بنهاية العام القضائي 2023-2024، يطوي مجلس الهيئة الوطنيّة للمحامين ثلثيْ عهدته التي مدتها ثلاث سنوات، بما يعطي لثاني سنوات عمله أهمية في الكشف عن أدائه لكونها تلي السنة الأولى التي يقال أن تركيزه يستغرق حيّزا مهما منها وتسبق السنة الأخيرة التي يحكمها الاستعداد لانتخابات المجلس الذي سيخلفه. ويمكن بالتالي اعتبار السنة القضائية المنقضية مما يجب النظر فيه للسؤال عن حصاد هيئة المحامين وتقييم عملها، والذي يبدو فيما تعلق بالدفاع عن الحقوق والحريات في تواصل مع مجلس الهيئة الذي سبقه لجهة ضعفه وفي قطيعة عمّا سبقهما من مجالس كانت تولي هذه المهمة الأولوية في عملها.
الدفاع عن الحرّيات: أداء خجول
“المحاماة مهنةٌ حرّة مستقلّة تشارك في إقامة العدل وتدافع عن الحريات والحقوق الإنسانية”، كذلك عُرّفت المهنة في مرسومها والفصل 105 من دستور 2014.على أنها مهمّة الدفاع عن الحريات العامّة على وجه الخصوص، وفي مقدمتها حرية التعبير، وهي المهمة التي لم تعرْها الهيئة الاهتمام الأساسي، متخلّفة بذلك عن المشهد الحقوقي.
ففيما عدا بعض التصريحات لعميد الهيئة في بداية العام القضائي الذي شهد إيقاف المحامية ورئيس الحزب الدستوري عبير موسي، شهد صوت الهيئة خفوتا لم يقطعه إلا التحاق أحد شيوخ المهنة، البشير المنوشي للفرشيشي، بقائمة المحامين المحالين على التحقيق إثر اكتشاف موادّ في حقيبته قيل إنها ممنوعة وذلك بمناسبة زيارته لأحد منوّبيه بالسجن. عنونت الهيئة حينها بتاريخ 10 جانفي المنقضي بيانها “نحو إطلاق الحريات، لا للمساس بحق الدفاع، نعم لدولة القانون”، تضمّن استعراضًا للانتهاكات ضد المحامين ورفض انتهاج وزارة العدل والنيابة العمومية لاستسهال إحالة المحامين لأسباب تتعلق بأدائهم لمهامهم أو مواقفهم وأفكارهم السياسية، ولكنه تفادى تحميل المسؤولية للسلطة السياسية. بل على العكس، تبنّى البيان في النقطة السابعة منه مقولات “إنجاح مسار 25 جويلية في إصلاح أوضاع البلاد وتصحيح مسار الثورة” على نحوٍ بيّن اصطفافً المحاماة الرسمية مع المسار الرئاسي، على نحو يخالف ادّعاءها النأي بالهياكل المهنية عن أيّ اصطفاف مع أيّ طرف في التنافس السياسي وتوريطها فيه.
تواصل نزيف المحاكمات ضدّ المحامين، في الأثناء، بينهم منسق هيئة الدفاع في قضية “التآمر” والعضو السابق بمجلس الهيئة عبد العزيز الصيد في شهر مارس 2024، زاد في تكثيف الضغط على مجلس الهيئة لتحمّل مسؤوليته في الدفاع عن منظوريه، ولكن أيضًا في التصدّي لتصاعد انتهاكات السلطة للحريات العامة. وقد حفّز صدور قرار عن مجلس المنافسة بإيقاف قرار الهيئة المتعلق بضبط قائمة في معايير الأتعاب الدنيا للمحامين، مجلسها من أجل إصدار بيان جديد بتاريخ 21 مارس 2024 بدا أكثر وضوحًا وتضمّن تنديدًا بــ”واقع الحريات” وتأكيدًا على حقّ التونسيين في “نظام سياسيّ متطوّر وعصريّ وديمقراطيّ” مستنكرًا “سياسة المماطلة والتسويف التي انتهجتها السلطة التنفيذية لكل مشاريع إصلاح قطاع المحاماة”. بيان تضمّن تنبيهًا باتخاذ الوسائل النضالية بما فيها جلسة عامّة خارقة للعادة. الجلسة التي لن تتحمّس الهيئة للدعوة إليها في الحقيقة رغم “واقعة الدار” في شهر ماي الموالي إثر اقتحام قوات أمنية لـ”دار المحامي” للقبض على المحاميين سنية الدهماني ومهدي زقروبة خارج إطار الضوابط الإجرائية، وبطريقة مثلّت إمعانًا في انتهاك شرف المهنة.
