دون قيد أو شرط، وفي الأثناء تُواصل أسعار السيارات نسقها المتصاعد.
أما نحن العمال والعاملات، الطلبة والتلاميذ نضطرّ على استعمال سيارات التاكسي المهترئة، ونتحمّل روائح الغاز و أحيانا غازات أخرى. فلا حلّ لنا أمام كل هذا. يُعبّر كل منا عن غضبه وسخطه بطريقته الخاصة، وأحيانا يغضب الجميع من إضراب سيارات التاكسي. ولكن هذا السّخط لا يَنظر بوضوح إلى الهيكلة غير العادلة التي تعيشها المدينة: اهتراء البنية التحتية وسياسات عمومية هشة، وانعدام الاستثمار في النقل العمومي.
فلنفترض أنني امتلكت المال لأشتري سيارة، في الحقيقة لا أريد ذلك، وإن فعلتها فسيكون على مضض. هنا أيضا ستُواجهك مشاكل من نوع أخر؛ لن تجد أين تركن سيارتك، فمعظم المحلات والمباني لا تحترم أبسط أساسيات العمران والبنية التحتية، ولا أحد يُراقب ذلك.
السماء في هذه المدينة تمتاز بلون رمادي، ويُجمع السكان على أن هذه الرّمادية سببها الدخان المتصاعد من المصانع والسيارات. الشعور بالاختناق من ازدحام الطرقات والروائح بأنواعها وأصوات المنبهات لم يَعد غريبا.
يبدأ نهارنا باكرا جدّا حتى نصل في وقتنا أو ربما متأخّرين بعض الشيء. نتصارع مع الوقت حتى نُحافظ على الاعتقاد الشهير: “سكان مدينة صفاقس مُثابرون ويحبّون العمل أكثر من أي شيء”.
بعيدا عن مدى صحة هذا الاعتقاد، فكل ما أعرفه أننا تعودنا على العمل ويَقهرنا الوقت والاكتظاظ. فماذا لو اعترفت لنا السلطة بحقنا في نقل عمومي مريح ومنتظم؟ كنا سنربح ساعة من الزمن على الأقل مع عائلاتنا وأطفالنا، وساعة أخرى مساءً نذهب فيها إلى قاعة سينما أو عرض موسيقي، أو حتى الجلوس على كراسي الحدائق العمومية والاستماع إلى الموسيقى. أو ربما أيضا كانت البلاد سوف تجني الكثير وتتجنب خسائر إنسانية واقتصادية كبيرة، عوضا عن إقامة الندوات الرسمية المتكررة -وبلا فائدة- حول التغيرات المناخية وأزمة التلوث الصناعي. لك أن تتخيل مثلا الآثار الإنسانية والاقتصادية لساعة -صباحا ومساءً- مهدورة في الركض وراء تاكسي بالنسبة لأكثر من ثلاثمائة ألف عامل وعاملة. فبنفس الظروف الصباحية تنتهي رحلة العودة إلى المنزل في المساء. تنتهي بكثير من الركض والبحث، لذلك تعودت منذ مدة أن لا أغادر محل عملي بين الساعة الرابعة والثامنة مساءً، أو أقضّي وقت الانتظار مع أصدقائي حتى يصبح بإمكاني العودة إلى بيتي بأخف الأضرار النفسية والجسدية الممكنة.
أجد تاكسي نهاية المساء، أتقاسَمها مع ثلاثة أشخاص آخرين، أتحمّل مرة أخرى تطفّل أحدهم أراد أن يفتح معي الحديث في مواضيع غير مهمة ومزعجة. قرّرَ لوحده أنه من واجبي أن أحدثه، أتشاجر أحيانا مع رجل بجانبي وضع يديه على فخذي، يغضب وينعتني بأبشع النعوت ويشتم والديّ، لأنني لم أصمت، فشعر بمساس في ذُكورته المعطوبة.
أصل في معظم الأحيان مُنهكة، مستنزفة، لا أقوى حتى على الأكل والحديث. ألقي بجسدي وأتوسّل النوم الذي لا يأتي -عادة- بسهولة. مع مرور الزمن فقدت أيضا الرغبة في الحديث والنقاش، حتى مع عائلتي.
أعود إلى مواجهة كل هذا مجددا، وأكتشف أن هذه الظروف القاسية لم تعُد تثير شيئا في الناس من حولي، فهم يُسارعون الوقت، ولا وقت لديهم للاحتجاج فقد يخسرون ساعة عمل أخرى.
يُثابر النظام في جرّنا كل يوم إلى معارك وهمية، تجعلنا ننسى مشاكلنا الأساسية، فنتركه بسلام ونتصارع فيما بيننا. نتصارع حول: سيارة أجرة، طابور خبز، صفوف الإدارات الطويلة.
في مدينة صفاقس أصبحَت هناك نكتة حزينة يُردّدها الجميع: شركة المترو الخفيف التي بدأت الدراسات حولها منذ سنة 2011، يعمل بها موظفون ومدير عام، ولديها مقر، لها مصاريفها وميزانيتها، ولكن لا وجود للميترو: “شركة المترو الخفيف بصفاقس من غير مترو”.