حكاية ضيعة الشّعَّالْ من الاستعمَار إلى اليوم: آثَار السّيَاسات الفلاحية للدولة


2024-11-14    |   

حكاية ضيعة الشّعَّالْ من الاستعمَار إلى اليوم: آثَار السّيَاسات الفلاحية للدولة

“زَياتين مُتيَبِّسَة” وأطنان من الفُستق “أكلها الفأر” و”37 جرّارًا فلاحيّا تَمّ بيعها مقابل 167 ألف دينار”، ووَحدات إنتاج مُغلقة ومباني مهجورة ومعدات وتجهيزات تالفة و”لوبيات” تسعى للاستحواذ على أملاك الشعب و”المافيا مستاءة من الغيث النافع” و”حرب التحرير”؛ هذا أبرز ما عَلِق في أذهان التونسيين من الكلمات التي ألقَاها رئيس الجمهورية قيس سعيّد أثناء زيارة أدّاهَا إلى الضيعة العمومية “المركب الفلاحي-الصناعي الشعال” المعروفة باسم “هنشير الشعال”، يوم 30 أكتوبر الفائت في ولاية صفاقس. 

هذا المُركّب الذي تَتوزّع أراضيه بين أربع معتمديات: المَحْرِس وعْقَارب والصْخِيرة وبئر علي بن خليفة، يُعَدّ من بين الأكبر في تونس، واشتُهِر بأشجار الزيتون التي كانت تُقدر بحوالي 400 ألف شجرة، وبجودة زُيوتِه وتَنوّع أنشطته ومنتجاته الفلاحية والصناعية التحويلية، لكنه يعيش منذ سنوات طويلة حالة من التردي المتفاقمة التي قلَّصت مردوديته بشكل كبير وأفقدتَه جزءً مهمّا من إشعاعه الجهوي والوطني.

تَلَت زيارة الرئيس عملية إيقافات على خلفية “شبهات فساد” وإضرار بالملك العمومي شملت مسؤولين وموظفين وأسماء بارزة من بينهم رجل أعمال ووزير فلاحة سابق. 

من السّهل تلخيص مشاكل “هنشير الشعال” في تقصير أو “فساد” بعض المسؤولين “المتواطئين” مع رجال أعمال خلال السنوات الأخيرة، لكن الخلل أعمق وأقدم من ذلك بكثير، كما أن تاريخ “الهنشير” الطويل الذي يمتد لأكثر من قرن يَختزل نوعا ما تاريخ تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم، ويستحق التوقف عنده. وتُثير الزيارة الرئاسية لهذا الهنشير وضيعات عمومية أخرى في المدة الأخيرة أسئلة حول مستقبل الأراضي الدولية الفلاحية وموقعها في السياسات الاقتصادية-الاجتماعية للدولة في السنوات القادمة. 

125 عاما من التحولات  

في 1885، أي بعد أربع سنوات من استقرار المستعمر الفرنسي في تونس، اكتشَف عالم الجيولوجيا الفرنسي فيليب توماس وجود طبقات مُهمّة من فوسفات الكالسيوم “الفسفاط” في منطقة جبال ثَالْجَة في المتلوي (ولاية قفصة جنوب غرب البلاد). وبالطبع أثار الاكتشاف الجديد أطماع الرأسماليين الفرنسيين وحاول الكثير منهم الحصول على رُخصة استغلال هذه الثروة الهائلة التي قُدِّرَ احتياطيها آنذاك بمليارات الأطنان. أسفرت الضغوط الفرنسية عن رضوخ “علي باي” حاكم تونس ما بين 1882 و1902، وتوقِيعِه اتفاقية في 15 أوت 1896 مع مدير الأشغال العامة الفرنسي ومستثمر فرنسي، تقضي بمنح المستثمر رخصة استغلال احتياطي الفوسفاط لمدة 60 عاما في منطقة تَبلغ مساحتها 50 ألف هكتار من “الأراضي البيضاء” جنوب غرب قفصة مقابل منح الدولة التونسية فرنك واحد عن كل طن مستخرَج، وربط مناجم قفصة بميناء صفاقس بسكة حديدية يبلغ طولها حوالي 250 كيلومترا يستغلها المستثمر لمدة 60 عاما أيضا. وفي ماي 1897 صدر “الأمر العلي” القاضي بالموافقة على إنشاء “شركة الفسفاط والسكة الحديدية بقفصة” لتنطلق مسيرة واحدة من أكبر الشركات الاستعمارية آنذاك والعمومية حاليا. لكن ما علاقة “هنشير الشعال” بكل هذا؟ 

ضيعة استعمارية نموذجية( 1889 – 1961)

بالإضافة إلى رخص استغلال المناجم والسكة الحديدية، مَنحَ الباي الشركة الاستعمارية الناشئة 30 ألف هكتار من الأراضي في جهة صفاقس -مركزها قرية “الشّعال”- ملكية كاملة من دون أي مقابل مادي مع اشتراط تعمير الأرض وغراسَة نصفها على الأقل بالزياتين. الأغلب على الظن إن هذه “الهدية” كانت تلبية لرغبة فرنسية في تكوين رصيد عقاري استعماري يُغري الفرنسيين بالقدوم إلى تونس والإسهام في السياسة الاستيطانية، وربما لم تكن هناك نوايا لخلق منشأة فلاحية ستصبح فيما بعد واحدة من أكبر غابات الزيتون في العالم. 

لم تكن الأرض الممنوحة للشركة بيضاء تماما، بل كانت تَعدّ حوالي 16 ألف شجرة زيتون أغلبها مُتهرّم. انطلقت أشغال تهيئة الأرض في 1899 بمحاولة إنقاذ وتثمين الأشجار القديمة وغراسة آلاف من شتلات الزيتون.  

قبيل الحرب العالمية الأولى بدأت أشجار الزيتون الجديدة تدر أرباحًا تُغطي تقريبا نفقات “الهنشير” مع تحقيق فائض في بعض السنوات، وتَمّ في سنة 1912 إنشاء ضيعة رابعة. ومع نهاية سنة 1913 تجاوزَ عدد زياتين “الهنشير” 81 ألف شجرة وصارت المواشي تُعدّ بالآلاف. لا نجد معطيات كثيرة حول مردودية “الهنشير” خلال فترة 1914-1919 لكن من المؤكد أنه تأثّر بظروف الحرب والركود الاقتصادي ونقص اليد العاملة. لكن بداية من موسم 1920-1921 بدأ “الشّعّال” يعيش عصره الذهبي الأول، إذ درّت أشجار الزيتون أرباحا قُدّرَت بحوالي 240000 فرنك، وتم بناء مخازن لحفظ المحصول، ثُمّ بُنيَت معصرة زيتون على أرض “الهنشير” يُمكنها معالجة 40 طنا يوميا، وبلغ عدد رؤوس الغنم والماعز 6000 رأسا. وبُنيَت معصرة ثانية في سنة 1923. 

خلال فترة ما بين الحربين بلغ العدد الإجمالي للزياتين حوالي ربع مليون شجرة، وتمَّ تطبيق تقنيات ومنهجيات الفلاحة الرأسمالية العصرية بشكل جعل “الشعّال” مثالا للمُستغلّة الفلاحية الاستعمارية النموذجية، وتطورّت المداخيل مع تنويع الأنشطة مثل تربية الخيول وإنتاج العسل والألبان واللحوم الحمراء وإضافة غراسات جديدة في نهاية خمسينيات القرن الفائت كأشجار اللّوز والفُستق.  

“الشّعَّال” مرآة لسياسات دولة الاستقلال (1964 إلى اليوم)

استعادت الدولة التونسية ملكية الهنشير من شركة الفسفاط في 1962، وكان من أثمن “المجوهرات” التي ضمّتها إلى “ديوان الأراضي الدولية” في 1964 تزامنا مع الجلاء الزراعي وتأميم أراضي المستعمرين الفرنسيين، وأنشأت لإدارته “شركة المركب الفلاحي-الصناعي بالشّعال”. في تلك الفترة تَبنّت الدولة المستقلة حديثا سياسة “التعاضديات” (تعاونيات في نظام يمكن وصفه بـ”رأسمالية الدولة”) واعتبَرَت الفلاحة قاطرة أساسية لهذا المشروع، ومنحت الأراضي الدولية الفلاحية -ومن أهمها هنشير الشعّال- مكانة عليا كنموذج لما يجب أن يكون عليه النشاط الفلاحي في البلاد. وحتى عندما سار نظام الحبيب بورقيبة مطلع سبعينيات القرن الفائت في نهج “الانفتاح الاقتصادي” فإنه لم يُهمِل القطاع الفلاحي تماما ولم يتخلّ عن الضيعات الدولية الكبرى وإن بدأ في اتباع سياسات فلاحية أكثر ليبرالية مع اعتماد الإنتاج المكثف والتركيز أكثر فأكثر على المنتجات المعدة للتصدير بدعوى جلب العملات الصعبة وتحقيق “الأمن الغذائي”. 