كان في المقابل فرع المحامين بتونس، أكبر الفروع الجهوية، أكثر صرامة وذلك منذ إعلانه إضراب جهوي نهاية أفريل 2024 احتجاجًا على التضييقات على المحامين أثناء ممارسة حقّ الدفاع عن الحقوق والحريات، في إشارة بالخصوص لاستهداف المحامين في المحاكمات السياسية سواء عبر الإحالات القضائية أو عبر عرقلة ممارسة أعمالهم.
ضغط القواعد الغاضبة، في الأثناء، دفع مجلس الهيئة أيام المحنة لإعلان إضراب عام حضوري سبق وفرضه زمنيًا فرع تونس، مع تنظيم “يوم غضب وطني”، ومقاطعة باحث البداية لمدة ثلاثة أيام، وإقرار تقديم شكاية جزائية ضد كل من أصدر الأوامر ونفذها في اقتحام “الدار” مع تأسيس مرصد المحاماة لتوثيق الانتهاكات المتعلقة بالحقوق والحريات. تباعًا، تكثفت المؤشرات على أن المحاماة الرسمية أرادته يوم امتصاص لغضب المحامين أكثر مما هو يوم غضب المحاماة من السلطة السياسية وهو ما فرضته، في المقابل، القواعد التي تجمّعت بالخصوص “خارج قصر العدالة” وندّدت بالنظام السلطوي وتوجّهت لوزارة العدل رافعة شعار “ارحل” للوزيرة جفال.
بل تراجعت الهيئة عن تقديم الشكاية الجزائية على خلاف ما أقرّته في بلاغها، ولم تؤسس مرصد توثيق الانتهاكات. بل على العكس، خرج ممثل العميد في ذكرى تأسيس رابطة حقوق الإنسان، في ماي 2024، بخطاب خجول يدعو للتشبيك مع الجمعيات، متراجعًا بالخصوص عن دعوة العميد لمؤتمر وطني للحريات، الذي كان سيحفّز عودة المحاماة الرسمية إلى ممارسة دورها الوطني. هو لجم ذاتي رغم هول “المحنة”.
العميد يلتقي وزيري الداخلية والعدل: وأما بعد؟
في خضم ما ظهر من انكفاء الهيئة عن التنسيق مع المنظمات والجمعيات الوطنية للتصدي للهجمة الممنهجة على الحريات العامة وعن تنظيم مؤتمر وطني للحريات، في موازاة استمرار مدّ يدها للسلطة، واصل رئيس الدولة، من جانبه، إدارة ظهره دون استقبال عميد المحامين.
في المقابل، نهاية شهر ماي الذي سيظلّ شهرا مشهودا في تاريخ المهنة، استقبل وزير الداخلية المعيّن حديثًا مرفقًا بكاتب الدولة للأمن الوطني رئيس الهيئة العميد حاتم مزيو الذي أثار “التجاوزات الإجرائية في خصوص تنفيذ البطاقات القضائية التي طالت دار المحامي”. بالمقابل، صمت بيان الهيئة عن الحديث عن وقائع ما تعرّض له عضو المكتب التنفيذي للجمعية مهدي زقروبة عند إيقافه من أضرار بدنية تشكّل وفق ما أكده زملاؤه جريمة تعذيب. وما يزيد من قابلية خلو البيان من أي ذكر لهذا الاعتداء هو أنه يكان سبق اللقاء تقديم 1700 محام شكاية جزائية لا زالت حتى الساعة في رفوف النيابة العمومية.
لاحقًا وبعد ما يزيد عن شهر، استقبلت وزيرة العدل ليلى جفال، بداية شهر جويلية 2024، رئيس الهيئة في جلسة عمل تطرقت “إلى عدد من المسائل المهنية” من دون أي إشارة إلى التطوّرات الأخيرة من قريب أو بعيد. كان يُنتظر أن تصدر الهيئة بيانها حول النقاط التي طرحها العميد والتي ربّما أغفل بيان الوزارة عن ذكرها، خاصة وأن وزيرة العدل ترأس النيابة العمومية التي تقف وراء إثارة التتبعات والإذن بالتفتيش والقبض في “دار المحامي”. الهيئة واقعًا اكتفت على صفحتها الرسمية بإعادة نشر بلاغ وزارة العدل بما يعني مصادقة تامة عليه. شكّلت “إعادة النشر” مؤشرًا على مدى تماهي الهيئة مع خطاب السلطة وسقفها حول علاقتها مع الهيئة.
بل أنه قبل أسبوع واحد من لقاء الوزيرة، نقضت محكمة الاستئناف بتونس الحكم الابتدائي بعدم سماع الدعوى ضد العضو السابق للهيئة ومنسق هيئة الدفاع في قضية “التآمر” عبد العزيز الصيد والذي كان أدى لإبعاد رئيس الدائرة، لتقضي المحكمة مجددًا بإدانته وسجنه لمدة تسعة أشهر مع تأجيل التنفيذ. قضية أثارتها النيابة بإيعاز من الوزيرة بعد إعلان الصيد، قبل عام، تقديم شكاية جزائية ضدها من أجل شبهات التدليس في أوراق ملف قضية التآمر. قرار محكمة الاستئناف كان مؤشرًا عن إمعان في مساءلة المحامين الحقوقيين من أجل ممارسة أعمالهم.
المحامون المعتقلون: شعور بالخذلان
وفي خضم هذه الصورة، المحامون المعتقلون بداية من غازي الشواشي ورضا بالحاج الموقوفين على ذمة “قضية التآمر”، ونورالدين البحيري وعبير موسي وصولًا لسنية الدهماني، لا يخفون حجم خيبتهم من خذلان مؤسسة الهيئة الوطنية وتحديدًا عميدها في تقديم الإسناد اللازم. والمنتظر هنا ليس المطالبة بالإفراج عنهم أو تصريحات إعلامية مناسباتية وحسب، بل الحسم بتصنيف القضايا الملاحقات ضدّهم على أنها ملاحقات سياسية تفتقد لضمانات المحاكمة العادلة في ظل واقع عدم استقلالية القضاء. بكلمة، المسألة تتعلق، بالنسبة إليهم، بأصل القضايا وخلفياتها السياسية وليس بشكليّاتها، وبالتبعية بما يستلزمه ذلك من إسناد الموقوفين بشكل صريح وصارم في مواجهة سجّانهم سواء على المستوى الخطاب الرسمي أو على مستوى طرح الملفات مع الجهات “الرسمية” من دون عن الحرص على متابعة تطوراتها بشكل شخصي ومباشر مع الجهات القضائية المتعهدة.
خيبة زادها ما يعبّر عنه دائمًا عدد من المحامين المعتقلين لزملائهم بشعور بالخذلان من عدم تأدية العميد لأي زيارة دعم وتضامن لهم في سجن الإيقاف. أدى، في المقابل، أعضاء بالهيئة بتكليف من العميد أو بمبادرة منهم زيارات تضامنية لزملائهم، ولكن لم ترأب الصدع المتفاقم بين المحامين المخذولين وهيئتهم وبالخصوص عميدهم. خذلان أيضًا بما ظهر من عدم حرص جدّي على تأمين ظروف إيداع المحامين الموقوفين مع الجهات الإدارية والصحية.
والخذلان بوجه عامّ عبّر عنه بشكل غير مباشر مهدي زقروبة، عضو المكتب التنفيذي لجمعية المحامين الشبان، يوم الإفراج عنه، حينما ألقى كلمة في حفل تخرّج الدفعة الأخيرة من المحامين الدّارسين بالمعهد الأعلى للمحاماة. إذ توجّه بالشكر إلى زملائه وإلى رئيس جمعية المحامين الشبان طارق الحركاتي، مستنكفًا عن شكر العميد المزيو الذي كان يعتلي المنصّة إلى جانب العميد السابق ورئيس البرلمان الحالي العميد إبراهيم بودربالة.
دورات التكوين: كل شيء عدا الحريات العامّة
وفي خضمّ العام القضائي الاستثنائي في تاريخ المحاماة، تأكّد أن الدفاع عن الحقوق والحريات العامة وهي رسالة تكليف أوردها مرسوم المهنة نفسه، واستعادة الدور الطلائعي للمهنة في التصدي للانتهاكات والانخراط في مسار استعادة المسار الديمقراطي وفرض شروط دولة القانون، ليست أولويات للهيئة.
وقد تجلّى ذلك في غياب أي من هذه المواضيع في الدورات التكوينية التي نظمتها الهيئة طيلة العام القضائي سواء بمفردها أو بشراكة مع هياكل أخرى. إذ تمحورت مختلف مواضيع الورشات والندوات، وعدا ما طرحته حرب غزة من جهة تناول القانون الدولي بالأساس، حول مسائل تقنية مثل الرقمنة، وحماية المعطيات الشخصية، وقانون العنف ضد المرأة، والمحامي بوصفه مستشارا للمؤسسات الاقتصادية والإشكالات الإجرائية في المادة الجزائية.
المكاسب المهنية: الجري وراء الجزرة الموعودة
في مفتتح العام القضائي وتحديدًا بتاريخ 15 سبتمبر 2023، صرّح العميد المزيو أن “هذه سنة الإصلاحات في المحاماة”. ولكن بنهايتها لم يتحقّق أيّ شيء. إذ لم تستطع الهيئة تحقيق أي اختراق مع السلطة لجني أي مكاسب مهنية يُروّج أنها موعود بها، بل بات يُبرّر بها تفادي إثارة المسألة الحقوقية معها بشكل قد يؤدي لخسارة في الجانب المهني على نحو ما تظهر ضمنيًا كأنها مقايضة.
بل على العكس، واجهت المحاماة، خلال العام القضائي، مقترح قانون عدول الإشهاد الذي تضمّن توسيعًا للصلاحيّات الحصرية لهم على حساب مجال تدخل المحامي. مقترح أثار حالة استنفار دفعت العميد لتوجيه رسالة مكتوبة إلى العميد السابق ورئيس البرلمان إبراهيم بودربالة رفضًا للمقترح باعتباره بمثابة “العبث القانوني”. بل أكثر من ذلك أوقف مجلس المنافسة وبتعهد تلقائي، في مارس 2024، قرار الهيئة المتعلق بضبط معايير الأتعاب الدنيا.
في المقابل، تواصل انعدام المضي في أي مشروع تراه المحاماة الرسمية ضروريًا لإصلاح المهنة. دعا العميد في أفريل 2024 وزارة العدل للالتزام بتعهداتها بخصوص التقاضي الإلكتروني. عنوان إصلاحي ولكن ما يظهر أكثر أهمية في ميزان “الإنقاذ” هو تعديل أمرين اثنين: الأمر المنظم لصندوق التقاعد والحيطة للمحامين والأمر المتعلق بتعديل قيمة طابع المحاماة. إذ يشهد الصندوق أزمة مالية خانقة بما انعكس بالخصوص على تأخر آجال استرجاع المصاريف ومحدودية جراية التقاعد. تسعى الهيئة للحفاظ على توازناته المالية عبر تطوير موارده بما يشمل الترفيع في قيمة الطابع وإتاحة تداوله إلكترونيًا. ولكن لم تتبيّن حتى اللحظة أجندة السلطة في المضي في الإصلاحات المطلوبة بخصوص هذين الأمرين على وجه التحديد، رغم الوعود المُرسلة.
كما تطرح الهيئة، في الأثناء، تعديل قانون المهنة بغاية “تطويرها”، ويبدو فتح باب تنقيح المرسوم بمثابة مخاطرة غير مضمونة المآلات أولًا من جهة ما أثبتته السلطة ممثلة في وزارة العدل ليس فقط عدم تحفّزها في الاستجابة للمطالب المهنية للمحامين بل استهدافها لضماناتهم القانونية في الممارسة الواقعية. ولكن أيضًا وثانيًا من جهة الضعف غير المسبوق لحضور جسم المحامين في البرلمان، على خلاف ما كانت عليها الصورة في البرلمانات السابقة، وهو ضعف لا يحفّز واقعًا لتنقيح وفق السقف المأمول في ظل التوازنات البرلمانية الحالية، بل قد يفتح الباب، في نهاية المطاف، لنكوص عن مكاسب تشريعية واردة في المرسوم الحالي.
لا ترسيم للقضاة المعفيين: قرار نهائي
في سياق كلّ ذلك وفي نهاية العام القضائي، حسم مجلس الهيئة برفض ترسيم جميع القضاة المعفيين في حسم مبدئي دفعة واحدة دون دراسة حالة بحالة، على خلاف ما ذهب إليه التوجه في بادئ الأمر، عبر توزيع ملفات الترسيم على عدد من أعضائه بوصفهم مقرّرين. وظلّ سؤال مدى مواصلة اكتسابهم لصفة القاضي من عدمه بعد إيقاف تنفيذ أمر الإعفاء في أوت 2022 وفي ظل عدم البت في دعاوى الإلغاء أمام المحكمة الإدارية، مسوغًا شكليًا أوليًا للدفع نحو التحفّظ على الترسيم لدى لفيف من أعضاء الهيئة. والحال في المقابل، كان رفض وزارة العدل إعادة المعفيين لمراكز عملهم يثبت العلاقة الشغلية قطع العلاقة الشغلية بقوة الأمر الواقع.
وكان قرار أغلبية أعضاء مجلس الهيئة يإيعاز من مجموعة العميد بالحسم في عدم الترسيم رغم إمكانية التأجيل في البت عنوانه التأخر غير المبرر في اتخاذ القرار. وهو إن كان مسوّغا مقبولا ظاهريًا خاصة بعد مرور ما يزيد عن عام ونصف منذ تلقي المطالب، فإنه يظلّ واقعًا تشوبه شبهة توجيه عربون للسلطة وتحديدًا وزارة العدل، بخاصة أن قرار الرفض جاء بعد أسبوع من لقاء الوزيرة، عرّابة مذبحة الإعفاءات، وخاصة بعد الوعود بالاستجابة للمطالب المهنية. بل وكان للهيئة، وحتى بميزان الحسابات المحبّذ لديها، من جهة الإبقاء على ورقة الترسيم بيدها تجاه سلطة يظهر أنها لا تحبّذ ترسيم المعفيين في المحاماة، ومن جهة أخرى عدم إعدام الآمال مطلقًا في الترسيم بالنسبة للمعفيين أنفسهم.
وقرار رفض الترسيم وإن كان متوقعًا في الواقع بالنظر لجهة التوازنات داخل مجلس الهيئة رغم تصاعد القناعة التدريجية صلبه، طيلة الفترة المنقضية، بخلاف ذلك، فإن ذلك يعزّز حقيقة تواطؤ الهيئة تحديدًا عبر عميدها السابق في تبرير مذبحة الإعفاءات ومن ثمّ تبرير عدم تنفيذ قرارات محكمة الإدارية بتوقيف التنفيذ. إذ يعتبر رفض الترسيم دفعة واحدة انخراطًا في تعسير مهمة التصدي داخل الجسم القضائي لواقع قضاء التعليمات، باعتبار تزايد مخاوف القضاة المباشرين من تبعات الإعفاء من جهة آثاره الاجتماعية والمعيشية باعتبار صدّ إمكانية العمل من بوابة المحاماة التي طالما كان يُنظر إليها، تاريخيًا، على أنها البيت الجامع للعائلة القضائية، بخاصّة في فترات المحن. البيت الذي أكده العميد السابق منصور الشفي حينما رسّم القضاة المعزولين بقرار سياسي زمن بورقيبة في الثمانينيات بغاية التصدي لتجويع القضاة ومحاصرة نضالهم الجمعي من أجل استقلال القضاء.
قرار مجلس الهيئة برفض الترسيم، في الأثناء، قابل للطعن أمام محكمة الاستئناف بتونس، لتكون فرصة لفحص الرقابة القضائية على شرعية قرار الرفض، وإن كان واقع هشاشة استقلالية القضاء يخيّم على مآل هذه الرقابة المنتظرة.
بالنهاية، يبقى لمجلس الهيئة عام من عهدته، عام متحفّز سياسيًا في انتظار مآل الانتخابات الرئاسية في شهر أكتوبر المقبل، وكذلك مهنيًا في انتظار مكاسب موعودة في سياق عام انتخابي قبل تجديد الهياكل العام المقبل، وكل ذلك في ظل حصيلة خجولة حتى الآن في الدفاع عن الحريات وإسناد المحامين الموقوفين في المحاكمات السياسية، وأيضًا في ظل غياب أي منجز مهني مع سلطة تتصاعد دائمًا المؤشرات بعدم تحفّزها لتحقيق أي مكاسب للمهنة، بل على العكس يتصاعد استهدافها للمحامين وضماناتهم.