حسين وإسحاق استشهدا: قصّة شقيقين وقرى تقاوم التهجير


2024-09-16    |   

حسين وإسحاق استشهدا: قصّة شقيقين وقرى تقاوم التهجير
صورة للشهيدين بيد شقيقيهما علي وسلمى

كانت سلمى عليّان مع أمّها في السيارة على الخط الساحلي الذي يربط البيّاضة بمدينة صور، وكان شقيقاها حسين (20 عامًا) وإسحاق (14 عامًا)، يتبعانها على دراجة ناريّة. تأخّر الشقيقان، وأكملت الأسرة القيادة على أن يلتحقان بها. لحظات حتى وصل سلمى خبر وقوع غارة على البيّاضة. أوقفت السيارة بسرعة، واتصلت بأخيها حسين: لم يردّ. 

كان حسين جريحًا ينزف على الأرض، وأخوه إسحاق قربه جثة همدت، وطفلًا استشهد. استهدف الشقيقان بصاروخ من مسيّرة إسرائيليّة، وعقارب الساعة تشير إلى الخامسة و32 دقيقة عصرًا. “تألّم حسين قبل أن يستشهد”، تخبرنا سلمى التي التقيناها في الرماديّة، حيث عزاء العائلة، وتقول وهي تشدّ على نفسها إنّ شقيقيها: “استشهدا جائعيْن وعطشانيْن”. 

بالأصل، تأخًّر حسين وإسحاق عن اللحاق بسيّارة الأسرة لأنّهما عادا إلى المنزل لإحضار الهاتف. وهو الهاتف الذي ظلّ يرنّ على الأرض في موقع الغارة، بجوارهما، حتى وصل الأهالي والمسعفون، ليجدوهما ممدّدين على الإسفلت في شارع مكشوف جيّدًا للطائرات الإسرائيليّة، على الطريق العام في البيّاضة. 

ودائمًا ما تُخبر تفاصيل اللحظات الأخيرة للشهداء من أهل الجنوب التي يشاركها أهلهم، عن أفعال عاديّة، قطعتها لحظة العدوان، فخلّدتها، ما يُظهر المقدار الهائل من الوحشيّة التي تبطش بالسكّان، أهل الأرض، فتتحوّل الحرب الإسرائيليّة إلى تسلسل ممنهج – وموجع جدًّا – من الجرائم المتعاقبة. وقد بات استهداف الدرّاجات الناريّة، سمة من سمات العدوان، لكنّها تتوسّع للإيقاع بالمزيد من الضحايا. في المقابل، تتزايد إرادة الصمود مع ازدياد المخاطر، وهي إرادة بديهيّة، تعكس علاقة وثيقة للناس بأرضهم. 

“يودّع الجنوب شهيدًا واثنين من أبنائه كلّ يوم، وودّعت أم حسين ابنيها شهيدين اثنين في لحظة واحدة”، تقول فاطمة، التي عرفت الشهيد حسين رفيق دراسة في كلّية العلوم في الجامعة اللبنانيّة في صور، وتصبح أم الشهيدين وكأنّها تحمل حمل الجنوب كلّه، في أيّام شدّته هذه.

صورة للشهيدين علّقت في حسينيّة بلدة الرماديّة

“خسر البيت شمعتين”

يوم الأربعاء، استشهد حسين وإسحاق، ويوم الخميس، شُيّعا في البيّاضة. وكان حسين يوارى الثرى مفوّتًا موعد استلامه سكنه الجامعيّ في بيروت، والذي كان يفترض أن يكون صباح يوم تشييعه، كما كان يخطّط وهو يرسم لحياة جديدة في العاصمة، لولا الصاروخ الإسرائيليّ. وكان إسحاق يَعِد نفسه بعام دراسيّ مقبل، ينتقل على إثره من مرحلة “الأساسي” إلى “الثانوي”، ضمن مشوار كان يتخيّله طويلًا لولا الصاروخ العدواني عينه. 

يوما الجمعة والسبت، حملت الرماديّة، قرية الأم، لواء الحزن عن البيّاضة، قرية الأب، وأعلنت مجالس العزاء عن روح الشهيدين. على طول الطريق إلى الرماديّة الرابضة فوق هضبة بين قريتي قانا والشعيتيّة، يخيّم شبح المسيّرات الإسرائيليّة، وتمركزها المستمر في الجوّ، جاهزة للانقضاض على أيّ “هدف”. 

لكنّ الحياة التي خفتت في القرى، لم تتراجع إلى داخل البيوت كلّيًا. صوت الهواء الآتي من الوديان، تعكّره أصوات الدراجات الناريّة التي – رغم استهدافها المتكرّر – لا يعرف الشبان وسيلة مواصلات أخرى غيرها، كي يذهبوا إلى أعمالهم، ويتنقّلوا بين بيوت رفاقهم وأقاربهم. وعلى الطريق، تلتقي بحاجّة عجوز قرّرت المشي بين الشعيتيّة والرماديّة لحضور العزاء، موسّعة في كلّ خطوة تخطوها، حدود الأمان للشبّان والصبايا الذين تخيفهم عشوائيّة الاستهدافات في المنطقة. 

في ساحة أمام محطّة وقود متواضعة، توافد المعزّون، والمعزّيات، وتجمّعوا هنا، قبل أن ينطلقوا في مسيرة الحزن نحو حسينيّة البلدة. 

ويتجمّع الصبية، وكلّهم عرفوا إسحاق، يريدون التحدّث عنه بما يعرفونه من مفردات، فقد كان “يحب كلّ الناس”، و”يدافع عن الضعيف” وكان يحامي عن أقرانه ويلعب معهم في كلّ زيارة “وكان يحب كتير يجي عالضيعة، ضيعة أمه”. وكان الطفل الشهيد يحلم بالانضمام إلى فرق الدفاع المدني، حلم يكرّره الناس هنا، ويخبرونه للمتطوّعين والمتطوّعات من هذه الفرق، المتواجدين بدورهم ضمن مراسم العزاء، جاهزين لأيّ طارئ. 

ويحكي الشبّان والشابات عن حسين. كان حنونًا، مع أسرته، ومع العائلة، يسرّ لرفاقه بأحلام متواضعة، يكوّنها على مهل في بيته الفقير. وقد عمل حسين طوال فصل الصيف نادلًا في مطعم محلّيّ، من أجل جمع المال اللازم لدعم انتقاله إلى بيروت، حيث سيتابع السنة الجامعية الثانية ضمن اختصاص “علوم الحاسوب”، بعد أن أتمّ سنته الأولى في كلّية العلوم في صور. 

في العزاء، كان بكاء الأمّ عظيمًا، وكذلك بكاء عائلتها، يفطرون قلوب الأهالي وكل من جاء يشاركهم المصاب. تقول الحاجّة أم علي من على باب منزلها في الرماديّة، وهي تراقب باب حسينيّة البلدة، واقفة كأنّها على وشك ان تقع: “الأم بتودّع إبنها بكلمة يا نور عيني، وأم الشهيدين ودّعت نور عينيها التنتين”. قربها شقيقها حمّود برجي، خال الشهيدين، يقول بصوت بُحّ من البكاء: “هالبيت خسر شمعتين، شو بعد في حكي؟”. 

معزّون في الرماديّة 

“يوم الوداع”

دفن جسد إسحاق لكنّ دماءه لا تزال تفوح برائحتها من على قجّة كان يحملها لحظة استشهاده، وفيها ما جمعه من المال خلال عمله الصيفيّ في سوبرماركت في قرية المنصوري. ودفن جسد حسين، لكنّ دماءه هو اللآخر، لا تزال على هاتفه الذي وجد في مكان الغارة. وقد احتفظت سلمى بالقجّة والهاتف.

سارة تحمل قجّة عليها بعض من دماء الشهيد إسحاق 

يوم الخميس، كانت الجنازة قد وصلت قرية البياضة ظهرًا، بعد أن انطلقت من برج الشمالي، متّجهة جنوبًا على طول الخط الساحلي، ثم صاعدة إلى القرية الصغيرة عبر “الجبل المشقح”، كما يسميه أهل الجنوب. “زلغطنا من الفجيعة، ورشيّنا الرز للعرسان”، تقول أم علي عليّان، الستينية ابنة البيّاضة، واصفةً لحظة بدء مراسم الدفن.

لُفّ تابوتا الشهيدين بالعلم اللبناني بألوانه الحمراء والبيضاء، بينما عمّ السواد صفوف المشيّعين. وبهدوء، أُنزل التابوتان في ظلّ الأشجار الخضراء، وبدا الجمع، رغم اتّساعه، ضئيلًا أمام عظمة السفوح الجبليّة البيضاء، مستمدّة لونها من الصخر الكلسي الأبيض الذي يغطيها، مانحًا اسم “البياضة” للبلدة التي تطلّ على البحر مباشرة، كاشفة الساحلين اللبنانيّ والفلسطينيّ.

وبين الجموع، كانت أمّ الشهيدين تقف جبلًا بحاله أحناه ثقل المصاب، لا يشبه حزنها حزن أحد، ويمكن تمييز حرقتها من بعيد. تقف هي، مكلومة بالعدوان، والنسوة على يمينها وشمالها، متضامنات مؤازرات. 

قرى الخطّ الثاني تقاوم باللحم الحيّ

يوم التشييع، حضر الناس من القرى المحيطة، وجاء أهل البيّاضة، وهم كلّهم من عائلة عليّان التي جاءت من الجليل في فلسطين زمن العثمانيّين، وسكنت حيث عملت في مزرعة البياضة. وتقع البيّاضة في المنطقة الخلفيّة للقرى الحدوديّة. لم ينزح عنها أهلها، شأنهم شأن أقرانهم من أهالي القرى التي تعرف بقرى الخط الثاني. ورغم الغارة، لم تُسجّل موجة نزوح من القرية، ولو أنّ مستوى القلق ارتفع بين الناس، بحجم ألمهم. 

تروي سلمى، شقيقة الشهيدين، أنّها لم تتوقع اغتيال شقيقيها، لاسيّما على الدراجة الناريّة عينها التي لطالما كانت تتنقل عليها هي برفقة الشهيد حسين: “فالحياة في البياضة حياة طبيعية، رغم الخطر المستمر”. ومنذ بداية الحرب، نزح أهالي القرى الحدودية، أما قرى الخط الثاني، فقد عاد من نزح عنها في الأيام الأولى لطول أمد الحرب، ولتركّز الغارات اليوميّة على قرى الخطّ الأوّل، ولو أنه يشتدّ في قرى الخط الثاني ويتسع ليشمل كل الجنوب، وحتى البقاع. وفي هذا العدوان الذي يوشك أن يطوي عامًا كاملًا، يستمر الناس على طول قرى الخط الثاني بالحياة، رغم الخطر ورغم تتابع سقوط الشهداء من بينهم. 

والاستهداف العدواني نفسه لاستمرار الحياة في عموم الجنوب، أدى يوم الخميس، لاستشهاد الطفل مهدي (3 سنوات) مع أبيه صادق مبارك على دراجة ناريّة في منطقة كفرجوز، قضاء النبطيّة. ومنذ بداية الحرب، كانت الدراجات النارية، التي تستخدم بشكل متكرر للتنقل في قرى الجنوب، هدفًا للاحتلال، وكان راكبوها هدفًا للاغتيالات. 

لكن توسع استهداف الدراجات النارية، وشموله المزيد من الأسر والأهالي المدنيّين، يؤكّد خروج السلوك الإسرائيليّ عن أهدافه العدوانيّة العسكريّة نحو محاولة فرض الهيمنة وتقييد الحركة في القرى المصرّة على عدم “الإخلاء”. ولعلّ دم حسين وإسحاق، كسائر أقرانهما، شهادة على كلفة الصمود بالأرض، في زمن الجنون الإسرائيلي الذي يرتكب إبادة جماعية في غزة ويبطش في الجنوب حيث يحاول تدفيع المدنيين الثمن الأقصى، ضمن الحدود الحالية للمواجهة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني