تفجرت قضية “المرأة السلالية” مع انطلاق مسيرات شاركت فيها عشرات من النساء القرويات اللواتي كسرن حاجز الصمت حول بعض الأعراف و”القوانين” التي تسود مناطق واسعة منسية من المغرب. هذه الأعراف التي ظلت وإلى وقت قريب ضمن الطابوهات، تؤول إلى حرمان شريحة واسعة من النساء من نصيبهن من استغلال الأراضي، وهن ما اصطلح على تسميته “النساء السلاليات”.
تعريف الأراضي السلالية
الأراضي السلالية أو أراضي الجموع أراض في ملكية الجماعة السلالية، ترجع ملكيتها للقبيلة وليس للفرد، كان يتم إستغلالها والإنتفاع منها عن طريق تنظيم “الجماعة” كأداة تنظيمية مؤطرة داخل القبيلة لفائدة العائلات المكونة لها وفقا لمنطق متكون من تقاليد وأعراف قديمة خاصة بها، قبل أن تتدخل الدولة في تدبير شؤون هذا النوع من الأراضي بخلق جهاز تابع لوزارة الداخلية، أصبح هو الوصي عليها بدل “الجماعة”.
وقد درجت الجماعات السُّلالِية في المغرب على منع نسائها من نصيبهن في الإرث المتأتي من الأراضي السُّلالية. وحسب إحصائيات رسمية، يقدر عدد الجماعات السلالية بما يناهز 4 آلاف و563 جماعة موزعة على 55 عمالة وإقليم. وتقدر المساحة الإجمالية للرصيد العقاري الجماعي بـ15 مليون هكتار، تشكل الأراضي الرعوية نسبة تفوق 85 في المائة منها، تستغل بصفة جماعية من طرف ذوي الحقوق، فيما توظف أهمّ المساحات الباقية في النشاط الفلاحي[1]. ومع التمدد العمراني للمدن في الآونة الأخيرة أصبحت بعض هذه الأراضي واقعة ضمن المدار الحضري، فيما أن بعضها الآخر عبارة عن أراضٍ سقوية، ومقالع أحجار ورمال وغيرها. وقد أدى هذا التطوّر إلى رفع قيمتها العقارية والمالية من دون أن يطرأ أي تغيير على إطارها القانوني المستمد من الفترة الإستعمارية في انقطاع تامّ عن الواقع.
تنظيم الأراضي السلالية
يعود تنظيم وضعية الأراضي السلاليّة للحقبة الاستعمارية. فمع دخول المستعمر إلى المغرب، وضع يده على الرصيد العقاري الجماعي وذلك عبر ظهير 1919[2]الذي نظم تدبيرها على نحو يسمح للدولة بالتدخل فيها. فقد جاء فيه بأن الأراضي الجماعية هي في ملك جماعات سلالية وتحت وصاية وزارة الداخلية، مانحا نواب هذه الأراضي حقّ توزيعها الدوري بعد وضع لائحة ذوي الحقوق، وكذا معالجة النزاعات بين هؤلاء والسهر على تنفيذ قرارات مجلس الوصاية. وسمح هذا القانون بإمكانية تفويت بعض الأراضي الجماعية من أجل الاستثمار فيها في إطار ما سمي بالتفويت قصد الانتفاع الدائم.
وصدر فيما بعد قانون 19 مارس 1951 بشأن الأراضي الجماعية الواقعة داخل المدارات الحضرية أو في ضواحي المدن، حيث سمح بتفويتها بعد موافقة مجلس الوصاية على ثمن البيع، على أن يخصص نصف عائدات البيع لشراء عقارات لفائدة الجماعة أو لإنجاز أشغال الإعداد الفلاحي على باقي الأرض.
وصدر قانون 25 يوليوز 1969 بشأن قانون الإستثمار الفلاحي في إطار توسيع المساحات المسقية وتكثيف الاستثمارات بالقطاعات السقوية، محدثاً تغييراً مهماً في طرق توزيع الأراضي الجماعية للرفع من مردوديتها. فأنشئت الملكية الفردية غير القابلة للتقسيم حيث وزعت الأراضي الجماعية على ذوي الحقوق. وأقرّ هذا القانون على أنه عند وفاة المستفيد فإن نصيبه لا يوزع بل يسند إلى أحد ورثته على أن يعوض باقي الورثة. وعند حدوث خلاف يتدخل مجلس الوصاية.
وأمام التوسع الحضري الكبير الذي عرفه المغرب خلال السبعينيات والثمانينيات، عاد ملف الأراضي السلالية إلى الواجهة. فقد صدرت دورية تحمل رقم 333 عن وزارة الداخلية، تنظم طريقة إقتناء أراضي الجماعات السلالية من طرف المؤسسات العمومية أو جماعات محلية لإنجاز مشاريع اقتصادية أو اجتماعية عليها. وقد وضحت هذه الدورية طرق تفويت هذه الأراضي بحيث فرضت ضرورة تخصيص قطع أرضية أو وحدات سكنية تمنح لذوي الحقوق فضلا عن تحديدها لثمن المتر المربع.
ورغم توالي صدور القوانين المنظمة لوضعية الأراضي السلالية، إلا أن رياح التغيير لم تمتدّ للأعراف السائدة التي كانت تقضي بحرمان النساء من الاستفادة من عائدات هذه الأراضي. واستمرت معاناة آلاف النساء السُّلاليات من الإقصاء والتمييز اللذين يطالانهن عند بيع هذه الأراضي التياشتغلن فيها: فيمنح الذكر نصيبه منها وتحرم الأنثىمع وجود اختلاف طفيف بين بعض الجهات. ففي بعض المناطق الجبلية، تخول الأعراف للذكور حظهم في الانتفاع من نصيب والدهم، وتخول للنساء نصف النصيب في السكنى فقط، وتبقى الأرض العارية من نصيب الرجال دون النساء. وفي المناطق الشرقية والجنوبية، علقت الأعراف الإستفادة من هذه الأراضي على زواج الذكر وتكوينه لأسرة، ولم تتح للنساء المعيلات أي حظّ منها إلا في أحوال ضيقة إذا تجاوز عمرهن 48 سنة. أما في جهات الغرب، فقد تم تفويت الأراضي الجماعية إلى شركات التعمير، وتم حصر الاستفادة منها على الذكور إبتداء من سن 16 سنة.
ويُغلّب هذا التنظيم منطق القبيلة الهادف إلى الحفاظ على الملكية الجماعية داخل نفس القبيلة، وينظر بارتياب لتمكين النساء من حقهن في الاستفادة من الأراضي مخافة زواجهن من خارج القبيلة.
بدء احتجاجات النساء السلاليات
انطلقت أولى الحركات الاحتجاجية النسائية من منطقة الغرب واتخذت شكل وقفات ومسيرات أمام سلطات الوصاية التابعة لوزارة الداخلية، طالبت بالمناصفة في عملية تفويت أراضي الجموع، قبل أن تتقدم مجموعة منهن بشكاية في الموضوع للجمعية الديمقراطية لنساء المغرب (نسميها الجمعية أدناه اختصاراً)، حيث انطلقت حركة مناصرة واسعة تميزت إلى جانب الخطوات الآيلة إلى تحسيس الرأي العام، بعدة خطوات[3]:
1- الرصد:بمجرد وضع شكاية النساء السلاليات من منطقة الغرب على طاولتها، راسلت الجمعية نساء من مناطق أخرى تعاني من نفس المشكل، حتى تتمكن من قياس مدى انتشاره وإعطائه الطابع الوطني.
2-تقوية قدرات النساء:قامت الجمعية بتتبع نساء بعض المناطق بطريقة منتظمة حتى تبقى على علم بمستجدات عمليات التفويت. كما نظمت لهن عدة دورات تدريبية حول القيادة النسائية، الترافع، التعبئة وتقنيات التواصل.
3-التعبئة وتأسيس تحالف: قامت الجمعية بتعبئة حلفاء من المجتمع المدني، من أبرزهم منتدى بدائل المغرب أول حليف للجمعية في هذه العملية، تلته بعد ذلك الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ومراكز الاستماع المنخرطة في شبكة أناروز. وهو ما ساهم في توسيع دائرة التحالف ليغطي كافة التراب الوطني بانضمام جمعيات وأحزاب.
4-التحسيس ومساءلة المسؤولين:راسلت الجمعية الجهات المسؤولة عن هذا الملف وفي مقدمتها مديرية الشؤون القروية التابعة لوزارة الداخلية، وكذا الفرق البرلمانية والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ووزارة التنمية الاقتصادية والأسرة والتضامن.
وقد مكنت هذه الخطوات من تشجيع نساء ينتمين إلى جماعات ومناطق أخرى على الإلتحاق بالحركة الإحتجاجية للنساء السلاليات ضمانا لحقوقهن. وهو الأمر الذي جعل من القضية تتجاوز الحدود الوطنية لتأخذ بعدا دوليا زكاه اهتمام الهيئات والمنابر الدولية والمنظمات الحقوقية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة باعتبارها مسألة تمس في جوهرها مبدأ المساواة بين الجنسين في الحصول على الحقوق الخاصة بهم في الإرث والملكية والاستفادة منها.
الداخلية تستجيب لمطالب الحراك النسائي
أمام حراك النساء السلاليات، أصدرت وزارة الداخلية دورية أولى[4]تنص على تمتيع النساء السلاليات من الإستفادة من التعويضات العينية والمادية الناجمة عن المعاملات العقارية التي تعرفها الأراضي الجماعيةوذلك إسوة بذوي الحقوق الرجال.
وبعد سنتين، أصدرت دورية أخرى[5]تدعو إلى استفادة النساء السلاليات من حق الانتفاع من الأراضي الجماعية موضوع تقسيمات جديدة من طرف الهيئات النيابية، وتنص على تمتيعهن بنصيبهن في مخلف موروثهن من الأراضي الجماعية.
ممانعة الأعراف أمام القضاء
رغم صدور دوريات وزارة الداخلية، استمرأغلب نواب الجماعات السلالية في رفض إدراج النساء ضمن لوائح ذوي الحقوق.
ومع ارتفاع وتيرة تفويت الأراضي الجماعية واستمرار إقصاء النساء من حقهن في الانتفاع، قررت الجمعية ومنتدى بدائل المغرب دعم النساء السلاليات في ممارسة حقهن في اللجوء إلى القضاء الإداري للطعن في قرارات مجلس الوصاية بخصوص تفويت أراضي الجموع، وقد استهدفت هذه المبادرة إنتزاع اجتهاد قضائي مبدئي تستند إليه النساء السلاليات في مناطق أخرى من المغرب لاسترجاع حقوقهن.
وبتاريخ 10 أكتوبر 2013، أصدرت المحكمة الإدارية بالرباط حكما مبدئيا تاريخيا ينتصر للمرأة السُّلالية ويمنحها حقها في هذه الأراضي لأول مرة، مستندة في ذلك على مبادئ الدستور والمعايير الدولية التي تسمو على الأعراف والقوانين. وهكذا ردت المحكمة الإدارية دفع الوكيل القضائي للمغرب بعدم قابلية قرارات مجلس الوصاية للطعن، استنادا إلى الفصل 118 من الدستور الذي يجعل “كل قرار اتخذ في المجال الإداري، سواء كان تنظيميا أو فرديا” قابلاً للطعن. كما ردت المحكمة الحجج المتصلة بأعراف الجماعة السلالية، على أساس قاعدة المساواة، ومراعاة مقاربة النوع التي ينص عليهما الدستور في فصوله (6 و19 و32)، وكذا النصوص الشرعية من قبيل حديث الرسول “النساء شقائق الرجال في الأحكام”، فضلا عن نصوص القانون الدولي ذات الصلة.
ولعل تاريخ صدور هذا الحكم القضائي التاريخي والذي يصادف الاحتفال باليوم الوطني للمرأة بالمغرب والمحدد في 10 أكتوبر من كل سنة يحمل أكثر من دلالة أهمها أن مسار الدفاع عن المساواة بين الجنسين المناصفة لا يزال طويلا، وأن العقلية الذكورية لا تزال متجذرة ليس فقط في العادات والأعراف والتمثلات السائدة داخل المجتمعات وإنما أيضاً في بعض التشريعات التي يبدو أنها أصبحت اليوم خارج إطار المنطق والتاريخ أيضاً.
نشر في العدد 4 من مجلة المفكرة القانونية تونس
[2]-يلاحظ أن قانون 1919 الذي ينظم الوصاية الإدارية على شؤون الأملاك الجماعية بالمغرب لا يتضمن أي بند صريح يمنع النساء من حقهن في عائدات هذه الأراضي.
[3]-النساء المغربيات وأراضي الجموع: بيان صادر عن الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب ومنتدى بدائل المغرب، بتاريخ02 يوليوز 2009.
[4]-دورية تحت عدد 60 بتاريخ 25 أكتوبر 2010 .
[5]-دورية تحت عدد 17 وبتاريخ 30 مارس 2012.