معركة إسقاط الحصانات أو حصون تصدّعت من دون أن تسقط


2022-01-18    |   

معركة إسقاط الحصانات أو حصون تصدّعت من دون أن تسقط
يجلس بكل ثقة في حصنه من دون أن يقيم أي وزن للقانون، والمرفأ منسيّ كرحيل، كشمس على وشك الغروب. (رسم: علي نجدي)

وثّقت “المفكرة القانونية” الأساليب المستخدمة من قبل القوى السياسية الحاكمة خلال العام 2021 لعرقلة التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت وتكريس نظام الإفلات من العقاب. في هذه المقالة، نحلّل المعارك الثلاث التي رشحتْ عنها هذه القضيّة، وهي تباعاً المعركة حول الحصانات (القسم الأوّل) ومعركة فبركة الارتياب بالمحقّق العدلي طارق بيطار (القسم الثاني)، انتهاءً بمعركة إزاحة هذا الأخير بطريقة أو بأخرى (القسم الثالث).

قد تكون إحدى أهمّ محطّات الخطاب حول التحقيق في جريمة المرفأ، المساعي التي بذلتْها أطراف سياسية عدة في التعامل مع طلبات رفع الحصانات، بهدف تبرير إهمالها أو ردّها. وقبل المضي في عرض أهم هذه المساعي، يقتضي التّذكير بأن المحقّق العدلي بيطار قد اعتمد نهجاً مختلفاً تماماً عن نهج سلفه. فبخلاف هذا الأخير الذي قرّر القفز فوق كلّ الحصانات معتبراً أنّ لا خطوط حمراء في قضية تفجير المرفأ، التزم بيطار في طلباته بمخاطبة المراجع المعنيّة واضعاً إياها أمام مسؤولياتها الدستورية والقانونية برفع الحصانة عن الأشخاص المشتبه بهم لتمكينه من استكمال تحقيقه. وإذ ذهب بيطار في هذا الاتجاه تحسّباً من مواجهة مصير مُشابه لصوّان حين تمّ كفّ يده[1] لتجاوزه هذه الإجراءات، فقد توغّل بفعل ذلك في دهاليز الحصانات حيث كان على موعد مع صراع متمادٍ مع قوى سياسية وازنة.

وبمعزِل عن مدى صوابيّة الحجج المدلى بها لعدم التجاوب مع طلبات رفع الحصانات التي سنناقشها تباعاً، يلحظ أنّ ردود الجهات المعنية أخذت عموماً شكلاً قانونياً. وقد بدَتْ هذه الأطراف وكأنّها تستنجد بـ “هالة القانون” لمواجهة “هالة القضاء” وربّما المزايدة عليه في هذا الشأن. فلا يُصوَّر أيُّ تمسّك منها بالحصانة على أنّه تعدٍّ على القضاء أو الضحايا، بل على العكس من ذلك، يُصوَّر على أنّه تطبيق لمندرجات الدستور والقانون. وقد شكّل تعليق[2] رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي غداة قرارات بيطار كلمة السرّ في هذا الخصوص (“نحن مع تطبيق القانون مائة في المائة”). وقد تبعه تصريح[3] آخر لنائبه السابق إيلي الفرزلي الذي ذكّر بأنّ الدستور هو القانون الأساسي لانتظام حياتنا في مجتمعنا، مُعتبِراً ضمناً أنّ التمسّك بالحصانة تمسّك بالدستور فيما تجاوزها هو تجاوز له. وقد نقلت الوكالة الوطنية للإعلام حرفياً عن الفرزلي قوله إنّ: “المشرّع وضع مسألة رفع الحصانة بنصوص دستورية وأعطاها أهمّيّة بمستوى الدستور الذي يُعتبَر القانون الأساسي لانتظام حياتنا في المجتمع اللبناني. لا يجوز أن نعتبر ذلك أمراً عابراً ونقول هكذا: مش قصّة، ارفعوا الحصانة، … والطريق الذي نرسمه هو الذي يوصل الحقّ إلى صاحبه. لا نستطيع على الإطلاق تجاوز القانون…”. وبهذه العبارة، غرف الفرزلي من فنون الخطابة التي يعتزّ بالبراعة فيها معطيات تسمح له بتظهير الحصانة على أنّها مصلحة اجتماعية يجدر صونها والتمسّك بها، وذلك في مواجهة الخطاب العامّ الدّاعي إلى إسقاطها بعدما اتّضح للرأي العامّ بشكل مطّرد أنّها أحد أهمّ العوامل في تعميم نظام الإفلات من العقاب. وكان من الملفت طبعاً التشديد على أهمية احترام الدستور من قبل قيادات مجلس تعايشتْ تماماً مع استباحة مزمنة للعديد من مواده وبالأخص المواد المتّصلة بوجوب وضع موازنات سنوية. فكأنّما هذه القيادات تنتقي من الدستور ما يصون سلطتها ويضعها بمنأى عن أيّ مساءلة في موازاة تجاهل العديد من الموجبات التي ألقاها الدستور على عاتق المجلس أو الضوابط التي فرضها عليه.

سوف نناقش تباعاً في هذا القسم، جميع الحصانات التي قُذفت في وجه المحقق العدلي والتحقيق للتهرّب من الملاحقة في الجريمة، وهي حصانات أو أصول ملاحقات خاصّة بكلّ من الرؤساء والوزراء والنواب والموظفين العامّين والقضاة والمحامين. وفي حين سنتناول الطرق التي سلكها المحقق العدلي لتجاوز هذه الحصانات، سنرى في المقابل المناورات التي اتّبعتها بعض القوى السياسية لتفادي كأس رفع الحصانات الذي كان سيشكّل في حال تجرّعها له سابقة تهدّد الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي منذ فترة ما بعد الحرب اللبنانية، وعلى رأسها العفو العام والحصانات وضمان إفلات أصحاب النفوذ من العقاب.

إجهاض النظر في طلب رفع الحصانة عن النوّاب

التوجّه الأول في هذا الخصوص، هو الموقف الذي صدر عن الهيئة المشتركة في مجلس النوّاب (المكوّنة من مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل) في 9 تموز 2021 بشأن طلبات رفع الحصانة عن 3 نوّاب هم علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق، حيث أرسل المحقق العدلي طلباً بذلك عبر النيابة العامّة التمييزية ووزارة العدل إلى المجلس النيابي في 2 تمّوز 2021.

وقبل توضيح الخطوات المتّخذة من هذه الهيئة في هذا الخصوص، يجدر التذكير بأمرين: الأوّل، أنّ طلبات رفع الحصانة وردتْ على أساس المادة 40 من الدستور التي تمنع أثناء دور الانعقاد اتخاذ إجراءات جزائية نحو أي نائب أو إلقاء القبض علیه إذا اقترف جرماً جزائیاً إلّا بإذن المجلس ما خلا حالة الجرم المشهود. والثاني، أنّ كيفية النظر في طلب إعطاء الإذن منظّمة في النظام الدّاخلي لمجلس النوّاب وهي تقوم على وجوب تقديم الهيئة المشتركة تقريراً بشأن الطلب في مهلة أقصاها أسبوعين[4]؛ وإلّا يكون لزاماً على رئيس المجلس النيابي عرض الطلب على المجلس في أوّل جلسة يعقدها ليقرّر ما إذا كان سيمنح الهيئة مهلة إضافية أو يضع يده على الطلب يبتّ فيه مباشرة[5].

ويلحظ هنا أنّ موقف الهيئة المشتركة تمثّل في تعطيل سريان المهل التي وضعها النظام الداخلي من خلال ادّعاء أنّ الطلب المُقدّم لا تتوفّر فيه الشروط الشكليّة وأنّ على القاضي استكماله قبل النظر فيه.