شَهِدَ هنشير الشّعَّال عصرًا ذهبيّا ثانيا خلال الفترة الممتدة ما بين بداية السبعينيات وأواخر الثمانينيات، إذ تَمَّت غراسة أكثر من 100 ألف شجرة زيتون جديدة ليُصبح العدد الجملي في حدود 400 ألف زيتونة تقريبا، وبَذلَت إدارة المُركّب جهودا كبيرة لتنويع المداخيل والأنشطة الفلاحية والصناعية التحويلية عبر إنشاء قطيع من عجول التسمين وأبقار الحليب، وبناء مداجن لإنتاج الدجاج والبيض المعدّين للاستهلاك وتطوير قطيع الأغنام والماعز، وإنشاء مصانع لإنتاج الأعلاف والصابون والزرابي، بالإضافة إلى بناء معصرة زيتون ثالثة. كما لعب “الهنشير” دورا في تطوير غراسات الزيتون جهويا ووطنيا وتكوين كوادر وتقنيين، وبَلغَ عدد العمّال القارين في الثمانينيات حوالي 1000 عامل وعاملة، فضلا عن آلاف العمال الموسميين خلال مواسم الجني أغلبهم من سكان  المعتمديات التي تتقاسم أرض “الهنشير”.  

بدأت حالة هنشير “الشّعّال” وضيعات دولية أخرى في التردي منذ بداية التسعينيات لأسباب متعددة، بعضها مناخي وبيولوجي يتعلق بتهرّم الأشجار وتتالي مواسم الجفاف، وبعضها الآخر يتعلق بسوء الإدارة ونقص الرقابة وتقادم المنشآت والمعدات ومختلف التجهيزات نظرا لنقص الصيانة ومشاريع التجديد والتطوير.

في التقرير الرقابي حول “ديوان الأراضي الدولية” لفترة 2002-2005 الذي أصدرَته “دائرة المحاسبات” في جوان 2006، نجد أن الديوان يُعاني “اختلالا على مستوى التوازنات المالية” ممّا أثَّرَ في “نسق الاستثمارات”. ويُشير التقرير إلى تبعات هذه الوضعية المالية “التي حالت دون تمكّن الديوان من صيانة وتحديث المشاريع المنجزَة والقيام بالاستثمارات الجديدة اللازمة لتنمية نشاطه ومواكبة التطورات التكنولوجية التي شهدها القطاع الفلاحي”، مؤكدا “تسبّب ضعف نسق الاستثمارات في تقادم وسائل الإنتاج ممّا انعكس سلبا على مردودية جل الأنشطة وخاصة منها الزراعات الكبرى والأشجار المثمرة وتربية الأبقار والدواجن”. ونبّهَ التقرير إلى إشكالات أخرى مثل النقص في الكوادر البشرية في الإدارات وضعف منظومات المحاسبة والمعلوماتية والتخطيط على المستوى المركزي والمحلي. وكان مُرَكّب “الشعال” من أكثر المؤسسات حضورا في التقرير الرقابي خاصة فيما يخص الزياتين وإنتاجها، إذ تمّت الإشارة إلى أن أكثر من 44 % من أراضي المُرَكّب الفلاحي تحتوي على غراسات متهرّمة يفوق سِنّها 80 سنة، وأن برامج التشبيب لم تنطلق رغم وضعها منذ سنوات، إضافة إلى تأخر عملية الجني التي صارت مدتها تتجاوز 160 يوما، في حين أن المدة القصوى المفترضة هي 120 يوما، مما تسبب في زيادة إنتاج الزيوت الوقادة متدنية الجودة والسعر -التي بلغت نسبتها 37 % من إجمالي الإنتاج في موسم 2003– 2004- وهو ما يؤثر على محصول الموسم الموالي.   

هكذا كان وضع الأراضي الفلاحية الدولية قبل 20 عاما، ومن المؤكد أن الدولة هي المسؤول الأول عن هذه الأوضاع التي لم تَقع معالجتها بعد الثورة، بل تردّت أكثر. في 2013، وضعت إدارة ديوان الأراضي الدولية خطة لإنقاذ هنشير الشعال وتطويره لكنها بقيت حبرا على ورق إلى حد الآن حسب تصريح المدير الحالي للديوان في جويلية 2024. في العقدين الأخيرين شهد إنتاج الشّعَّال من الزيتون تراجعا حادّا، وكذلك الأمر بالنسبة للحوم والألبان وبيض الدجاج، وأُغلِقَت أغلب الوحدات الصناعية التحويلية كمعامل العلف والصابون والزّرابي وتَراجَعت طاقة عمل المعاصر وتقلّصت أعداد العمال القارين إلى أقل من النصف (حوالي 400 عامل وعاملة) وشهدت عدة معدات ووسائل نقل أشكال مختلفة من التّلَف بسبب نقص الصيانة (ربما بشكل قصدي في بعض الحالات خدمة لمصالح أشخاص بعينهم) وتوالَت عمليات نهب المحصول من قبل “مجهولين”، حتى صارت القضايا العدلية التي رفعتها الإدارة تعد بالعشرات. كما أن إدارة المركب الفلاحي الصناعي اختارت في السنوات الأخيرة بيع جزء هام من محصول الزيتون على رؤوس أشجارِه إلى مستثمرين خواص يستقدمون معهم الأيدي العاملة من مناطق بعيدة عن الهنشير، ممّا أثار غضب الأهالي الذين كانوا يستفيدون من فرص العمل الموسمية ويتمتعون بالنقل المجاني خلال تلك الفترات فضلا عن المنافع العينية من التقاط حبات الزيتون والأخشاب التي تُخلّفها عملية الجني.

وقبل الزيارة الرئاسية إلى ضيعة “الشعّال” بأشهر، أكّدَ مدير ديوان الأراضي الدولية، خلال الندوة الصحفية الدّوريّة لوزارة الفلاحة والموارد المائيّة والصيد البحري التي عُقدَت يوم 13 جويلية 2024، تردي الأوضاع والإنتاج في “هنشير الشعال”، وتحدّثَ بالتفاصيل عن أهم المشاكل التي يُعاني منها من دون الإشارة إلى شبهات فساد، وأوضح أهم الإجراءات التي سيتّخذها الديوان لمعالجة الأوضاع.  لذلك نستنتج من كل ما سبق أن ما “اكتشفه” رئيس الجمهورية خلال زيارته للمركب الفلاحي-الصناعي لم يكن مفاجئا ولا طارئا، بل هو نتيجة طبيعية للسياسات الفلاحية والاقتصادية للدولة.  

الأراضي الدولية منصة “الإقلاع”؟ 

تشهد البلاد في الآونة الأخيرة سلسلة من الزيارات “غير المعلنة” إلى مركبات فلاحية تتبع “ديوان الأراضي الدولية” انطلقت بعيد فوز الرئيس سعيّد بعهدة رئاسية ثانية في 6 أكتوبر 2024. زيارات استهلّها وزير الفلاحة عز الدين بن شيخ في المركب الفلاحي-الصناعي “غزالة ماطر” في ولاية بنزرت، يوم 12 أكتوبر الفائت. ثم تلتها زيارة رئيس الدولة إلى مُرَكّب “الشّعال” في 30 أكتوبر، وبعدها زيارة وزير الفلاحة لمُركّب “النفيضة” في ولاية سوسة في 5 نوفمبر الجاري، ووصولا إلى زيارة الرئيس سعيد لنفس المُرَكَّب في 11 نوفمبر الجاري. مباشرة بعد زيارة “هنشير النفيضة” اجتمع رئيس الجمهورية بكل من رئيس الحكومة ووزيرَي الفلاحة وأملاك الدولة ومدير ديوان الأراضي الدولية وأسدَى تعليماته باتخاذ جملة من “الإجراءات العاجلة” للحفاظ على ملك الدولة الخاص والعمومي، وفَتح تحقيقات لتحميل المسؤولية لكل من “ثبت تقصيره أو تورطه في التفريط في أملاك الشعب التونسي”. ومن المُرجّح أن تتعاقب الزيارات والإقالات والإيقافات في المدة القادمة. 

في 25 أكتوبر 2021، وخلال لقاء مع وزير أملاك الدولة، شدّد قيس سعيّد على “ضرورة الحفاظ على أملاك الدولة وإسنادها للاستغلال على وجه الكراء لفائدة الشباب العاطل عن العمل خاصة”، كما عبّر عن رفضه إسناد “الأراضي الدولية بعقود مبرمة برشاوي وبأثمان زهيدة لأشخاص بناء على انتماءات سياسية وبدعم من تنظيمات حزبية”.

ويبدو أن الرئيس كان يُفكر منذ ذلك الوقت في إمكانية توفير أراضي فلاحية يستغلها باعثو “الشركات الأهلية”. هذه الشركات تُشكّل العمود الفقري للبرنامج الاقتصادي لقيس سعيد، ويعوّل عليها كثيرا كـ”رافعة للتنمية والتشغيل وخلق الثروة”. لم ينص المرسوم الرئاسي عدد 15 الصادر في 20 مارس 2022 والمتعلق بالشركات الأهلية على حقها في استغلال الأراضي الدولية بأي شكل، واقتصر على ذكر “الأراضي الاشتراكية” (أراضي قبلية مملوكة جماعيا) لكن ما جاء على لسان رئيس الجمهورية في 7 نوفمبر 2022 خلال لقائه بوزير أملاك الدولة والشؤون العقارية يُفصح عن توجّه لمنحها هذا الحق. أكد سعيّد “أن المرسوم المتعلق بهذا الصنف الجديد من الشركات أخذ في عين الاعتبار النصوص القائمة وإذا كان هناك نصّ قديم يتعارض مع نص آخر فالنصّ الجديد يجب أن يُطبّق. النصوص لا يجب أن تقف حائلا أمام إرادة الشعب خاصة وأن العديد من المواطنين عبروا عن رغبتهم في إنشاء شركات أهلية يخلقون الثروة بواسطتها ويساهمون في التنمية في كافة المجالات”. 

وتتالت التصريحات الرئاسية المشابهة في سنتي 2023 و2024. ومن الواضح أنه تم المرور إلى السرعة القصوى في الأشهر القليلة الفائتة، إذ تمّ عقد مجلس وزاري مُضيق حول وضع ديوان الأراضي الدولية في 8 أكتوبر الفائت، أكّد خلاله رئيس الحكومة على ضرورة “إيجاد معالجة جذرية لاستغلال الأراضي الفلاحية المسترجعة لتكون قاطرة للتنمية بالنسبة لمختلف أشكال الاستثمار المخوّلة قانونا لفائدة المستغلّين وكذلك للشركات الأهلية”. وخلال لقائه بوزير الفلاحة، وجدي الهذيلي، تحدث رئيس الجمهورية على وضع ديوان الأراضي الدولية و”ضرورة تطهيره”، وطالب بإعداد نص جديد “يمنح الأولوية خاصة للشباب لبعث شركات أهلية فحوالي 230 ألف هكتار من الأراضي الدولية إما أنها مهملة وإما أنها مستغلة بأبخس الأثمان لفائدة أشخاص منذ عقود”.

لكن لا يوجد تصوّر واضح للبديل الذي ستُقدّمه هذه الشركات الأهلية في قطاع الفلاحة. ما هي الفروق الحقيقية بينها وبين تعاضديات الستينيات و”شركات الإحياء” الاستثمارية وغيرها من أشكال الاستغلال التي عرفتها الأراضي الدولية الفلاحية منذ أكثر من 60 عاما؟ لا نعرف إذا  ستكون مستقلة في قرارها أم إنها ستعمل في “انسجام” مع سياسات الدولة وتوجيهات السلطات المحلية والمركزية.  هل سيتم توجيهها نحو إنتاج سلع موجهة للسوق المحلي أم سيُسمَح لها بالانخراط في ديناميكية الفلاحة التصديرية المستنزفة للتربة والمياه؟ 

لا نستطيع الجزم إن كانت المركبات الفلاحية-الصناعية ستدخل ضمن الرصيد العقاري العمومي الذي سيمنح حق استغلاله للشركات الأهلية، لكن يظل أمرا غير مستبعد في ظل تمسك رئيس الدولة بهذا الصنف من المؤسسات وإعلانه عشرات المرات ضرورة تذليل كل الصعوبات القانونية والمالية أمامها. وفي كل الأحوال يبدو جليا أن ملف الأراضي الدولية الفلاحية أصبح في أعلى الأولويات الرئاسية، وأن محاريث السياسة ستترك عليه أثرها الغائر مرة أخرى.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني