في متن خطّة الطوارئ التي أعلنت عنها الحكومة بعد أشهر قليلة من بدء العدوان على غزّة والتي من المفترض أنْ تُعدّل تماشيًا مع التطوّرات الميدانيّة والتي يفترض أن تلحظ أسوأ السيناريوهات، ترد عبارات مثل “توجيه النازحين إلى الأماكن الآمنة” و”إعلام السلطات المحليّة في موقع الحدث بالمراكز التي يمكن توجيه الناس إليها” وصولًا إلى “تجهيز المدارس”. إلّا أنّه وفي اللحظة التي كان يجب فيها تفعيل هذا الجزء من الخطّة، أقلّه مع تفاقم الاعتداءات الإسرائيليّة صباح الاثنين الماضي (23 أيلول) وتوسيع الغارات وشدّتها، لم يُعلن المعنيّون بالخطّة أرقام الطوارئ التي هي أقلّ ما يحتاج إليه الناس لبدء رحلة نزوحهم. ولم يبدأوا بإعلان مراكز الإيواء إلّا بعد ظهر يوم الاثنين عينه. حينها كان آلاف المواطنين قد بدأوا رحلة نزوحهم من الجنوب ولاحقًا من البقاع. وعلق النازحون من الجنوب تحديدًا في عنق زجاجة مدخل مدينة صيدا، بوابة جبل عامل لساعات بعد أن سلكوا طرقات محفوفة بالمخاطر نتيجة الغارات الإسرائيلية المكثّفة على البلدات والقرى الجنوبية.
سقطت خطّة الطوارئ في امتحانها العملي الأوّل بدءًا من الإجلاء حيث تدبّر الناس أمورهم بأنفسهم، وبمساندة من مبادرات أهلية ومناطقية، فخرج من استطاع منهم وبقي من لم يستطع لتستمرّ المناشدات من العالقين حتّى اللحظة. وسقطت الخطة حين لم يعرف المواطنون النازحون أين يتّجهون. ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ، فحتّى بعد وصول العائلات إلى المدارس التي خُصّصت كمراكز إيواء، وجدوها غير مجهّزة “كانت المياه مقطوعة حين وصلنا، ولم يكن هناك فرش ولا مواد تنظيف، اقتصرت الاستجابة على إفراغ الصفوف من الطاولات” تقول نازحة في إحدى مدارس بيروت.
حتى اليوم نزح من الجنوب والبقاع قرابة نصف مليون شخص بحسب وزير الخارجية عبد الله بو حبيب منهم 52 ألفًا و900 نازح في مراكز الإيواء موزّعون على 360 مركز إيواء، وفق ما أكد وزير البيئة ناصر ياسين لـ “المفكرة”، 11 ألفًا و120 نازحًا في بيروت موزّعون على 55 مدرسة غرفة عمليات بيروت.
ورقم 52 ألف نازح هو أقلّ من العدد الذي بُنيت على أساسه خطّة الطوارئ وتحديدًا بند الإيواء، إذ أخذت الخطة في عين الاعتبار تهجيرًا قسريًا لمليون لبناني لفترة تمتدّ على مدى 45 يومًا، والحاجة إلى مراكز إيواء جماعيّة تستوعب 20% من النازحين أي 200 ألف نازح، إلّا أنّ مصدرًا معنيًا بخطّة الطوارئ أرجع الفوضى التي حصلت إلى عدم توقّع نزوح كلّ هذه الأعداد مرّة واحدة بل على مراحل.
حركة النزوح مستمرّة حتّى اللحظة ولا تزال مراكز الإيواء تحاول تأمين الاحتياجات الأساسيّة للنازحين عن طريق جمعيّات أو منظّمات بجهود متطوّعين لسدّ فجوة غياب الدولة وهذا أصلًا ما عبّر عنه وزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال بسام مولوي عندما قال: “وقفنا على حاجات مراكز الإيواء ولا تزال هذه الحاجات تؤمّن بمبادرات فردية وهي صورة واضحة عن تضامن المجتمع اللبناني”.
“المفكرة” التقت عددًا من العائلات النازحة التي وصلت إلى بيروت والتي أظهرت قصص نزوحهم المفاجأة التي حلّت بالحكومة بالعدوان على الرغم من الخطّة الاستباقيّة التي وضعتها في بدايات العدوان الإسرائيلي الحالي.
الإجلاء مجهود فردي
داخل إحدى مدارس بيروت تجلس أم حسن (61 عامًا) على كرسي خشبي، تُحاول أن ترتاح ريثما تُؤمّن لها غرفة هي التي وصلت صباحًا من قريتها صريفا بعد رحلة استغرقت 15 ساعة. “خرجنا الساعة الثالثة عصرًا ووصلنا الساعة السادسة صباحًا” تقول.
خلال الأشهر الماضية التي تلت السابع من أكتوبر، لم تكن أم حسن بعيدة عن أجواء الحرب، فهي اعتادت كما الجنوبيين على الاعتداءات الإسرائيليّة إلّا أنّ قريتها كانت آمنة نسبيًا، يوم الاثنين “كان الوضع غير” كما تقول وهي تروي لحظاتها الأخيرة قبل الخروج القسري. “كنت أضبّ الغسيل، استهدفوا بيت جاري ودفعني الوهج فوقعت، كانت الأصوات قريبة ومرعبة تكسّر زجاج منزلنا واشتدّت الغارات، لم نفكّر بشيء، لم أحضر غرضًا واحدًا، لم نقرّر النزوح، وجدنا أنفسنا في السيارة وتوجّهنا إلى بيروت”.
كما أم حسن يُخبرنا من التقيناهم عن خروج قسري مفاجئ من قراهم يروون لنا كيف تدرّجت الغارات من غارات على أطراف قراهم ومن ثمّ أحزمة نار حول منازلهم، يتحدّث معظمهم عن أبنية وبيوت قريبة وقعت بالكامل وعن اتخاذ قرار الخروج في ثوان ومن دون تفكير.
لم تكن رحلة الخروج من القرية سهلة خصوصًا للأشخاص الذين لا يملكون سيّارة كأبي بلال الذي يروي لـ “المفكرة” وهو عامل في ملحمة في السمّاعية قضاء صورأنّه عند الظهر وبعدما بدأت الغارات تطال الأحياء السكنيّة قرّر العودة إلى منزله ليتحضّر للنزوح، ولكن بسبب شدّة القصف، اكتفى بتغيير ملابسه وما أن خرج من المنزل حتّى أغار الطيران على منزل قريب فطار من العصف ما تسبّب له بجروح طفيفة. لم يستطع أبو بلال إيجاد سيّارة فاستقلّ درّاجة ناريّة وبدأ يمرّ وسط القرى وهو يسمع أصوات الطائرات الحربية إلى أن وصل إلى مكان وجد فيه حافلة (بولمن). “شفت الناس عم تطلع، ركضت وطلعت معن” وتوجّهنا إلى بيروت.
يصف أبو بلال وصوله إلى بيروت بالمعجزة إذ إنّه نجا من الموت مرّات عدّة “زمطت بالعبّاسيّة وزمطنا بعدلول والغازيّة، كان سائق البولمن يطفئ الأضواء كلّما اشتدّ صوت الغارات ظنًّا منه بأنّ إسرائيل لن ترانا”.
بعد 19 عشرة ساعة وصل أبو بلال إلى السفارة الكويتيّة فشعر أنّ الحياة عادت إليه “بس وصلت عصيدا عالدوار قلت أشهد أنّ لا إله إلا الله، بس وصلنا على الأوّلي قلت لا إله إلا الله، وبس تجاوزت السفارة الكويتيّة حسيت الروح رجعتلي”، يقول.
كما أبو بلال تتحدّث نازحة التقيناها في إحدى المدارس عن وقوفها خارج المنزل بملابس البيت تنتظر سيّارة تخرجها من كفرجوز. تقول هذه النازحة “كانت أصوات الصراخ في كلّ مكان والقصف يستهدف البيوت، خرجت كما أنا وبدأت أصرخ حتى وصل فان فركضت إليه وتوجّهنا إلى بيروت”.
وحتى يوم أمس ورغم دخول العدوان يومه الثاني، كانت عشرات العائلات لا تزال تُناشد بإخلائها، ولم نسمع حتّى اللحظة بخطّة إجلاء.
لوين منروح؟
على تقاطع بشارة الخوري في بيروت، يقف 3 شبّان منهمكين بهواتفهم “عبثًا نحاول إيجاد مأوى” يقول أحدهم مشيرًا إلى سيّارة بجانب الرصيف تجلس في داخلها عائلته التي نزحت من الشهابيّة قضاء صور من دون وجهة محدّدة. فهذه العائلة وكما المئات نزحت من قريتها باتّجاه بيروت وعندما وصلت إلى العاصمة أدركت بأنّ “لا مأوى لها”. حاولت هذه العائلة لأكثر من ساعتين إيجاد منزل بإيجار مقبول إلّا أنّ الأمر لم يفلح “ما عاد في بيوت قريبة وإذا في، أقلّ منزل بـ 500 دولار شهريًا مع اشتراط 3 أشهر سلف” يقول الشاب، مضيفًا “حتّى المدارس امتلأت”.
ليست هذه العائلة استثناءً، فمئات العائلات باتت في سيّاراتها ليل الاثنين الثلاثاء في مناطق مختلفة في بيروت بعدما تُركت من دون أيّ توجيهات من الحكومة التي اكتفت بعد ظهر يوم الاثنين بإعلان فتح 3 مدارس فقط في بيروت لاستقبال النازحين وتمّت زيادتها تدريجيّا حتّى تجاوزت اليوم 55 مدرسة، إضافة إلى نشر أرقام ساخنة تسهّل وصولهم إلى المراكز، ولكن حتّى هذه الأرقام وحسب ما أفاد عدد من المواطنين كانت لا تُجيب كما أنّ معظم الواصلين كانوا يبحثون عن دكّان أو محال مفتوحة لتشريج هواتفهم بعدما نفدت بطّارياتها على الطريق.
عند سؤال النازحين إن كانت هذه اللوائح وصلتهم يُجيب معظمهم بلا، فوصولهم إلى المدرسة كان إما عن طريق الصدفة أو عن طريق بعض المتطوّعين من الأحزاب الذين وقفوا على مداخل بيروت وصلًا إلى سليم سلام وبشارة الخوري وكانوا يرشدونهم إلى نقاط تجمّع يوزّعون بعدها على منازل أو مراكز إيواء.
“ما كنّا عارفين لوين رايحين” تقول نازحة من بلدة صريفا التقينا بها في نقطة تجمّع في بشارة الخوري، مضيفة: “وصلنا الساعة الخامسة صباحًا إلى بيروت بعد رحلة استغرقت أكثر من 12 ساعة، صرنا نلفّ بالطرقات ونسأل وين في مدارس وبعد أكثر من 3 ساعات وصلنا إلى هذه النقطة”.
عند سؤال مصدر في لجنة الطوارئ عن هذا الأمر، يُجيب بأنّ الخطّة لم تكن تتوقّع هذه الأعداد فما حصل كان كبيرًا في حجمه ولم تكن المشكلة بالأعداد فقط بل بنزوحها في الوقت نفسه.
المدارس لم تكن مجهّزة
بعد هذه الرحلة الطويلة، فوجئ عدد من النازحين بأنّ المدارس حيث وصلوا تُعاني من انقطاع في المياه وغير مجهّزة بالاحتياجات الأساسيّة أقلّه الفرش ومواد التنظيف التي لم تتأمّن بالشكل المطلوب حتّى اليوم إذ لا تزال بعض المدارس تعاني من نقص بالفرش ولا تزال المناشدات تخرج من مراكز الإيواء للحصول عليها.
“نحن بحاجة إلى فرش قد ما بدك”، يقول مسؤول في إحدى المدارس، مشيرًا إلى أنّ ما تمّ تأمينه كان بمبادرات فرديّة أو حزبيّة أو من جمعيات ومؤسّسات وهذا ما يؤكّده مصدر في لجنة الطوارئ أيضًا، مشيرًا إلى أنّ الهيئة العليا للإغاثة أمّنت 5 آلاف فرشة و20 ألف حرام موضحًا أنّ المشكلة الأساسيّة تكمن في عدم توافر الفرش في الأسواق بسبب توقف معامل في الجنوب والبقاع وبسبب الاستغلال من قبل البعض. ويحيلنا هذا الأمر إلى سؤال أساسي عن إمكانيّة تأمين موارد أخرى في ظلّ توسّع العدوان.
صحيح أنّ وضع مراكز الإيواء أصبح أفضل بقلبل بحسب مسؤول في مدرسة أخرى، مع بدء بعض الجمعيات تأمين وجبات يوميّة ومواد تنظيف وحليب للأطفال فضلًا عن الفرش، لكن مشكلة الاستيعاب مستمرّة مع استمرار النزوح.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.