ولهذه الغاية، لم تجدْ الهيئة المشتركة حرجاً في تشويه المادة 91[6] من النظام الداخلي لمجلس النوّاب. ففيما حدّدت هذه المادة مضمون طلب رفع الحصانة بأنّه يقتصر على “خلاصة عن الأدلّة التي تستلزم اتّخاذ إجراءات عاجلة” (وهو أمر استوفتْه الكتب التي وجّهها القاضي) اعتبرتْ الهيئة المشتركة أنّه ليس لها تكوين فكرة عن هذا الطلب ما لم يزوّدها القاضي “بجميع المستندات والأوراق التي من شأنها إثبات الشبهات المتعلّقة بكلّ متّهم” تحت طائلة إهمال طلبه. بمعنى أنّ اللجنة، ومن ضمنها برّي والفرزلي، فسّرت تعبير “خلاصة عن الأدلّة” على أنّه مرادف لـ “جميع المستندات والأوراق التي من شأنها إثبات الشبهات المتعلّقة بكلّ متّهم”. هكذا بكلّ بساطة. وإذ أنجزت غالبيّة[7] النوّاب أعضاء الهيئة المشتركة هذا التشويه[8]، انطلق الفرزلي وكلّ متحدّث باسم هؤلاء للتعامل معه بكلّ ثقة على أنّه حقيقة ثابتة يفرضها القانون، والأهمّ لإعادة الكرة إلى ملعب القاضي الذي يتعيّن عليه تزويد المجلس بما طلبه تحت طائلة تحميله مسؤوليّة “عرقلة سير العدالة التي هو مسؤول عنها”. وهذا ما عاد الفرزلي إليه ليؤكّده في سياق حديثه لجهة أنّ “الأدلّة والإثباتات أمر في غاية الأهمّيّة لأنّه منصوص عليها في النصّ (وهي ليست كذلك إلّا بفعل التفسير المشوِّه له)، ونحن تحت سقف هذا النصّ”.

وقد بدا هذا التشويه كأنّه يمهّد للمجلس الحلول محلّ القاضي في تقييم مسؤوليّات النوّاب خلافاً لكلّ المواقف التي كان أعلن عنها نوّاب حاليّون أو سابقون في سياق رفع الحصانة عن النائبَيْن يحيى شمص[9] وحبيب الحكيم[10]. آنذاك، صرّح رئيس المجلس النيابي نبيه برّي بالحرف في معرض مناقشة رفع الحصانة عن شمص في العام 1994 “المجلس النيابي… لا ينظر إذا كان هذا الأمر أنت مذنب فيه أم لا، مدان أو غير مدان. هذا أمر بينك وبين القضاء، وبينك وبين الله تعالى، والله تعالى يمثل كلمة القضاء في هذا الأمر. المجلس النيابي يرى إذا كانت الملاحقة المقدّمة للمجلس النيابي تهدف إلى منع النائب من أداء واجبه كنائب، أو منعه من لعب دوره كنائب، أو منعه من الكلام أو المعارضة أو الموالاة. المجلس النيابي ينظر إلى جدية الأمر من هذه الزاوية فقط. هذا الأمر لا يبرّئك منه سوى القضاء لأنه هو الذي يقول إنّ الزميل يحيى شمص هو نظيف كالثلج أو أنّه لا سمح الله مدان كأيّ مجرم آخر. لقد حلّفتني، وأنا أقول لك بكل صراحة وكل وضوح إنّ هذا هو موقفي لا أكثر ولا أقلّ، وشكراً”. والأهمّ من ذلك، أنّ هذا التوغّل من المجلس النيابي يشكّل مخالفة لمبدأ الفصل بين السلطات. وهذا ما يتأكّد أكثر فأكثر في اعتبار الفرزلي أنّ المجلس سيُتابع هذا الملفّ بحذافيره، وصولاً إلى تبيان الحقيقة كاملة. وهذا ما عاد ليؤكّده بلهجة لا تخلو من عبارات التحدّي للقاضي والتنمّر بحقّه، مدّعياً أنّ المجلس النيابي هو الذي يتوصّل إلى الحقيقة وليس “ابن البيطار”.[11]

وما يزيد من خطورة تشويه النصّ هو أنّه يجعل رفع الحصانة أمراً شبه مستحيل طالما أنّه ليس بإمكان القاضي تسليم هذه المستندات عملاً بسرّية التحقيق، كما أنّه يؤدّي إلى تعريض التحقيق للخطر من خلال إلزام القاضي بالكشف عن تفاصيل كلّ ما لديه من أدلّة. وقد بدا من خلال ذلك أنّ الهيئة المشتركة عمدتْ إلى تشويه القانون بهدف المماطلة وربما الإطاحة بإمكانيّة رفع الحصانة، كلّ ذلك في موازاة تحميل القاضي مسؤوليّة ذلك، وعلى نحو يتعارض تماماً مع التوجّه العام في الدول الديمقراطية للحدّ من الحصانات وتضييقها. وقد جاء جواب القاضي سريعاً برفضه تزويدها بأيّ مستندات إضافية، على اعتبار أنّ أي معلومة إضافية سيعطيها سوف تمسّ بسرّية التحقيق.

وبالنتيجة، بقيت طلبات رفع الحصانة عن النوّاب من دون متابعة، بحيث لم ترسل إلى الهيئة العامّة لمجلس النوّاب لاتخاذ القرار برفعها أو عدمه ولم يعمد رئيس المجلس إلى عرضها على الجلسات التشريعية الحاصلة بعد 9 تموز 2021 كما يفرض النظام الداخلي. وقد تعيّن تالياً على القاضي بيطار أن ينتظر منح حكومة نجيب ميقاتي الثقة في تاريخ 20/9/2021 ما أخرج المجلس النيابي من دورة الانعقاد الاستثنائية، ليباشر ملاحقة النوّاب المدّعى عليهم من خلال دعوتهم إلى جلسات التحقيق من دون إذن من المجلس. فإذا تمّ ذلك، سارع القاضي بيطار إلى إصدار مذكرة توقيف بحق علي حسن خليل تبعاً لتغيّبه عن حضور الجلسة المبلّغة إليه أصولاً. إلّا أنّ تقديم النائبين الآخرين المدّعى عليهما زعيتر والمشنوق دعاوى من شأنها كفّ يده تلقائياً حال دون عقد جلسات استجوابهما.

إلا أنه ورغم ذلك، عادت مسألة الحصانة النيابية لتطرح على مستويين:

المستوى الأول على صعيد تنفيذ مذكرة التوقيف بحقّ خليل، بعدما اعتبرتها قوى سياسية استهدافا لها رافضة أن يتمّ تنفيذها. وأكثر من عبّر عن ذلك هو وزير الثقافة في الحكومة المستقيلة محمّد مرتضى الذي كان اتّهم بيطار بالعمالة تبعا لصدورها في مجلس الوزراء نفسه، معلنا أنه سيتنزّه على كورنيش المنارة بصحبته في الأيام التالية، كل ذلك قبل أن يعلن نية ثنائي أمل حزب الله عدم حضور جلسات الحكومة إلى حين تنحية بيطار. بعد أيام، وإذ انفتحت دورة الخريف النيابية في 19 تشرين الأول عملاً بالمادة 32 من الدستور، أثارت قوى الأمن الداخلي والنيابة العامة التمييزية إمكانية تنفيذ مذكرة التوقيف أثناء الدورة النيابية من دون استئذان المجلس النيابي. أصرّ القاضي بيطار عند سؤاله من قبل النيابة العامة التمييزية بهذا الخصوص على ضرورة تنفيذ المذكرة وذلك على أساس المادة 97 من النظام الداخلي للمجلس النيابي التي تنصّ على أنّ ملاحقة نائب خارج دورة الانعقاد تستمرّ في دورات الانعقاد اللاحقة من دون حاجة إلى طلب إذن المجلس. وقد أعاد بالنتيجة إصدار مذكرة ثانية في 10/12/2021 طالباً التنفيذ الفوري. إلّا أنّه ورغم وضوح قرار بيطار في هذا الشأن، أفادت النيابة العامّة التمييزية قوى الأمن الداخلي بعد مذكّرتيه الأولى والثانية على حد سواء عدم جواز توقيف خليل خلال انعقاد الدورة. وهذا ما دفع رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى الضغط على رئيس الجمهورية ميشال عون لفتح دورة استثنائية في كانون الثاني 2022 وذلك من باب تأمين الغطاء اللازم لعدم تنفيذ مذكرة التوقيف.

المستوى الثاني، تمثل في نتائج الانتخابات النيابية. ففي حين فقد نهاد المشنوق حصانته النيابية تبعا لعدم ترشحه لانتخابات 2022، فقد جاء انتخاب[12] كلّ من زعيتر وخليل في أهم لجنتيْن نيابيتيْن (المال والموازنة والإدارة والعدل) من قبل عدد مرتفع من النواب وصل إلى 94 صوتا ليظهر تماهيا مع الكتل الكبرى بما فيها الكتل التي تدعم التحقيق معهما. ومن شأن هذا الأمر أن يطرح أسئلة حول وجهة التصويت على رفع الحصانة عن النائبين في حال قيد لها أن تطرح في المجلس النيابي.    

ملاحقة الوزراء أو معركة تفسير المادة 70 من الدستور

المحقّق العدلي بيطار كما سلفه صوّان اعتبرا أنّ الإجراءات الخاصّة المتّصلة بملاحقة الوزراء والتي تنصّ عليها المادتان 70 و71 من الدستور لا تنطبق على الأفعال المنسوبة لعددٍ من المُشتبه بهم في قضية المرفأ على خلفية ما فعلوه أو لم يفعلوه في هذا الخصوص خلال فترة تولّيهم وظيفتهم الوزارية. وعليه، رغم أنّ بيطار وجّه طلبات لرفع حصانة عدد من النوّاب والمحامين والموظّفين العامّين، فإنّه لم يستأذن أحداً لاستدعاء رئيس حكومة تصريف الأعمال دياب انطلاقاً من اعتبار أنّه لا يتمتّع بأيّ حصانة. أما بخصوص وزير الأشغال العامّة السابق يوسف فنيانوس، فقد استأذن نقابة المحامين في طرابلس التي ينتمي إليها ملاحقته على اعتبار أنّه محامٍ وعلى أساس قانون تنظيم مهنة المحاماة، من دون أن يربط الادّعاء عليه بأيّ إجراء آخر. وكذلك الأمر بخصوص زعيتر وخليل والمشنوق، فقد طُلب رفع الحصانة عنهم من مجلس النوّاب وأيضاً بالنسبة إلى زعيتر وخليل من نقابة المحامين في بيروت من دون أيّ إجراء آخر.

في المقابل وتبعاً لذلك، رفض دياب والوزراء الأربعة المدّعى عليهم الاعتراف بصلاحيّة المحقّق العدلي على خلفية أنّ المرجع الصالح لمحاكمتهم هو المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وقد استندوا في ذلك إلى أنّ التهمة الموجّهة إليهم هي عدم اتخاذ إجراءات بشأن تخزين مواد نترات الأمونيوم في المرفأ رغم علمهم بذلك، وأنّها تشكّل تالياً إهمالاً وظيفياً يدخل ضمن تعريف “الإخلال بالواجبات المترتّبة عليهم” المشمول بالمادة 70 التي تنصّ على أنّها تخضع لمحاكمة المجلس الأعلى. وقد أيّدت النيابة العامّة التمييزية هذا التوجّه في عدد من مواقفها، منها الكتاب الصادر عن المحامي العام التمييزي غسان خوري إلى مجلس النوّاب والمؤرّخ في 20/9/2021. كما سعى المشنوق إلى تدعيم هذا الرأي باستشارة قانونية صادرة عن الخبير في القانون الدستوري دومينيك روسو قدّمها دعماً للدعوييْن اللتيْن قدّمهما تباعاً أمام محكمة التمييز، لإبطال قرار بيطار بملاحقته بكونه يشكل خطأ جسيماً أو أيضاً لكفّ يد بيطار على خلفية الارتياب المشروع به.

وإزاء تفسير المادّة على هذا الوجه، كشَفَ بيطار عن تفسيره المختلف لها ومَدى انطباقها، وذلك في متن قراره بردّ الدفوع الشكلية المقدّمة من فنيانوس. ويتبدّى من قراره أنّه اعتبر نفسه صالحاً انطلاقاً من اعتباريْن:

  • إنّ المادة 70 أوردت بشكل حصري الجرميْن اللذيْن يحق للمجلس النيابي أن يتّهم بهما رئيس مجلس الوزراء والوزراء وهما الخيانة العظمى والإخلال بالواجبات المترتّبة عليهم. والواجبات المذكورة هي الواجبات الوظيفية البحتة أي تلك الناشئة عن عملهم الوزاري، وأنّ هذا الجرم قد نصّ عليه صراحة قانون العقوبات في المادة 373 منه التي تُعرّف الإهمال الوظيفي. وبناءً على هذا التعريف، اعتبر بيطار أنّه لا يُمكن للمجلس النيابي أن يعقد صلاحيّته لاتّهام الوزراء ورئيس الحكومة في جرائم القتل والإيذاء والإحراق والتخريب سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة طالما أنّها تؤلّف جرائم مستقلّة تماماً عن جريمة الإخلال بالواجبات الوظيفية المقصودة في المادة 70 من الدستور، وإن شكّل فعل الإخلال بالموجب في بعض الأحيان عنصراً من عناصر الجريمة. وقد اعتبر بيطار أنّ هذه الخلاصة تفرضها أصول التفسير السليم للقانون ومبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور لكون المحاكمة أمام المجلس الأعلى هي من قبيل الاستثناء.
  • إنّ عدم ممارسة المجلس النيابي لصلاحيّاته (على فرض أنّ الجرم يدخل ضمن تعريف الإهمال الوظيفي كما يدّعي الوزراء المدّعى عليهم) عبر عدم إصداره قراراً اتّهامياً يترك بأيّ حال، الباب مفتوحاً أمام القضاء الجزائي ليتولّى الملاحقة.

وكان تفسير بيطار للمادة 70 من الدستور قد حصل على دعم نادي قضاة لبنان في عدد من مواقفه، أبرزها بيانه الصادر في 15 آب 2020 وبيانه في 23 تموز 2021.

كان بإمكان الاختلاف حول تفسير المادة 70 من الدستور أن ينتهي بأن يتقدّم الوزراء المدّعى عليهم بدفع شكلي بشأن صلاحية المحقق العدلي وأن يبتّ المحقق العدلي هذا الدفع في اتّجاه أو آخر كما يحصل في مجمل القضايا الجزائية. لكن هنا أيضاً لم تسِرْ الأمور وفق الأصول المنتظرة، بعدما أُطلقت حملات سياسية ونيابية مناوئة للتحقيق العدلي لفرض تفسيرها الخاص لهذه المادة. تمثّل هذا التوجّه في طلب الاتهام الذي وقّعه قرابة 30 نائباً ضد الوزراء المدعى عليهم، بالاستناد إلى قانون إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء على خلفية الأدلة الواردة في كتب المحقّقيْن العدلييْن صوان وبيطار. ووفق المادة 19 من هذا القانون، تبدأ إجراءات اتّهام الوزراء بطلب اتّهام يقدمه نواب يمثلون على الأقل 20% من مجموع نواب المجلس (وقد تحقق هذا الشرط بتوقيع الطلب من أكثر من 20% من النواب). ويتعيّن إذ ذاك دعوة الهيئة العامة التي يكون أمامها التصويت بالأكثرية المطلقة من أعضائها سواء بردّ الطلب أو بإنشاء لجنة برلمانية مؤلفة من ثلاثة نواب للتحقيق في الطلب، على أن تعود الهيئة العامة لتنظر على ضوء نتائج التحقيق في طلب الاتّهام الذي لا يًقبل إلّا بموجب أكثرية ثلثيْ عدد النّواب بالتّصويت السرّي.

والملفت عند التدقيق في طلب الاتّهام أنّ موقّعيه هم نوّاب من الكتل نفسها للمدعى عليهم أو الكتل الحليفة لهم، حيث أنّ غالبيتهم من كتل التنمية والتحرير والوفاء للمقاومة والمستقبل. في المقابل، تمسّك نوّاب الكتل التي لم تشارك في التوقيع بصلاحية بيطار. وهذا الأمر إنّما يؤشّر إلى أنّ الطّلب هدف إلى تكريس صلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وإلى محاكمة الوزراء المدّعى عليهم سنداً لتفسير هؤلاء للمادة 70 من الدستور وعملياً إلى تهريب هؤلاء من قبضة المحقّق العدلي أكثر ممّا هدف إلى اتّهامهم حقاً.

ولا نبالغ إذا قلنا إنّ القصد من هذا الطلب تمثّل في تعيين لجنة تحقيق برلمانية موازية للتحقيق العدلي، لجنة كان ينتظر أن تمهّد تحقيقاتها لردّ الاتّهام ضدّهم، عند طرح المسألة على التصويت السرّي. وبدافع من هذه الخشية، ذهبت “المفكرة” إلى حدّ وصف لائحة الطلب بـ لائحة العار[13]، وهو وصف انْتشر سريعاً في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي إلى درجة أرغمت ستّة نوّاب على إعلان سحب تواقيعهم عن هذه العريضة. وقد طُرحتْ إذ ذاك مسألة سقوط العدد إلى ما دون نسبة 20% من النواب (26 نائباً) لولا مبادرة نوّاب آخرين[14] من الكتل المذكورة إلى إضافة تواقيعهم.

وعليه، وبدل أن يدعو رئيس المجلس نبيه برّي إلى جلسة للنظر في طلبات رفع الحصانة عن النوّاب الثلاثة المشتبه بهم، دعا إلى عقد جلسة في تاريخ 12/8/2021 للنظر في طلب الاتهام بحقّ الوزراء الخمسة بعدما أرسل هؤلاء مرافعاتهم المكتوبة إلى المجلس. إلّا أنّ “جلسة العار” كما أسماها ذوو ضحايا التفجير في بيانهم[15] الصادر عشية الجلسة، سقطتْ هي الأخرى بعدما أعلن عدد من الكتل (لبنان القوي والجمهورية القوية واللقاء الديمقراطي…) والنوّاب المستقلّين مقاطعتهم لها. وقد اعتبرتْ حينها اللجنة الإعلامية في التيار الوطني الحر أنّ ما يقوم به البرلمان هو “التفاف على عمل القضاء العدلي، ويؤدّي إلى وقف التحقيق من قبله مع المشتبه بهم، نواباً أو وزراء”، كما جدّدت كتلة اللقاء الديمقراطي المطالبة “بضرورة رفع الحصانات عن جميع المسؤولين”[16]. وبذلك، فشلتْ القوى المناوئة للتحقيق في فرض تفسيرها للمادة 70 وفي تهريب الوزراء المدّعى عليهم من قبضة المحقّق العدلي. يذكر أنّ ذوي الضحايا الذين اعتصموا قرب عين التينة (مقرّ الرئيس نبيه بري) احتجاجاً على انعقاد تلك الجلسة كانوا تعرّضوا لهجوم[17] عنيف من قبل عناصر يشتبه انتماؤهم لشرطة مجلس النواب أو حركة أمل.         

ورغم فشل الهيئة العامّة للمجلس النيابيّ في النظر في طلب الاتّهام وتالياً في تطبيق المادة 70 من الدستور، أبدى الجهاز الإداري في المجلس في عدد من مراسلاته أنّ المحقق العدلي غير صالح للتحقيق مع الوزراء المدّعى عليهم. وهذا ما نستشفّه بشكل خاصّ من الكتب المُرسلة من المدير العام للمجلس النيابي عدنان ضاهر إلى النيابة العامّة التمييزية يُعلمها فيها بعدم جواز ملاحقة دياب (27/8/2021) وفنيانوس (15/9/2021)، كما سبق للمديرية العامّة للإعلام أن عمّمت[18] في 22/7/2021، وذلك سنداً لقانون إنشاء المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، معتبرةً أنّ مهمّة المجلس النيابي الأولى الآن هي إنشاء لجنة تحقيق برلمانية، وهي الخطوة الممهّدة لإحالة الوزراء إلى المجلس الأعلى.. ويظهر هنا أنّ الجهازيْن الإدارييْن للمجلس بديا كأنّهما يتحرّكان خارج صلاحيّاتهما بدفع من رئاسة المجلس وخدمةً لتطلّعاتها، في حين يفترض أن يتحرّكا بما ينسجم مع إرادة ومقرّرات الهيئة العامّة للمجلس وليس بمعزل عنها.

وللدلالة على عبثية المطالبة بالإحالة إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، يقتضي التذكير بأمريْن:

أوّلاً، أنّ النائب العام المالي علي إبراهيم أحال في تشرين الثاني 2019 عدداً من وزراء الاتصالات السابقين إلى هذا المجلس، معتبراً أنّ صلاحية ملاحقتهم تعود له. وحتى اللحظة، لم يتّخذ المجلس النيابي أيّ إجراء لملاحقة هؤلاء، على غرار مسيرة هذا المجلس على مدار السنوات إذ لم يلاحق أيّ رئيس أو وزير. إذ ذاك، يتّضح أنّ المفاضلة في ملاحقة الرؤساء والوزراء ليست بين الملاحقة أمام المجلس الأعلى أو القضاء العدلي، بل هي مفاضلة بين اللا ملاحقة والملاحقة.

ثانياً، أنّ النائبيْن حسن فضل الله وهاني قبيسي تقدّما خلال انتفاضة 17 تشرين باقتراح[19] تعديل دستوري يرمي إلى إعطاء صلاحيّة ملاحقة الوزراء في قضايا هدر المال العام والفساد المالي للقضاء المختص بدلاً من المجلس الأعلى، بحجّة أنّ المجلس عاجز عن الملاحقة. ويعكس ذلك تناقضاً في مواقف النائبين، بل تناقضاً مع مواقف كتلتهما التي قادت حملة التواقيع على عريضة العار لإحالة الوزراء على المجلس نفسه. أكثر من ذلك، فإنّ فضل الله نفسه قد عبّر في جلسة نيابية بعد شهريْن على التفجير عن امتعاض كتلته من عدم محاسبة أي وزير بسبب الانفجار، معتبراً أنّ “ثمّة منعاً مقصوداً لمحاسبة أي وزير”.[20]

حصانة الموظفين العامّين

الحصانة الثالثة التي برزتْ تبعاً لطلبات بيطار هي حصانة الموظّفين العامّين، وذلك على ضوء طلبيْ رفع الحصانة عن المديريْن العامّيْن للأمن العامّ عباس إبراهيم وأمن الدولة أنطوان صليبا.

بخصوص إبراهيم، كان من البيّن أنّ الرئيس التسلسلي أي المرجع الصالح لإعطاء الإذن بملاحقته هو وزير الداخلية (محمد فهمي آنذاك) الذي رفض الطلب في تاريخ 6/7/2021 بحجّة أنّ “مهّمة الأمن العام على المنافذ الحدودية هي تأمين دخول وخروج الأفراد إضافة إلى جمع المعلومات ورفعها إلى السلطات المعنية” وبحجّة ثانية قوامها أنّه لا يتّضح من الطلب الموجّه إليه “أي شبهة حول قبول (إبراهيم) بالمخاطرة من خلال امتناعه عن إجراء ما يلزم لدرء الخطر، علماً أنّه ليس من واجبات المديرية العامّة للأمن العام متابعة أيّ ملف يتمّ وضع اليد عليه من قبل القضاء…”. والملفت أنّ فهمي كان أكّد من قبل نيّته بقبول الطلب[21] وذلك في اليوم نفسه للإعلان عن توجيهه إليه.

وكانت الأمور أكثر تعقيداً بما يتّصل بملاحقة صليبا بعدما ثار جدل حول هويّة الرئيس التسلسلي الصالح لإعْطاء الإذن بمباشرتها. فوفق قانون الدفاع الوطني، يخضع جهاز أمن الدّولة لسلطة المجلس الأعلى للدفاع وهو “يتبع” لرئيسه ونائب رئيسه[22] (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة). فمن يكون الرئيس التسلسلي؟ هل هو المرجع الذي يخضع له أم المرجع الذي يتبع له، مع الإشارة إلى أنّ بند موازنة أمن الدولة يرد ضمن باب موازنة رئاسة مجلس الوزراء. وبدل أن يتم تسهيل النظر في الطلب على اعتبار أنّ هذه الإجراءات استثناء على القاعدة العامّة التي هي الخضوع للمحاسبة، فإنّ المراجع المعنيّة اعتمدتْ أعلى درجات التعقيد. فإلى جانب رفض[23] رئيسيْ الجمهورية والحكومة النظر في الطلب بحجّة أنّ الأمر ليس من صلاحيّتهما وأنّ للمجلس الأعلى وحده صلاحية النظر فيه، فإنّ المجلس الأعلى رفض بدوره النظر فيه بحجّة أنّ الطلب وردَه بصورة مخالفة للأصول، بحيث تمّ توجيهه إلى رئيس الحكومة وليس إلى المجلس.

