حسيديم أعلى التلة: قصّة حولا مع قبر العبّاد والمطامع الاستيطانيّة


2025-03-08    |   

حسيديم أعلى التلة: قصّة حولا مع قبر العبّاد والمطامع الاستيطانيّة
الإجراءات الإسرائيليّة الجديدة بعد ترميم منطقة قبر العبّاد ومصادرتها

شاهد زياد قطيش، ابن بلدة حولا، مئات الحسيديم الإسرائيليين يقفون في المكان الذي طالما دخله مطمئنًا وزاره بخشوع. وقف الشاب الثلاثينيّ اليوم متجمّدًا، وعيناه تحدّقان في المشهد غير المألوف: رجال وشبّان بالمئات، تحيط بهم وحدات عسكرية مدجّجة بالسلاح، يقتحمون قبر العبّاد، الموقع التاريخي الذي يشكّل جزءًا من ذاكرة عائلته وقريته لأجيال. وكأن صدمة باردة اجتاحته: “انسمّ بدني حقيقة، انسميت كلني.. بعدني شايفهم”، يقول لـ “المفكرة”، وكأن المشهد يرفض مغادرة عينيه.

اقتحم 800 إسرائيليّ من اليهود الحسيديم الموقع الواقع في الأراضي اللبنانيّة صباح اليوم الجمعة، بحماية من جنود الجيش الإسرائيلي بزعم أنّه قبر لحاخام يدعى آشي، وهو حاخام يهودي عاش في القرن الخامس الميلادي. لكن زياد وأهل حولا يعرفونه باسم آخر: قبر العُبّاد، المكان الذي اعتادوا زيارته تكريمًا لنُسّاك مدفونين فيه، وفق الرواية المحلية. وقربه، استراحة يشربون فيها الشاي ويتأملون قريتهم من أعلى.

في شباط الماضي، ذكرت تقارير إعلامية أنّ إسرائيل استغلّت تمديد مهلة الانسحاب، لترميم القبر وطلائه، ونقل الجيش الإسرائيلي السياج الحدودي شمالًا، ليصادر كامل القبر ومحيطه، معيدًا تشكيل المكان ليصبح وجهة دينية مهيّأة لاستقبال المستوطنين. 

وبعد 5 نقاط محتلّة عسكريًا، ترفض إسرائيل الخروج منها بما يناقض إعلان وقف الأعمال العدائيّة والقرار 1701، أصبح هذا المكان نقطة سادسة مصادرة بالكامل لصالح تحويله إلى موقع دينيّ يهوديّ تحت إشراف الجيش الإسرائيلي. “قبل، حتى الخوذة الإسرائيلية ما كنا نشوفها هون، واليوم المستوطنين أنفسهم واقفين محلّنا… يبدو أنها ممارسات تتمّ تحت غطاء الالتزام بوقف إطلاق النار من ناحيتنا”، يقول زياد.

وفقًا للفريق القانوني في “المفكّرة”، يُعدّ تنظيم الجيش الإسرائيليّ دخول إسرائيليّين بحماية منه إلى الأراضي اللبنانيّة خرقًا لاتفاق وقف إطلاق النار لعام 2024، وانتهاكًا لقرار مجلس الأمن رقم 1701 لعام 2006، الذي يؤكّد بشدّة على الاحترام التام للخط الأزرق. كما يشكّل اعتداءً على سلامة أراضي لبنان وسيادته واستقلاله داخل الحدود المعترف بها دوليًا وفقًا لما ورد في اتفاق الهدنة العامة بين لبنان وإسرائيل في العام 1949، وهو ما يؤكّد عليه القرار 1701 أيضًا. وينطبق هذا أساسًا على سيطرة إسرائيل على النقاط الخمس والمناطق المجاورة لها داخل الحدود اللبنانية، ما يشكّل احتلالًا يتعارض مع القانون الدولي.

والموقع الذي تؤكّد الخرائط لبنانيّته الخالصة، احتلّ مع اجتياح الجنوب عام 1982، ثمّ صودر جزء منه رغم تحرير عام 2000، عبر الخط الأزرق (خط الانسحاب) الذي لم يطابق هنا الحدود الدولية، قبل أن يتوسّع الاحتلال اليوم على حساب أراضي حولا، ويُحوّل قبر العبّاد بأكمله إلى موقع دينيّ يهوديّ مصادر.

السياج الإسرائيليّ الراسم للخط الأزرق ومروره فوق القبر قبل أعمال المصادرة الأخيرة

قبل يومين، كان الجيش الإسرائيليّ يطلق النار على أهالي حولا المتواجدين في الحيّ الشماليّ العائدين إلى أرضهم، واستمرّ التمشيط الناريّ ضدّ الحيّ لنصف ساعة. واليوم ينظر زياد إلى بيوت قريته المهدّمة، مشهدٌ مناقض تمامًا للموقع المرمّم والمهيّأ لاستقبال الزوار الإسرائيليين. في حي تل الهنبل السكنيّ، حيث كان الناس يعيشون حياتهم اليومية أسفل جبل العبّاد، لم يعد هناك شيء قائم. محيت معالم الحيّ بالكامل، وسُوّيت منازله بالأرض، فيما أصبح الجبل والقبر، اللذان شكّلا جزءًا من ذاكرة أهل حولا، مشوّهين بوجود الغرباء. ويتخوّف أهالي حولا من أنّ ما جرى ليس مجرّد حدثًا عرضيًّا، بل خطوة ضمن إعادة تنظيم السيطرة على نقطة حدودية حساسة، وجزءًا من سياق أوسع، حيث يُعاد إنتاج تكتيك استيطاني مجرّب، لكن هذه المرة، عند الحدود اللبنانية.

لبنانيّة الأرض

على بعد ساعات من انتهاء الزيارة، كان صبحي نصرالله، السبعينيّ ابن حولا، يراقب المشهد. لم يكن غاضبًا بقدر ما كان مصممًا. “هذه أرض لبنانية مثلها مثل بيروت وعكار، وما بصير التفريط فيها”، قالها بصرامة، قبل أن يضيف بصوت أقوى: “هذا تعدٍّ على الأرض وعلى الكرامات، وما رح نخليهم يثبّتوه”. ويتابع: “لا نخشى تثبيت الاحتلال، هذا الأمر لن يحصل، وإن حصل يكون لدينا معهم حديث آخر”، يقول بلهجة مهدّدة.

الجيش اللبناني في الجهة الأخرى من القبر بعد تحرير 2000 وقبل مرور الخط الأزرق فوقه (تصوير كامل جابر)

وتستند الحدود الجنوبية اللبنانية إلى ترسيم فرنسيّ بريطانيّ للحدود بين لبنان وفلسطين زمن الانتداب. وأكّدت اتفاقيّة الهدنة لعام 1949 اتّباع خط الهدنة للحدود الدولية وفق اتفاقية بوليه – نيوكومب بين فرنسا وبريطانيا. ويقع موقع القبر بأكمله شمال الحدود الدوليّة، في الجهة اللبنانيّة، وقد ورد تسمية موقع العبّاد باسم “الشيخ العباد” خلال هذا الترسيم، ما يدعم التسمية التاريخيّة له من قبل سكّان المنطقة. 

مسؤولون عسكريون إسرائيليون وآخرون من القوات الدولية في موقع القبر على جهتيه في تموز 2000

وخلال فترة الاحتلال الإسرائيليّة لجنوب لبنان، بنت القوّات الإسرائيليّة موقعًا عسكريًّا محصّنًا أعلى تلّة العبّاد، ليقع القبر بداخله. ومع تحرير عام 2000، رسمت الأمم المتحدة “الخط الأزرق” للتحقّق من الانسحاب، وهو خطّ انسحاب وليس حدودًا دولية، مع تسجيل لبنان تحفّظاته وفق خطّ الهدنة لعام 1949. وخلال رسم الخطّ الأزرق على الأرض، أصرّت إسرائيل على الاحتفاظ بالموقع، وهو ما وثّقه خبر صحافيّ نقلًا عن تصريح لليونيفيل لصالح لوكالة رويترز بشأن القضيّة نشر في تمّوز 2000. ومرّ الخطّ الأزرق فوق القبر، فكان ثلثاه في الجهة اللبنانيّة وثلثه في الجهة الإسرائيليّة، مع تسجيل تحفّظ لبنان.

مواطنون لبنانيّون بمواجهة القوّات الإسرائيليّة على جانبي قبر العبّاد عقب تحرير عام 2000 (تصوير كامل جابر)

“لسنتين بعد التحرير، لم يكن هناك فاصل في منطقة القبر، بل كان القبر بيننا وبينهم، فكنّا نذهب إليه ونزوره، وعلى الطرف الآخر كان يتمركز الإسرائيليّون”، يروي زياد. ولاحقًا، ستستمرّ زيارة أهل حولا وشبابها إلى القبر ومنطقته، حتى بعدما وضعت القوّات الإسرائيليّة سياجًا وبلوكات باطون فوق القبر تمامًا، تفصل جهتي الخط الأزرق.

وزياد وصبحي، جيلان مختلفان، لكنهما يشتركان في الغضب ذاته: الاحتلال هنا، ليس مجرّد احتلال عسكريّ، بل يأخذ طابع استيطان ديني يحاول تغيير هوية المكان نفسها. الثلاثينيّ زياد كبر على الموقع محرّرًا، يتردد إليه باستمرار وتختلط ذكريات تحريره بذكريات طفولته. أمّا صبحي السبعينيّ، فإنّه يرى في المشهد إعادةً لماضٍ لم يُطوَ بعد، حيث عرف الاحتلال يوم كان واقعًا مفروضًا، وعاش التحرير يتحقق بعد أن كان حلمًا بعيدًا، والآن يراه مهددًا من جديد. 

هوية المكان

إنّ لبنانيّة المكان لا لبس فيها، رغم هذا، فإنّ إضاءة على هويّته تظهر تلاعبًا إسرائيليًّا بالرواية لصالح فرض الاحتلال تحت غطاء الدين. ولم يكن قبر العبّاد (والقبور القديمة المحيطة به) يومًا مجرّد نقطة جغرافية على خريطة جنوب لبنان، بل كان أحد المعالم البارزة التي ميّزت قرية حولا تاريخيًا. وفقًا لـ”مسح غرب فلسطين” (ص 87)، الذي أجراه صندوق استكشاف فلسطين البريطاني عام 1881، تمّ وصف حولا بأنها قرية مبنية من الحجر، ومن أبرز ما فيها قبر شيخ، وتقع على قمة التلّ، وتحيط بها أشجار الزيتون والكروم والأراضي الصالحة للزراعة، ويوجد بها عدة صهاريج وبركتان (إحداهما منحوتة في الصخر) وعين ماء.

وتأتي الروايات الشعبية، لتصوغ قصّة للمكان تتشابك فيها الأسطورة مع التاريخ. في كتابه خطط جبل عامل، يصف السيد محسن الأمين الموقع قائلاً: “العبابيد، مكان على جبل مشرف على هونين بينها وبين حولا، فيه شجرات عادية تسمّى العباد وتسمّى العبابيد أيضاً. يُقال إنه كان فيه جماعة من العباد، وإليهم تنسب الحصر المسماة بالعبدانية، لأنهم كانوا يصنعونها ويبيعونها في هونين، ولهم قصة مع ابنة صاحب هونين…”

لكن وراء هذه الإشارة الموجزة، تروي القصص الشعبية في المنطقة رواية أكثر تشويقًا. المؤرخ محمد كوراني، في بحثه حول الروايات الشعبيّة المتناقلة، ينقل لـ”المفكّرة” قصة تُروى عن القبر، حيث تقول الحكاية إنه لم يكن لشيخ ولا لحاخام، بل لصبيّ ناعم الوجه، بلا لحية، جاء إلى مجموعة من العباد في معبد قد يكون ديرًا مسيحيًّا، ونذر نفسه للعبادة، وعاش بينهم كواحد منهم.

تقول هذه القصّة: صار الصبيّ يعمل في بيع الحصر التي يصنعها العُبّاد من قصب بحيرة الحولة، التي كانت تغطي مساحات شاسعة من المنطقة قبل أن تُجففها الحكومة الإسرائيلية في خمسينيات القرن الماضي. لم يكن ملفتًا للأنظار، بل بدا كأيّ راهب صغير وجد ملاذًا له بين الزهاد، يشاركهم صلواتهم وأعمالهم اليومية. لكن اللغز الذي أحاط بهذه الشخصية لم ينكشف إلا بعد موته. عندما جاء العبّاد لتغسيله وتكفينه، اكتشفوا أنه في الحقيقة امرأة، أخفت هويتها لسنوات وعاشت حياتها في خدمة الدير، متنكرة بهيئة صبيّ. لم يكن هناك شكّ بالنسبة لهم، لقد كانت روحًا طاهرة، نذرت نفسها للعبادة، فقرروا تكريمها ببناء قبر لها، ليصبح بعدها مزارًا روحيًا لأهل المنطقة.

وتبقى هذه الروايات في حدود المتناقل شعبيًّا عبر الأجيال، لكنها تعكس ارتباط المحليّين بالمكان. وعلى مدار قرون، بقي القبر مزارًا دينيًّا يرتاده السكان، ضمن تقاليد المنطقة التي تحمل تداخلًا دينيًا وتاريخيًا شديد الترابط. ويقول الباحث علي جابر لـ “المفكّرة” إنّ قبر العبّاد كان مزارًا محليًا تاريخيًا، تشبه قصّة صاحبه، قصة الست شعوانة عند أبناء الطائفة الدرزيّة، وهو ظلّ مرتبطًا بالذاكرة الشعبية والدينية لأهل المنطقة كجزء من إرثهم الروحي.

ورغم أنّ ترسيم الحدود اللبنانية الفلسطينية بين فرنسا وبريطانيا سمّى المنطقة باسمها المحلّي والتاريخيّ: “العبّاد”، وردت أول الادعاءات الإسرائيلية بأن القبر يعود للحاخام آشي في عام 1972. هذا الادعاء الذي جاء على لسان باحث إسرائيليّ يدعى تسفي إيلان، جاء عرضيًّا من دون الاستناد إلى أي مرجع تاريخي قديم، إذ ورد في الخبر وصف لما أسماه “قبر للشيخ عباد، وكتب شخص ما على اللافتة الحدودية قبر الحاخام آشي. لا يُعرف عنه شيء”.

ويعد هذا الذكر العرضيّ أوّل وثيقة إسرائيلية على النشأة الحديثة لهذه الرواية، وبدأت عملية إعادة تعريف القبر كمعلم ديني يهودي، ليخدم السردية الإسرائيلية حول المنطقة، وتحوّل إلى مزار ديني يهودي رسمي تحت الاحتلال في عام 1990، بعد أن قامت منظمة تدعى “أجدادنا” (أو “لجنة إنقاذ مقابر الأجداد في أرض إسرائيل” وتنشط بشكل خاص في الجليل) بترميمه وتجديده، وإنشاء نصب يعرّفه على أنه قبر الحاخام آشي.

القبر بعد تحرير عام 2000 وتبدو لافتة وضعتها منظّمة “أجدادنا” الإسرائيليّة وتوثّق ترميمها القبر في تموز من عام 5759 وفق التقويم العبري – 1990 وفق التقويم الميلادي (تصوير كامل جابر)

وداخل الأوساط البحثية الإسرائيلية، يواجه هذا الادعاء تشكيكًا حادًا. لاحقًا، نشرت دراسة إسرائيلية لباحث يدعى  ديفيد شابيرو، وصفت الاعتقاد بأنّ القبر يعود للحاخام آشي بأنه مجرد “خطأ تاريخي وجغرافي“، مؤكدةً أنّ هذا التفسير لا يزيد عمره عن 53 عامًا، ويعود إلى “الخلط بين أسماء المواقع الجغرافية والنسخ العشوائي للإشارات في منطقة الحدود“.

والاستيلاء على المواقع التاريخية تحت غطاء ديني ليس مجرّد إعادة تعريف ثقافية للمكان، بل هو تكتيك استيطاني استخدمته إسرائيل مرارًا، خاصة في فلسطين المحتلّة والضفة الغربية. فعبر هذه المنهجية، تتحوّل المعالم التاريخية المحلية إلى نقاط يهودية مقدّسة، كذريعة لبقاء الاحتلال في هذه المناطق.

الباحث علي جابر يوضح لـ “المفكّرة” خلال حديث حول مقام محيبيب ومسجد بليدا والمواقع المنسوبة لشعيب وموسى ويثرون وغيرهم من الأنبياء القدامى في كامل المنطقة الحدودية، أن منطقة جبل عامل، عبر تاريخها الطويل، شهدت تداخلًا في الروايات الدينية، حيث مرّت عليها الديانات السماوية قبل أن يدخل أهلها الإسلام، ما أضفى عليها أهمية تاريخية ودينية استثنائية. 

لكن هذا الغنى الديني يتحوّل إلى أداة بيد الاحتلال، حيث يتم انتزاع موقع ديني أو أثري وإعادة تعريفه وفق الرواية الإسرائيلية، لتحويله إلى نقطة استيطانية تتجاوز البعد العسكري. فما يجري في تلة العبّاد ليس مجرد إعادة تعريف لتاريخ المكان، بل هو عملية فرض واقع جديد، حيث تصبح السيطرة الإسرائيلية عليه ذات طابع ديني، بدلًا من العسكري المباشر.

احتلال مفتوح 

وإن كانت الرواية الإسرائيليّة تتحدّث عن احتلال طويل الأمد في النقاط الخمس على طول الحدود، فموقع “كيكار هشبات” الإسرائيليّ المتخصص في الشؤون الدينية اليهودية نقل أنّ الجيش الإسرائيليّ ينوي فتح المجال من أجل زيارات منتظمة إلى منطقة القبر اللبنانيّة المحتلّة بعد مصادرتها.

نشر موقع “كيكار” خبرًا في 18 شباط، يوم انتهاء مهلة الانسحاب الممدّدة، قال فيه إنه “في سرية تامة، تمّ تجديد قبر الحاخام آشي”، وقال إنه خضع لـ”عملية تجديد شاملة على يد منتمين للطائفة الحسيدية الذين أجروا تغييرات جوهرية على مجمع القبر أثناء وقف إطلاق النار وتم نقل السياج الذي يعبر القبر خارج المجمّع”. وقد أشار الموقع إلى الأراضي اللبنانيّة التي يقع فيها القبر على أنّها جزء من “أنحاء صهيون المقدسة”، وختم تقريره بالحديث عن “عودة شعب إسرائيل إلى السجود في قبورهم مع شعور بالأمن”، وذلك “في ظل التغيرات السياسية في المنطقة”.

وذكر الموقع أنّ الجيش الإسرائيلي “يعتزم قريبًا إنشاء نظام منظّم لمداخل الحرم، وهو ما قد يفتح عهدًا جديدًا في إمكانية وصول المصلّين إلى المكان المقدس”.

مواطن من حولا عقب وضع السياج الحدوديّ على الخط الأزرق (تصوير كامل جابر)

أبعد من الزيارة: مطامع استيطانيّة؟ 

ويُخشى أن تشكّل جملة هذه الإجراءات، التي شملت نقلًا للحدود، جنبًا إلى جنب مع النوايا التي يجري الحديث عنها إسرائيليًَا لاعتماد المكان كمجمّع ديني يهودي في الأراضي اللبنانية المحتلة، محاولة لفرض واقع استيطاني في المنطقة على الحدود مع لبنان، وضمن أطراف حولا، بما يشبه الأساليب التي يعتمدها الاحتلال بشكل ممنهج في الضفة الغربية المحتلة. ويعد السماح بزيارات دينيّة إلى موقع داخل الأراضي اللبنانية المحتلة تحت حماية عسكرية توسيعًا للسيطرة الفعلية للاحتلال، ما قد يُصنَّف ضمن أساليب الضم الزاحف للأراضي (Creeping Annexation)، وهو مخالف للقانون الدولي الذي يحظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة.

وتعكس هذه الإجراءات نموذجًا استخدمته إسرائيل سابقًا في الضفة الغربية، حيث بدأت السيطرة على الحرم الإبراهيمي ومسجد النبي يوسف بمزاعم “زيارات دينية”، قبل أن تتحول إلى مواقع استيطانية محصنة.

فيديو نشره الإعلام الإسرائيليّ يوثّق اقتحام موقع القبر في حولا صباح الجمعة 7 آذار

في حالة تلة العبّاد، يتجلّى ذلك من خلال ثلاثة عوامل رئيسية: (1) تسهيل وصول الإسرائيليّين إلى الأراضي المحتلة، حيث أنه ووفق التقارير العبرية، هناك تنسيق بين الجيش الإسرائيلي والإسرائيليّين الحسيديم للسماح لهم بدخول المنطقة المحتلة وبانتظام، مع توفير حماية عسكرية لهم أثناء الزيارة. (2) تغيير طابع الأرض المحتلة: لناحية ترميم القبر وتهويده، وإعادة طلاء الشواهد، ونقل السياج الحدوديّ لإدخال القبر بالكامل ضمن السيطرة الإسرائيلية، وإنشاء بنية تحتية تسمح بزيارات منتظمة، كلها ممارسات تهدف إلى تعزيز الحضور الإسرائيلي في المنطقة. 

في حولا اليوم، أهل قرية مهدّمة ينتظرون أن يفتتح حسن، إبن صبحي نصرالله، قهوته في حاوية متنقّلة وسط القرية، كي تعود الحياة إليها قليلًا، ويبتدعون الحلول في أحياء استهدفها الاحتلال، في الحرب وخلال الهدنة، بالقصف والنسف والحرق والتهديم. عقولهم مع بيوتهم المهدّمة والبنية التحتية المدمّرة، وقلوبهم على حقولهم المجرّفة، مصدر رزقهم وحاضنة حياتهم، وعيونهم شاخصة ناحية التلة وقبرها المصادر. 

وإذ تعطي الممارسات الإسرائيلية تأكيدًا إضافيًا على انتفاء أي ذريعة “للدفاع عن النفس”، فإنها تقدّم دليلًا آخر على أن الأطماع الإسرائيلية في لبنان ليست فقط عسكرية، بل استيطانية، تستهدف الأرض والهوية والمكان. وهذا ما يحتّم مواجهتها بدل الانشغال في لعبة يجيدها الاحتلال: تبرير الجريمة وتمييع حقيقة الخطر المحدق.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني