تضمن المعايير الدولية حقّ الضحايا في المشاركة في الإجراءات القضائية استنادًا إلى مبدأ المساواة أمام القضاء وتكافؤ الفرص القانونية بين أطراف الدعوى[1]. وفي إطار الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وإساءة استعمال السلطة كما هي حال جرائم التعذيب، يتوجّب على الدولة تسهيل استجابة الإجراءات القضائية والإدارية لاحتياجات الضحايا، بما فيها إتاحة الفرصة لهم لعرض وجهات نظرهم وأوجه قلقهم، وأخذها في الاعتبار في المراحل المناسبة من الإجراءات القضائية حيثما تكون مصالحهم عرضة للتأثّر، بما يعزّز إمكانية وصولهم إلى العدالة خلال المحاكمة[2]. كذلك تفرض اتّفاقية مناهضة التعذيب التي صادق عليها لبنان ضمان حقّ ضحايا التعذيب في رفع شكاوى إلى السلطات المختصّة وحقّهم في الإنصاف والتمتّع بحقّ قابل للتنفيذ في تعويض عادل ومناسب (المادّتان 13 و14).
وفيما يتعلّق بالمحاكم العسكرية، تؤكّد مبادئ ديكو أنّه يجب “ألّا تستبعد هذه المحاكم ضحايا الجرائم أو ورثتهم من حضور الإجراءات القضائية، بما في ذلك التحقيقات” (المبدأ رقم 16). ويجب أن تضمن الإجراءات القضائية في هذه المحاكم الاحترام الفعلي لحقوق ضحايا الجرائم فتكفل لهم الضمانات الآتية:
“(أ) أن يكون لهم حقّ الإبلاغ عن الوقائع الجنائية وعرضها على المحاكم العسكرية حتّى تتسنّى لهم إقامة دعوى قضائية؛
(ب) أن يكون لهم عمومًا الحقّ في التدخُّل في الإجراء القضائي بصفة طرف في الدعوى، وبخاصّة كمدعٍّ مدني، أو طرف ثالث متدخّل، أو طرف يقيم دعوى خاصة؛
(ج) أن تُتاح لهم سبل الانتصاف القانونية التي تكفل الطعن في القرارات والأحكام التي تصدرها المحاكم العسكرية والتي تكون مخالفة لحقوقهم أو مصالحهم؛
(د) أن تكفل لهم الحماية من سوء المعاملة ومن أيّ عمل من أعمال التخويف أو الانتقام التي قد تنشأ عن الشكوى أو عند المشاركة في الإجراءات القضائية.”
يتّضح لنا من مقارنة هذه المعايير الدولية مع نظام القضاء العسكري اللبناني، أنّ هذا الأخير لا يضمن حقوق ضحايا الجرائم التي تدخل ضمن اختصاصه. فخلافًا لما هي الحال أمام المحاكم الجزائية العادية، لا يحقّ للمتضرِّر من جريمةٍ اتّخاذ صفة الادّعاء الشخصي أمام القضاء العسكري، إذ تنحصر صلاحية هذا الأخير بدعوى الحقّ العام، ويكون للضحيّة الحقّ في اللجوء إلى القضاء المدني فقط للمطالبة بتعويض عن ضررهاـ ويتوقّف صدور الحكم في الدعوى المدنية حتّى فصل دعوى الحقّ العام من قبل القضاء العسكري[3]. كما ليس للقضاء العسكري الاستماع إلى الشاكي إلّا على سبيل المعلومات، أي من دون تحليفه اليمين القانونية خلافًا لما هي الحال لدى الاستماع إلى الشهود، وبهذا يبقى مضمون أقوال الضحيّة خاضعًا لتقدير المحكمة.
وعليه، يحرم قانون القضاء العسكري الضحيّة من تحريك الدعوى العامة أو من أن تتمثّل فيها كطرف أو كمدَّعٍ، فلا يمكن لها المشاركة في إجراءات التحقيق والمحاكمة أو تقديم الأدلّة والحجج القانونية التي تسهم في إثبات وقوع الجريمة وتحديد المسؤوليات حول الضرر الذي لحق بها. كما يحرمها من الحقّ في الطعن في القرارات الصادرة عن القضاء العسكري، والتي تمسّ بحقوقها.
ومن نتائج ذلك أنّه يتعيّن على الضحيّة أن تنتظر نتيجة الدعوى العامة أمام القضاء العسكري للمطالبة بحقّها في التعويض أمام القضاء المدني، وتكون في هذه الحالة ملزمة بالنتيجة التي وصلت إليها المحاكمة العسكرية من دون أن يكون بوسعها التأثير على مسارها. وهذا الأمر يشكّل مخالفة لمبادئ قانونية أساسية، منها مبدأ وجاهية المحاكمة الذي يضمن لكلّ طرف إمكانية أخذ العلم بجميع الأدلّة والحجج المعروضة أمام المحكمة ومناقشتها والتعليق عليها بهدف التأثير في قرار المحكمة[4]، والمبدأ العام المتفرّع عنه الذي يقضي بعدم جواز إلزام شخص بنتائج حكم قضائي لم يكن طرفًا في المحاكمة التي أنتجته.
وقد ظهرت نتائج حرمان الضحيّة من المشاركة في إجراءات التحقيق والمحاكمة أمام القضاء العسكري في قضايا التعذيب التي شملتها العيّنة.
في قضيّة زياد عيتاني، حيّدت النيابة العامة العسكرية وقاضي التحقيق العسكري عناصر أمن الدولة المشتبه بارتكابهم التعذيب بحقّ عيتاني، وادّعت حصرًا على شخصَين باختلاق الأدلّة حول تورّطه بشبهة التعامل مع إسرائيل (المقدّم في قوى الأمن الداخلي سوزان الحاج وإيلي غبش). وخلال محاكمة المتّهمين، استمعت المحكمة العسكرية لشهادة عيتاني بصفة شاهد في شباط 2019[5]. وفي حين لم يتمكّن عيتاني من تقديم مرافعته في القضيّة، جاءت المفاجأة في الجلسة الأخيرة من المحاكمة في أيّار 2019 حين قرّر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (بيتر جرمانوس) حضور الجلسة شخصيًّا (وهو أمر نادر) وترافع دفاعًا عن المقدّمة في قوى الأمن الداخلي سوزان الحاج المتّهمة بجناية التدخّل في اختلاق أدلّة بحقّ عيتاني، بدلًا من طلب إدانتها. وعليه، وبدلًا من أن يدافع ممثّل النيابة العامة عن الحقّ العام وأن يحرص على حماية حقوق الضحيّة المغيَّبة من إجراءات المحاكمة، ذهب في الاتّجاه المعاكس للدفاع عن المدّعى عليهم، ممّا يؤكّد مخاطر إقصاء الضحيّة عن المحاكمة.
وتبعًا لطعن المحكوم عليهما في حكم المحكمة العسكرية الذي أدانهما، عادت محكمة التمييز العسكرية ورفضت الاستماع إلى عيتاني، ومنع رئيس المحكمة آنذاك (طاني لطّوف) وكيلة عيتاني من حضور جلسة استجواب المتّهمين في آذار 2021 تحت حجّة تخفيف الاكتظاظ في قاعة المحكمة في سياق الإجراءات الصحِّية لمواجهة انتشار فيروس كورونا.[6] ولم يعدل عن موقفه إلّا خلال الجلسة التالية في نيسان 2021، وذلك بعد تدخُّل نقيب المحامين في بيروت آنذاك (ملحم خلف) وتقديم الوكيلة طلبًا خطّيًّا للسماح لها بحضور الجلسات. وقد قرّر حينها الاستماع إلى عيتاني بصفة شاهد[7]. وفي النهاية، أصدرت محكمة التمييز العسكرية حكمًا مخفَّفًا بحقّ المقدّمة في قوى الأمن الداخلي، إذ برّأتها من جناية التدخُّل في اختلاق الأدلّة (المادة 403 من قانون العقوبات) واكتفت بإدانتها بجنحة كتم جريمة المُخبِر إيلي غبش (المادّة 399 من قانون العقوبات)[8]. وفي حين كان عيتاني يرى أنّ دور الضابطة وصل إلى مستوى التحريض على الجريمة، لم يتمكّن من تقديم الحجج الواقعية والقانونية للتأثير في نتيجة المحكمة، بخاصّة لجهة تحديدها المسؤوليات. وأصبح عيتاني مُلزَمًا بنتيجة الحكم الصادر عن محكمة التمييز العسكرية في إطار مطالبته بالتعويض أمام القضاء المدني.
كذلك واجه ورثة بشّار السعود صعوبات شبيهة في قضيّة محاكمة عناصر أمن الدولة المتَّهمين بتعذيبه وقتله.فقد طلب وكيل ورثة الضحيّة تقديم مستندات للمحكمة العسكرية خلال جلسة المحاكمة في أيّار 2023، وهي عبارة عن صور ملوّنة لجثّة الضحيّة تسهم في دحض إدلاءات المتّهمين حول وسائل التعذيب التي استخدموها. لكنّ وكلاء الدفاع عن المتّهمين اعترضوا على قبول الطلب، ورفض رئيس المحكمة (خليل جابر) استلام المستندات بشكل مباشر إذ “لا صفة قانونية” لوكيل الورثة أمام المحكمة، وطلب منه تقديمها عبر النيابة العامة العسكرية. إلّا أنّ معاونة مفوّض الحكومة (مايا كنعان) التي كانت تمثّل النيابة العامة خلال الجلسة اعترضتْ على ذلك، وطالبت بتقديم المستندات عبر قلم المحكمة العسكرية كون القضيّة معروضة أمامها[9]. لكنّ قلمَيْ النيابة العامة العسكرية والمحكمة العسكرية رفضا أيضًا استلام مذكّرة وكيل الورثة، ممّا حرمهم من إمكانية تقديم أدلّة كان من شأنها ربّما أن تزوّد المحكمة بمعطيات هامّة لحسم القضيّة. وأمام هذا التهرّب من المسؤولية من جميع أجهزة القضاء العسكري، لجأ الوكيل إلى النائب العام التمييزي (غسّان عويدات) الذي رفض أيضًا تسجيل المذكّرة، فاضطرّ الوكيل إلى إرسالها إليه عبر البريد المضمون.
بالإضافة إلى ذلك، يفيد المحامون الذين قابلتهم “المفكّرة” بأنّ القضاء العسكري يرفض منح الضحيّة نسخة عن ملفّ دعوى الحقّ العام، حيث تقتصر الممارسة الحالية على السماح للضحيّة بالحصول على نسخة طبق الأصل عن الأحكام المُبرمة الصادرة عن القضاء العسكري لكي يتسنّى لها المطالبة بالتعويض أمام القضاء المدني. وبالفعل، لم يُسمح لوكلاء عيتاني وورثة السعود الاستحصال على مستندات من الدعوى العسكرية، كالتحقيقات التي أُجريتْ مع العناصر المشتبه فيهم بممارسة التعذيب، والقرارات الاتّهامية. ومؤدّى ذلك أنّ الضحيّة تبقى محرومة من الوصول إلى معلومات هامّة وضرورية تتعلّق بقضيّتها وتمكّنها من ممارسة حقوقها بالانتصاف القانوني.
لتحميل الدراسة بصيغة PDF
[1] CCPR/C/GC/32 الفقرة 8.
[2] الجمعية العامة للأمم المتّحدة، إعلان بشأن المبادئ الأساسية لتوفير العدالة لضحايا الجريمة وإساءة استعمال السلطة 34/40، 1985.
[3] المادّة 25 من قانون القضاء العسكري.
[4] https://www.echr.coe.int/documents/604084/839313/Guide_Art_6_ARA.pdf الفقرات 215 إلى 220.
[5] إلهام برجس، استجواب لافت في قضيّة “تلفيق تهمة العمالة لزياد عيتاني”: الغرفة السوداء موجودة وجرمانوس لا يحقّق في قضايا التعذيب، المفكّرة القانونية، 23/02/2019.
[6] لور أيّوب، القاضي يخرج وكيلة عيتاني من الجلسة ما قبل الأخيرة في قضيته، المفكّرة القانونية، 2/04/2021.
[7] لور أيّوب، التمييز العسكريّة ستستمع للضحية التي يغيبها القانون، المفكّرة القانونية، 9/04/2021.
[8] الحكم رقم 5/2021 الصادر عن محكمة التمييز العسكرية في تاريخ 13/4/2021 النيابة العامة التمييزية ضدّ إيلي منير غبش وسوزان سمعان الحاج.
[9] لين أيّوب، إرجاء جلسة المحاكمة في مقتل بشّار السعود تحت التعذيب وعودة عن مكافأة المتهم، المفكّرة القانونية، 5/5/2023.