وإذ عاد بيطار وأرسل أوراق الملفّ إلى المجلس الأعلى، ورده جواب[24] في 11/8/2021 مفاده أنّه “بما أنّ طلب الإذن بملاحقة اللواء طوني صليبا لم يتضمّن ما من شأنه تبيان أسباب الملاحقة” و”بما أنّ طلب الإذن لا يتضمّن الملف المرفق،” قرّر المجلس الطلب من النيابة العامّة التمييزية “النظر” في مسألة ملاحقة صليبا”. أي أنّ مجلس الدفاع الأعلى استعاد هنا الحجّة التي أدلتْ بها اللجنة المشتركة في المجلس النيابي ومفادها أنّه ليس قادراً على النظر في الطلب إلّا في حال اطلاعه على الملف بأكمله (وهو أمر يجافي المنطق لتعارضه مع سرّية التحقيق ومع مبدأ الفصل بين السلطات كما سبق بيانه). إلّا أنّ ردّ مجلس الدفاع الأعلى تميّز هنا في التنصّل من المسؤولية ورميها على النيابة العامّة التمييزية التي كان سبق لها اتخاذ موقف بشأن طلب رفع الحصانة عن إبراهيم أعلنت فيه عدم جواز النظر في رفع الحصانة عن موظفين في القضايا المحالة إلى المجلس العدلي وفق ما نوضحه أدناه. وعليه، يكون رئيسا الجمهورية والحكومة ومعهما مجموعة وزراء قد تنصّلوا من مسؤوليّتهم في هذا المجال ليتوارُوا خلف النيابة العامّة التمييزية التي كانت هي الأخرى أعلنتْ تنصّلها من المسؤولية على أساس أسباب واهية لا تصمد أمام أيّ نقاش جدّي. 

ومع تغيّر المراجع الحكومية بعد تشكيل حكومة نجيب ميقاتي في أيلول 2021، عاد بيطار ليكرِّر طلبيْه وليتلقى هنا أيضاً رفضاً صريحاً من قبل كلّ من وزير الداخلية الجديد بسام مولوي في 10/10/2021 ومن المجلس الأعلى للدفاع في 12/10/2021.

لم يتوقّف بيطار عند هذا الحدّ، إنّما أحال في كلّ مرّة رُفض فيها طلبُه، الرفض على النائب العام التمييزي الذي يتوجّب عليه البتّ بموضوع إجازة الملاحقة من عدمها خلال 15 يوماً سنداً للفقرة الرابعة من المادة 61 من نظام الموظّفين. وهنا، أثيرت مسألة قانونيّة بالغة الأهميّة على ضوء إعلان النائب العامّ التمييزي غسان عويدات تنحّيه عن النظر في قضية تفجير المرفأ على خلفيّة تضارب المصالح لديه بفعل الادّعاء على نسيبه (زوج شقيقته) غازي زعيتر في هذه القضية. فعدا عن أنّ هذا التنحّي تمّ بإرادة منفردة ولم يعرض للموافقة على أيّ مرجع، فإنّ صلاحية النائب العام التمييزي في النظر في قرارات رفض إعطاء إذن الملاحقة هي صلاحية إدارية (تتميّز عن صلاحياته القضائية) ولا يمكن تفويضها لشخص آخر في غياب نصّ قانوني يجيز ذلك. وبنتيجة ذلك، بتْنا أمام وضعية غريبة: فمن جهة، لا يعقل أن يتّخذ عويدات قرارات إدارية في الملف وتحديداً قرارات بشأن رفض إعطاء إذن الملاحقة بفعل تضارب المصالح لديه، ومن جهة أخرى، ليس لأيّ شخص سواه أن يتّخذ هذا النوع من القرارات. ومن هنا، نبّهت[25] “المفكرة” إلى وجوب مبادرة الحكومة إلى اتّخاذ القرار المناسب بتعيين نائب عامّ تمييزيّ خاصّ في هذه القضية بالذات سنداً لما تتيحه المادة 354 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، طالما أنّ هذا هو التدبير الوحيد الذي يتيح نقل صلاحيات النائب العام التمييزي وبخاصّة الإدارية إلى شخص آخر. إلّا أنّ هذه الاعتبارات القانونية تمّ تجاوزها ضمناً من دون أيّ جدل أو تبرير، وذلك من خلال تولّي المحامييْن العامّيْن التمييزييْن المعيّنين من عويدات نفسه (وهما عماد قبلان وغسّان خوري) النظر في هذا الملف. وهنا أيضاً، جاءت أجوبة هذا الأخير ملتبسة. فبشأن طلب رفع الحصانة عن إبراهيم، طلب خوري من المحقّق العدلي “اتّخاذ الإجراءات اللازمة للوصول إلى تحديد الشبهات والأدلّة” بحقّه وأيضاً الاستماع إلى “إفادته بشكل مفصّل، ومواجهته مع الشهود والاطّلاع منه تفصيلياً على مهام جهاز الأمن العام ودوره في قضية وجود “نيترات الأمونيوم” في المرفأ ليبنى على الشيء مقتضاه فيما بعد، ومن ثمّ إيداعه الأوراق ومضمون الإفادات لتقييم الأدلة والشبهات الواجبة للادّعاء عليه”[26]. وقد بدا خوري بذلك وكأنّه يُحوّل طلب رفع الحصانة المُوجّه إليه إلى مناسبة للتشكيك في أداء المحقّق العدلي بيطار وتوجيه إرشادات إليه، كأنّما على القاضي أن يثبت أنّه قام بكلّ الإجراءات الممكنة والمتاحة له وفق النيابة العامّة قبلما يفكّر حتى في طلب رفع الحصانة.

وإذ بدا خوري وكأنّه ينتظر مزيداً من المعلومات حول الشبهات على إبراهيم لحسم قراره، عاد بصورة مستغربة جدّاً في معرض الكتاب نفسه لينفيَ صلاحية النيابة العامّة التمييزية في اتّخاذ أيّ قرار بهذا الخصوص وذلك تبعاً لتشويه واضح للمادة 61 من قانون الموظفين الناظمة لآليّة ملاحقتهم. فقد اعتبر خوري أنّه ليس للنيابة العامّة التمييزية ممارسة هذه الصلاحية في القضايا المحالة أمام المجلس العدلي، طالما أنّ النيابة العامّة التمييزية هي التي تتولّى الادّعاء في هذه القضايا ممّا يجعلها طرفاً في الملفّ ويحُول تاليّاً دون إمكانية بتّها في طلب رفع الحصانة الوارد إليها. وبذلك، ارتكب خوري ثلاثة أخطاء جسيمة:

الأوّل، أنّه تخلّى على غرار عويدات عن مسؤولية حصرية أناطَها القانون صراحة بالنيابة العامّة التمييزية بالنظر في رفض الإدارة المعنية رفع الحصانة عن أيّ من موظفيها العامّين. ومؤدّى هذا الأمر هو إيلاء هذه الإدارة صلاحية شبه مطلقة في السماح بملاحقة أحد موظفيها أو حجب الإذن بذلك، بما يوسّع من حصانة الموظفين (التي هي استثناء على قاعدة المحاسبة) بدل حصرها. 

والثاني، أنّه خلط مرة أخرى كما سبق بيانه بين صلاحية النيابة العامّة التمييزية القضائية (الادّعاء) وصلاحيتها الإدارية (إعطاء إذن الملاحقة) التي منحها إيّاها القانون، فاعتبر أنّ ممارستها للأولى تحول دون ممارستها للثانية.

والثالث، أنّه جافى مبدأ وحدة النيابة العامّة بحيث ميّز بين الحالات التي تتولّى النيابة العامّة التمييزية فيها تمثيل الحق العامّ مباشرة والحالات الأخرى التي تتولّى نيابة عامّة أخرى (مثل النيابة العامّة الاستئنافية) فيها هذه المهمة، في حين أنّ هذه النيابات العامّة كلّها تشكّل وحدة لا تتجزّأ وبخاصّة في ظلّ خضوعها كلّها لتوجيهات النائب العام التمييزي.

وقد عاد خوري ليتّخذ الموقف نفسه في قضية الإذن بملاحقة صليبا، رغم أنّ المجلس الأعلى للدفاع كان ترك له صراحة أمر النظر في رفع الحصانة كما سبق بيانه.

كما أقدم المحامي العام التمييزي عماد قبلان (الذي تولّى تمثيل النيابة العامّة التمييزية منذ تقديم نقابة المحامين في بيروت طلب ردّ بحق خوري) في تاريخ 21/10/2021 على المصادقة على قراري وزير الداخلية المولوي والمجلس الأعلى للدفاع برفض منع الإذن بملاحقة إبراهيم وصليبا في ظلّ الحكومة الجديدة. وعليه، وفيما عدا الوزير فهمي الذي أصدر قراراً صريحاً برفض إعطاء الإذن بملاحقة إبراهيم، بدتْ المرجعيات الأخرى (رئيسا الجمهورية والحكومة والمجلس الأعلى للدفاع والنيابة العامّة التمييزية) في سباق للتخلّي عن مسؤولية النظر في إعطاء الإذن بالملاحقة مع رشق هذه المسؤولية في اتجاه “الآخرين”. وإذ يعكس هذا الأمر تمسّك هذه المرجعيات عملياً بهذه الحصانات أو على الأقلّ التوجّس حيال المسّ بها، فإنّ اختباءها وراء أسباب شكلية للتملّص من مسؤوليتها إنّما يعبّر في المقابل عن توجّس لا يقلّ درجة من تبعة إعلانها صراحة رفضها المسّ بالحصانة. وهي بذلك انتهت تماماً إلى ما كانت انتهت إليه قيادات المجلس النيابي الممثلة في اللجنة المشتركة للمجلس بشأن حصانة النوّاب كما سبق بيانه. وهذا ما دفعنا إلى القول بتصدّع الحصانات وإن لم تسقط بعد.

وختاماً في هذا الخصوص، لا بدّ من تسجيل أمرين:

الأوّل، أنّ ذوي ضحايا التفجير قد نفذوا عدداً من الاعتصامات أمام وزارة الداخلية والنيابة العامّة التمييزية احتجاجاً على رفض الطلبات أو تحذيراً من مغبّة رفضها. وأبرز هذه الاعتصامات هي التي حصلت أمام منزل وزير الداخلية بتاريخ 13/7/2021 وحمل فيها ذوو الضحايا توابيت خشبية[27]. ومنها أيضاً الاعتصام[28] أمام قصر العدل في 16/9/2021 الذي توجّه فيه ذوو الضحايا إلى النائب العام التمييزي مباشرة.

الثاني، أنّ القوى السياسية الممثلة في المجلس النيابي كانت شاركتْ في 2020 في تعديل المادة 61 من قانون الموظفين العامّين بناء على اقتراح قانون قدّمه النائب حسن فضل الله من كتلة الوفاء للمقاومة. وفي حين آل هذا الاقتراح في صيغته الأصلية إلى إلغاء هذه الحصانة بالكامل، فإنّ المجلس النيابي انتهى[29] إلى إعادة تكريس هذه الحصانة، مكتفياً بوضع مدّة قصوى يجدر بالمراجِع المعنيّة اتخاذ قرار خلالها تحت طائلة اعتبار التزامها الصمت بمثابة إذن بالملاحقة، وبذلك، أعلنتْ السلطة الحاكمة تمسّكها بهذه الحصانة التي أدخلتها سلطة الانتداب الفرنسية إلى لبنان لحماية موظفيها، رغم إلغائها تماماً في فرنسا منذ سنة 1861.    

حصانة المحامين

بخلاف الحصانات السابقة، لم يُواجه رفع حصانة المحامين إشكالات كبيرة. ويتأتّى هذا الأمر من ارتباط الحصانة بممارسة المهنة، في حين أنّ الأفعال المعزوّة للمحامين المدّعى عليهم حصلتْ في فترات تولّيهم مهام وزارية وهي فترات يتعيّن عليهم فيها حكماً الانقطاع عن ممارسة المحاماة تماماً. إلّا أنّه ورغم ذلك، استأنف فنيانوس قرار نقابة طرابلس بإعطاء الإذن بملاحقته أمام محكمة استئناف طرابلس في 26/8/2021، ليطلب من المحقّق العدلي وقف ملاحقته إلى حين بتّ الاستئناف. والملفت أنّ نقيب محامي طرابلس السابق محمد مراد أكّد على هذا التوجّه وفق كتاب المعذرة الذي وجّهه إلى بيطار، عن حضور الجلسة، وذلك خلافاً للاجتهاد المعمول به وقوامه أنّ الاستئناف لا يوقف تنفيذ قرارات منح إذن الملاحقة. كما أرفق فنيانوس بطلب نقل الدعوى للارتياب المشروع ببيطار، استشارات موقّعة من عدد من نقباء المحامين السابقين في الشمال في هذا الخصوص.

وما يزيد من خطورة السير بذريعة أنّ الاستئناف يوقف التنفيذ، هو أنّ محكمة الاستئناف لم تنظر حتى اللحظة في هذا الطلب بل أنّ الدعوى برمّتها عالقة أمامها ولم يقم أيّ من فرقائها بأيّ إجراء فيها.

ملاحقة القضاة

بدورهم، يستفيد القضاة من إجراءات خاصّة تنظّم ملاحقتهم في أيّ جرم جزائي، وهي الإجراءات التي نظّمها قانون أصول المحاكمات الجزائية، وأهمّها حصر الادّعاء ضدّ هؤلاء بالنائب العام التمييزي وحَصْر محاكمتهم بالهيئة العامّة لمحكمة التمييز. وقد التزم المحقّق العدلي بهذه الإجراءات من خلال إحالة ثلاثة قضاة تباعاً إلى النيابة العامّة التمييزية لإجراء التحقيقات اللازمة. وإذ تولّى المحامي العام التمييزي عماد قبلان في ظلّ إعلان عويدات التنحّي عن النظر في الملف، التحقيق مع القضاة الثلاثة المحالين وذلك بعد تقدّم نقابة المحامين في بيروت بطلب ردّ ضد خوري، انتهى إلى حفظ الملف بخصوص هذا الأخير في تاريخ 5/10/2021 بعدما اعتبر أنّ الجرم المدّعى به بحقّه ليس جرماً. وقد خلص قبلان إلى قراره بعدما اعتبر أنّه ليس للنيابة العامّة أيّ دور وقائيّ في تفادي وقوع الجرائم أو الحفاظ على السلامة العامّة، معتبراً أنّ “دور النيابة العامّة يبدأ بعد وقوع الجريمة أيّ بعد حصول الانفجار”. وهذا المنطق يمكن دحضه ببساطة على اعتبار أنّ مجرّد إدخال وتخزين المواد الخطرة كالنيترات في المرفأ هي أفعال تعدّ بحدّ ذاتها جرائم جزائيّة تستوجب تدخّل النيابة العامّة من دون انتظار أي نتيجة لهذا التخزين. والملفت أنّ النائب العام التمييزي غسّان عويدات كان قد ادعى أصلاً بعد التفجير على بعض الموقوفين بجرم إدخال مادة النترات وتخزينها، بمعنى أنّه اعتبر أنّ الجرم كان قائماً قبل حصول الانفجار بما يدحض مع موقف قبلان المخالف لمبدأ وحدة النيابة العامّة. ومن جهة أخرى، يسجّل أنّ النيابة العامّة التمييزية لا تزال متقاعسة عن اتخاذ القرار المناسب مع القاضيين الآخرين (جاد معلوف وكارلا شوّاح) رغم إتمام التحقيقات معهما.

وهنا، تناولتْ القوى المناوئة للتحقيق هذه الحصانة بصورة مختلفة عمّا سبق. فقد أعابتْ على بيطار اعتماد ازدواجية في المعايير، قوامها التزامُه بالإجراءات الخاصّة بالقضاة في حين أنّه لا يلتزم بالإجراءات الخاصّة بالوزراء. إلّا أنّ التدقيق في النصوص والإجراءات في هذا الخصوص يظهر إشكالات أعمق من مسألة أداء بيطار سنتناولها تفصيلياً في القسم الثاني من هذه الدراسة، وهي إشكالات أبقاها الخطاب المناوئ للمحقّق العدلي مغيّبة. أبرز هذه الإشكالات، الآتية: 

أوّلاً، أنّ العائق الأهمّ يتمثّل في حصانة النائب العام التمييزي والنّاشِئة عن المادة 354 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تمنع ملاحقة النائب العام التمييزي في أيّ قضية ما لم يتمّ مسبقاً تعيين نائب عام تمييزي خاص من قبل الحكومة فيها. وهذا التّغييب فاقع في ظلّ كلّ المُعطيات الثابتة عن إبلاغ النائب العام التمييزي تخزين المواد المتفجرة في المرفأ قبل أسابيع من حصول التفجير، من دون أن يتّخذ الإجراء المناسب. لا بل أنّ النيابة العامّة التمييزية ذهبتْ إلى إعطاء الأمر بتلحيم الفجوات المحدثة في العنبر، وهو الأمر الذي اعتبرته بعض التقارير الأمنية السبب الرئيس في التفجير. وهذه الحصانة هي الأهمّ ليس فقط لأنّ المستفيد منها هو رئيس النيابات العامّة والمسؤول الأوّل عن ملاحقة الجرائم، بل أيضاً لأنّها تشكّل عائقاً أمام المحقق العدلي ليس بإمكانه لا هو ولا أيّ مرجع قضائي آخر تجاوزه ما لم تبادر الحكومة إلى تعيين نائب عام تمييزي خاص في هذه القضية. انطلاقاً من هذه الاعتبارات، تتحمّل الحكومة المسؤولية الأولى عن أيّ تقاعس في ملاحقة القضاة انطلاقاً من تخلّفها عن تعيين نائب عام تمييزي خاص في القضية وفق المادة 354 من قانون أصول المحاكمات الجزائية.

ثانياً، أنّ النيابة العامّة التمييزية هي التي تتحمّل مسؤولية عدم اتخاذ الإجراءات بحقّ أيّ قاض، سواء كان مُحالاً إليها من قبل المحقق العدلي أو أي قاضٍ آخر. وهنا أيضاً، يكمن الخلل الأكبر في تقاعس الحكومة عن تعيين نائب عام تمييزي في هذه القضية، بما يحول دون تضارب المصالح ويعزّز إمكانية الوصول إلى العدالة.

بقي أن نذكّر بأنّ حصانة النائب العام التمييزي كما الإجراءات الخاصّة التي تخضع لها ملاحقة القضاة لا تتأتّى عن الدستور، إنّما عن القانون وأنّه بإمكان مجلس النوّاب تالياً أن يعدّلها متى شاء شرط وضع إجراءات بديلة تمنع التعسّف في استخدام الملاحقة لتخويف القضاة أو ضرب استقلاليتهم. أما وأنّ هاتين السلطتين السياسيتين تقاعسَتا عن القيام بأدوارِهما، فإنهما وضمناً القوى المكوّنة لهما تتحمّلان المسؤولية كاملة عن بقاء القضاة بمنأى عن الملاحقة من دون أن يكون لأيّ منها توجيه أسهم الاتهام إلى القاضي بيطار في هذا الخصوص.

رفع الحصانات ينتظر تعديل الدستور والقانون

إلى جانب مساعي الالتفاف حول طلبات رفع الحصانات وصولاً إلى منع المسّ بها، برزتْ محاولات أخرى تؤدّي إلى الغاية نفسها أي تكريس الحصانات وإن هدفتْ في ظاهرها إلى إسقاطها تماماً، أقلّه في قضية تفجير المرفأ.

وقد تمثّلت هذه المساعي بشكل خاص في اقتراح اتّخاذ خطوات تشريعيّة لإزالة كلّ الحصانات والإجراءات الخاصّة بأيّ من الفئات المعنيّة بالتحقيق تمكيناً للمحقّق العدلي من استكمال عمله من دون أيّة عراقيل، وهو الاقتراح الذي أعلنه رئيس الحكومة المكلّف آنذاك سعد الحريري في تاريخ 27 تموز 2021. وقد برّر هذا الأخير اقتراحه بأنّه يُسقط جميع الحصانات وتالياً العوائق أمام المحقق العدلي لملاحقة أي شخص من دون أيّ تمييز فضلاً عن أنّه ضرورة للحؤول دون تعدّد المحاكم التي ستكون مختصّة للنظر في القضيّة (المجلس العدلي، ومحكمة التمييز بالنسبة إلى القضاة والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بالنسبة إلى هؤلاء). 

وبمعزل عن سدادة الحجج المُدلى بها لتجاوز العوائق أمام استكمال التحقيق العدلي، شكّل الاقتراح في حقيقته عائقاً إضافياً أكثر مما شكّل طريقاً لتجاوز هذه العوائق. وهذا يتأتّى بشكل خاص من معطييْن:

الأوّل، أنّه أوحى بأنّ الجواب على طلبات رفع الحصانات لا يكون بقرار آنيّ تتّخذه المراجع المعنيّة برفع الحصانات أو إعطاء الإذن بالملاحقة إنّما بإطلاق ورشة تعديل دستوريّ وتشريعيّ يُرجَّح أن تمتدّ طويلاً، بما يُناقض تماماً ما يفترضُه التحقيق من عجلة. وهذا ما ينطبق بشكل خاصّ على التعديل الدستوري الذي يُفترض لإنجازه أن يتمّ اقتراحه عند انعقاد المجلس النيابي في عقدٍ عادي وموافقة ثلثيْ أعضاء مجلس النوّاب ووجود حكومة فاعلة توافق بثلثيْ أعضائها أيضاً (لا حكومة تصريف أعمال كما كانت الحال عندها)، ويكون للحكومة مهلة 4 أشهر للنظر في الاقتراح قبل أن يُعاد ويُصوّت عليه من قبل المجلس النيابي بأكثرية الثلثيْن أيضاً، أي أنّ اقتراح الحريري كان ليأخذ في أقلّ تقدير أشهراً طويلة قبل أن يُبصر النور. وفي حين يدعو الاقتراح لإسقاط الإجراءات الخاصّة التي يستفيد منها القضاة والموظفون العامّون، ربط بين هذه التعديلات والتعديلات الدستورية واضعاً إيّاها كلّها في سلّة واحدة وكأنّها غير قابلة للتجزئة. وبذلك، بات تعديل قانون بسيط يواجه التحديات نفسها التي يواجهها تعديل دستوري ذو أبعاد عصبية فائقة كمسألة حصانة رئيس الجمهورية.

والثاني، أنّه بدا محفوفاً بالأفخاخ السياسية التي تهدّد بإغراق مسألة رفع الحصانات في لعبة العصبيّات المتناحرة. في مقابل العصبيّة السنيّة التي تستشعر إهانة من أيّ معاملة دونيّة لمقام رئاسة الوزراء بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية، يستدعي الاقتراح في حال المضي به العصبية المسيحية التي سترفض أي مسّ بحصانة رئيس الجمهورية معتبرةً إيّاه تقليصاً جديداً لحقوق المسيحيين.

فكأنّما الحريري هدف من الاقتراح تأكيد نيّته بإسقاط الحصانات وذلك ردّاً على الانتقادات الواسعة التي طالت كتلته على خلفية توقيع عريضة الاتهام (عريضة العار) من قبل العديد من نوّابها من دون المسّ بها فعلياً. وقد أمكنه ذلك من خلال تحويل مسألة إسقاط الحصانات من مسألة حقوقية تتّصل بإنصاف الضحايا ومساءلة المرتكبين إلى مسألة سياسية دستورية عصبية، وعملياً من خلال تحويل آلية رفع الحصانات من آلية يمارسها بصورة آنية هذا المرجع أو ذاك إلى آلية شديدة التعقيد. وهذا ما دفع المُفكّرة” حينها لتسمية اقتراحه بالمناورة الاحتيالية[30]. وقد تأكّد ذلك من خلال سهو الحريري عن اقتراحه بعد أيام من طرحه، حيث أنّه لم يتقدّم باقتراحه رسمياً إلى المجلس النيابي، على الرغم من جولات كتلته على الكتل الأخرى حاملين الاقتراح وهي جولات أخذت منحى استعراضياً كالحديث عن الاقتراح نفسه.

من جهة أخرى، تجدر الإشارة إلى أنّ النائبين الحالي والسابق  جورج عدوان وفادي سعد (من كتلة الجمهورية القوية) تقدّما في تاريخ 17/8/2021 اقتراحا معجلاً مكرّراً بإسقاط حصانة الموظفين في جريمة المرفأ. وينصّ الاقتراح على تعليق العمل بالمادة 61 من نظام الموظفين حصراً بما يتعلّق بهذه الجريمة وما يتفرّع عنها، وهي المادة التي توجب الاستحصال على إذنٍ من الرئيس الإداريّ للموظّف قبل ملاحقته أصولاً. أي أنّه لو تم إقراره في المجلس النيابي، لكان بإمكان المحقق العدلي ملاحقة عباس إبراهيم وطوني صليبا من دون انتظار إذن رؤسائهم الإداريين. وفي حين أنّه كان للتحقيق في الجريمة أبعاد أظهرت مساوئ الحصانة على النظام القضائي والعدالة، يؤخذ على الاقتراح أنّه حصر رفع الحصانة بجريمة المرفأ لا غير.

نُشرت هذه المقالة في العدد 2 من “ملف” المفكرة القانونية | جرائم نظام من دون عقاب (محور: ممارسات الإفلات من العقاب) وشكّلت نسخة محدّثة ومعدّلة منها القسم الأول من الورقة البحثية “ع مرفأ العدالة: جدار الإفلات من العقاب وما بعده”، آب 2022.


[1] نزار صاغية، لهذا أبعدتْ محكمة التمييز القاضي الذي تعاطف فتجرّأ، المفكرة القانونية، 24/2/2021.

[2] بري لـ “الجمهورية” حول ما قرّره القاضي البيطار: نحن مع تطبيق القانون مئة في المئة، جريدة الجمهورية، 3/7/2021.

[3] س.م، برّي ترأّس جلسة مشتركة لهيئة مكتب المجلس ولجنة الإدارة، الفرزلي: ليس من صلاحيّات اجتماع اليوم طلب رفع الحصانة والمجلس يتعهّد بمتابعة الملفّ وفقاً للقانون، الوكالة الوطنية للإعلام، 9/7/2021.

[4] المادة 92 من النظام الداخلي للمجلس النيابي: يقدّم طلب رفع الحصانة إلى رئيس المجلس الذي يدعو هيئة مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل إلى جلسة مشتركة لدرس الطلب وعلى هذه الهيئة تقديم تقرير بشأنه في مهلة أقصاها أسبوعين.

[5] المادة 93 من النظام الداخلي للمجلس النيابي: إذا لم تقدم الهيئة المشتركة تقريرها في المهلة المعنية في المادة السابقة، وجب على رئاسة المجلس إعطاء علم بذلك للمجلس في أول جلسة يعقدها، وللمجلس أن يقرّر منح الهيئة المشتركة مهلة إضافية بالقدر الذي يراه كافياً أو وضع يده على الطلب والبت به مباشرةً.

[6] المادة 91 من النظام الداخلي للمجلس النيابي: يقدم طلب الإذن بالملاحقة وزير العدل مرفقاً بمذكرة من النائب العام لدى محكمة التمييز تشتمل على نوع الجرم وزمان ومكان ارتكابه وعلى خلاصة عن الأدلة التي تستلزم اتخاذ إجراءات عاجلة.

[7] “كلّ النواب الممثّلين للكتل السياسية كانوا موافقين على أنّ “الأوراق الموجودة في عهدة المجلس لا يُمكن الاستناد إليها لبناء موقف قانوني”. باستثناء رأي ممثلي حزب القوات اللبنانية النائبين جورج عدوان وجورج عقيص”. ميسم رزق، الجولة الأولى بين المحقّق العدلي ومجلس النواب: المزيد من «المغمغة»، جريدة الأخبار، 10/7/2021.

[8]نزار صاغية وفادي إبراهيم، 7 مخالفات للهيئة النيابية المشتركة ضدّ ضحايا المجزرة وذويهم، المفكرة القانونية، 16/7/2021.

[9] محاضر جلسات مجلس النوّاب، الدور التشريعي الثامن عشر العقد العادي الثاني 1994 محضر الجلسة الثالثة المنعقدة في 24/11/1994.

[10] محاضر جلسات مجلس النوّاب، الدور التشريعي التاسع عشر العقد العادي الثاني 1999، محضر الجلسة الثانية المنعقدة في 7/12/1999 و8/12/1999.

[11] ريتا نصّور، عريضة نيابية قريبة والفرزلي عبر “Media Factory News”: نحن من سيظهر الحقيقة ومش ناطرين ابن البيطار!، 13/7/2021.

[12] إيلي الفرزلي، قراءة في نتائج انتخاب اللجان النيابية، المفكرة القانونية، 9/6/2022.

[13] لائحة العار: أسماء النواب المتورّطين في تهريب زملائهم من العدالة، المفكرة القانونية، 21/7/2021.

[14] تحديث “لائحة نواب العار”: من تبرّأ منهم؟ ومن انضمّ إليهم؟، المفكرة القانونية، 11/8/2021.

[15] بيان لأهالي ضحايا وجرحى ومصابي تفجير مرفأ بيروت: لمقاطعة “جلسة العار” احتراماً لأرواح ضحايانا، المفكرة القانونية، 10/8/2021.

[16] لبنان.. 3 كتل نيابية تعلن مقاطعتها جلسة برلمانية الخميس، وكالة الأناضول، 11/8/2021.

[17] نبيلة غصين، أهالي ضحايا تفجير 4 آب يطيّرون جلسة العار، المفكرة القانونية، 12/8/2021.

[18] بيان صادر عن مديرية الإعلام في مجلس النواب، ‎ 22/7/2022.

[19] لارا مدّاح، ملاحظات حول قانون رفع الحصانة عن الوزراء: تعديل الدستور بقانون أو لزوم ما لا يلزم؟، المفكرة القانونية، 22/11/2019.

[20] ماهر الخشن، المجلس النيابيّ يطلق المحاسبة تمجيداً للذات: “فلنرفع الحصانة بالطّهارة والطوبى”، المفكرة القانونية، 1/10/2020.

[21] فهمي للـLBCI: “لا يمكنني إلا أن أعطي إذن الملاحقة احتراماً للقانون”، 2/7/2021.

[22] المادة السابعة من قانون الدفاع الوطني الصادر في 16 أيلول 1983 (المرسوم الاشتراعي 102)

[23] تقاذف المسؤوليات بخصوص منح إذن ملاحقة صليبا: “ابعدوا عنا كأس الحصانات”، المفكرة القانونية، 17/7/2021.

[24] لارا الهاشم، الـLBCI تحصل على قرار المجلس الأعلى للدفاع حول إذن ملاحقة اللواء صليبا، موقع قناة “إل بي سي”، 13/8/2021.

[25] مغالطات عويدات في حديثه مع أهالي ضحايا تفجير المرفأ، المفكرة القانونية، 2/9/2021.

[26] يوسف دياب،  النيابة التمييزية تستمهل إعطاء الإذن لملاحقة اللواء إبراهيم في قضية المرفأ، جريدة الأنباء، 25/7/2021.

[27] نبيلة غصين وزينب حمّود، توابيت أمام منزل فهمي.. وحرس الوزير و”المكافحة” يعتدون على الأهالي، المفكرة القانونية، 14/7/2021.

[28] زينب حمّود، أهالي ضحايا التفجير لعويدات: “لا نريدك”، المفكرة القانونية، 17/9/2021.

[29] إبقاء حصانة الموظفين مجمّلة، المفكرة القانونية، 11/11/2019.

[30] فادي إبراهيم، الحريري يقترح تعديل الدستور لرفع الحصانات: مناورة احتيالية ثالثة لعرقلة التحقيق في مجزرة المرفأ، المفكرة القانونية، 28/7/2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، المرصد القضائي ، مقالات ، أجهزة أمنية ، دستور وانتخابات ، محاكم جزائية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، البرلمان ، مجزرة المرفأ ، سلطات إدارية ، محاكمة عادلة ، أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، قرارات إدارية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مجلة لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني