من أبرز ميزات الثورة، التعددية التي يتّسم بها المشاركون من حيث الخلفية الأيديولوجية والمقاربة وأساليب التظاهر. ومع توقّف التحركات في الشارع بفعل سياسة التباعد الاجتماعي وعودتها بشكل خجول في الآونة الأخيرة، قد تجد “قوى الثورة” متسعاً من الوقت لالتقاط أنفاسها والتفكير في الإشكاليّات المطروحة حول اختلاف الهويّات السياسية للمنتمين إليها. فكيف قاربت أو تقارب هذه القوى الأشخاص الذين شاركوا فيها أو لا يزالون، وهم على صلة بدرجة أو بأخرى بأحزاب السلطة؟ وبما لا يقلّ أهمية، ما هي أفكار هؤلاء الأشخاص ومواقفهم من الثورة؟ هذا ما تحاول “المفكرة” الإضاءة عليه من خلال عشر مقابلات مع أشخاص إمّا يعتبرون أنفسهم مؤيّدين وإمّا منتسبين إلى أحد أحزاب السلطة وشاركوا في الحراك في وقت من الأوقات في الأشهر الماضية. وفيما نشرنا مقدمة رسمنا فيها بورتريهات للأشخاص الذين قابلناهم والجزأين الأوّلين لهذا العمل حول حالة القلق والإضطراب الذي عاشها هؤلاء في محضر الثورة، ومواقفهم النقدية حيالها، نتناول في هذه المقالة كيفية مقاربة الثورة لهم دائماً من وجهة نظرهم (المحرر).
بنى الثوّار صورة للثورة على أنّها شاملة تتخطّى الحدود المناطقية والطائفية والطبقية. وبالفعل، من أبرز ميزات ثورة 17 تشرين تعددية الأفراد والمجموعات المشاركين فيها وتنوّعهم. فقد جمعت من يريد اللجوء إلى العنف الثوري مع من يرفضه، وجمعت من يريد ضبط حكم المصرف ومن يريد إسقاطه كلياً، وجمعت من يتظاهر للمرة الأولى والناشط صاحب الخبرة الطويلة في الشأن العام. لكن إذا ابتعدنا قليلاً عن هذه السرديّة، تَظهر فئة مهمّة من المجتمع اللبناني لم تشعر بتقبّل الثورة لها وهي فئة المنتسبين إلى أحزاب السلطة أو مؤيديها، رغم أنّ العديد منهم شاركوا على غرار سائر المواطنين في الثورة أو على الأقل تعاطفوا ولو بدرجات متفاوتة مع مطالبها.
فقد مال الثوار إلى تصوير مناصري الأحزاب كقطيع “غنم” أو “خواريف” يلحقون زعماءهم “بشكل أعمى”، بما يتناقض مع رؤية الثورة لنفسها كثورة “عقلانية” تحرّكها مطالب سياسية. وعلى أساس هذا الإنشطار، رسم الثوّار حدوداً بين من هو داخل صفوفهم ومن هو خارجها، تاركين باباً ضيّقاً للعبور إلى الثورة، وهو باب يمكن الولوج منه بعد الخضوع لما أمكن تسميته “معمودية العار”. وتتمثل هذه المعمودية في مشهدية علنيّة يتخلّى فيها المناصر أو المحازب عن حزبه ويمزّق بطاقته الحزبية وينقلب ضدّ زعيمه في مختلف ساحات الثورة. في المقابل، أي مشاركة لحزبيي السلطة خارج إطار هذه المعمودية تصنّف تلقائياً أو على الأقل تحوم حولها شبهة كبيرة بـ “ركوب الموجة” أو “الاندساس”. تحمل هذه المقاربة ملامح تعالٍ من جهة الثوار، تقوم على فكرة تفوّق الثوار على حزبيي السلطة أخلاقياً وفكرياً، حتى وإن كان هؤلاء نقديين حيال أحزابهم. ومؤدّى توجّه الثورة على هذا النحو نكران التعددية والهويات المركبة داخل قاعدة أحزاب السلطة، كما ناقشنا في أولى مقالات هذه السلسلة.
الحزبيون “المندسّون”: نكران التعدّدية داخل الأحزاب
منذ الأسبوع الأول للثورة، بدأت أحزاب السلطة تدرس كيفية “ركوب الموجة” كل منها على طريقته ووفق أهدافه الخاصة. ولكن بعيداً عن نوايا الزعماء، استخرج الثوار دوافع قيادات الأحزاب الحاكمة ومواقفها وأسقطوها على قواعدها، ليوضع جميع الحزبيين المشاركين في بوتقة “المندسّين” الذين يخرقون صفوف الثوار من أجل تحقيق أجندات قياداتهم الخاصة. ويؤدّي هذا الموقف عملياً إلى نزع أي استقلالية ذاتية وحس نقدي عن العديد من مناصري الأحزاب. ومن هنا تأتي عبارة “غنم” التي سمعناها مراراً في الساحات.
ليس غريباً عن الحراكات الإجتماعية في المنطقة بشكل عام ولبنان بشكل خاص تصوير فئة من المتظاهرين كـ”مندسين” مختلفين عن “الثوار” الحقيقيين[1]. ويذكّرنا مفهوم المندسّ برموز تقليدية بينها مفهوم “القبضاي”، وهو أحد العناصر الأساسية في نظام الزعامات ويكون على رأس العصابة المحليّة العاملة على خدمة الزعيم وضمان مصالحه الزبائنية[2]. ومن منظار ماركسي، يربط بعض الكتّاب، المندسّين بما يعرف بـ”البروليتاريا الرثّة” (lumpenproletariat)، أي الطبقة الدنيا من المجتمع التي لا تملك أيّ وعي سياسي فتستغلّها القوى الرجعية، فهي الطبقة التي تبقى دائماً “على الجانب السيئ”[3]. في لبنان، كان مصطلح “المندسين” يستعمل في التسعينيات ليشير إلى أزلام أركان السلطة خلال الوصاية السورية، الذين كانوا يراقبون ويقمعون الناشطين في التظاهرات[4]. وبرز المصطلح مجدداً في حراك “طلعت ريحتكم” عام 2015 لتصنيف فئة من المتظاهرين المشاغبين وغالبهم من خندق الغميق ويصوّرون كأتباع لحركة أمل، وكـأنهم كتلة متجانسة مجرَّدة من أي وعي سياسي[5]. فيصبح “المندسّ” عنصراً أساسياً في نظرة المتظاهرين لأنفسهم. وكما حدث في حراك 2015[6]، تُستعمل الكتلة المتجانسة هذه من قبل الثوّار/الحراكيين لكي يعرّفوا أنفسهم على أنّهم الفئة المعاكسة، أي تعريف عن النفس كنقيض “الآخر” المندسّ. ويكون “للمندس” خلفيات مختلفة يتمّ وضعه على أساسها ضمن هذه الخانة. وخلال ثورة 17 تشرين، كان التأييد لأحد أحزاب السلطة المحور الأساسي الذي يدور حوله الإندساس.
لم تكن نظرة الثوّار لحزبيي السلطة بعيدة عن صورة “البروليتاريا الرثّة” في نظر بعض الحراكات الثورية الغربية، وخصوصاً لجهة تجريدهم من أي وعي سياسي واعتبارهم أداة تستغلها السلطة في ثورتها المضادة. كما لم تكن هذه النظرة بعيدة عن نظرة الحراكات الإحتجاجية في منطقتنا للـ”قبضاي” أو البلطجي”، وخصوصاً لجهة اعتبار مشاركة هؤلاء وكأنها تأتي حصراً من باب الإئتمار بالزعيم وبغية حماية مصالحه الخاصة. وقد أظهرنا في مقالة سابقة من هذه السلسلة أن دوافع مشاركة الحزبيين الذين قابلناهم لا تختلف بالضرورة عن دوافع مشاركة من هو مستقل عن أحزاب السلطة. فالعديد منهم لم يتظاهر بسبب أي أمر حزبي، بل بسبب الإستياء العام من الظروف المعيشية وأداء الطبقة الحاكمة. ونحن لا نجادل هنا في مسألة وجود مناصرين للأحزاب شاركوا فقط من باب “ركوب الموجة”، أو عدمه. ما يهمّنا هو تسليط الضوء على مشكلة تصوير الثوار لجمهور أحزاب السلطة ككتلة واحدة متجانسة خالية من أي وعي سياسي. خلال المقابلات، تحدّث مناصرو الأحزاب عن تعددية المشاركة داخل أحزابهم، ليتبيّن وجود فئات عدّة تكسر صورة القاعدة ككتلة متجانسة. وصف كل من غابي وجاد التعددية داخل حزب القوات، أحد الأحزاب المتهمة باستغلال الثورة: “بالقوات في فئات كتير أكتر بعد، بس الفئات الأساسية هني هول اللي “سمير جعجع بعد الله منعبده” بدهم يشوفوا شو رأي سمير جعجع بيكونوا معه ع طول، في يلي واقعي وعارف وين القوات صايبة ووين مغلطة بس بالنسبة لإله هيدا الخيار الوحيد وهول ناس شاركوا من قلبهم بالثورة ومش لأن الحزب شارك… وفي الخجلان اللي قاعد بالبيت خايف يترك الحزب”. وأكّد جاد وجود تعددية مشابهة لوصف غابي: “في ناس تركوا، في ناس بعّدوا شوي، في ناس بعدهم جوّا ليغيروا ويحاولوا يغيّروا قبل ما يتركوا، في ناس شو ما بده الحزب بيمشي… في كتير ناس نزلوا لأن إجاهم أمر ينزلوا وفي كتير ناس نزلوا عفوياً”. وتحدّثت لارا عن فئتين أساسيتين في الحزب التقدمي الإشتراكي: “من الآخر بقلّك ياها في ناس اللي بيدّعوا الإشتراكية وبيدّعوا انتماءهم لمبادئ الحرية وحقوق العمال بس هنّي جماعة زقّيفة بقلّهم (وليد جنبلاط) أبيض يعني أبيض وأسود يعني أسود، وفي الناس اللي هي مثقفة وفهمانة وهي بتزين الأمور”.
وتأتي الدينامية بين مختلف الفئات ضمن الحزب الواحد لتزيد من كسر الصبغة الموحّدة الممنوحة لقاعدة الأحزاب. فعندما عمد بعض مناصري الحزب الإشتراكي إلى وضع علم حزبهم في المكان المخصص لقبضة الثورة في ساحة بعقلين، كانت لارا، المنتسبة إلى الحزب عينه، أول من استنفر ضدهم: “كنت أنا اللي بتعتبروني بركي “الحزبية” وراء المشكل لشيل أعلام الحزب من ساحة بعقلين. السبب إنه ما فيكن تركبوا موجة أو تطيّفوا الثورة، إنتو ثوار اشلحوا قميصكم الحزبي وانزلوا شاركوا”. ونهار 25 تشرين الأول وبعد استقالة الحريري، قام مناصرو حزب الله وحركة أمل بغزوة منسّقة على ساحتي رياض الصلح والشهداء وأحرقوا الخيم أمام أعين الأجهزة الأمنية التي لم تتدخل. كان موقف ريم المعارض للهجوم واضحاً خلال المقابلة: “بعد ما كل شي تكسّر، بتصير إنت عم تعتذر عن الطائفة كلها. فيمكن تنزلوا شارع تاني ما حدا قلّكن يكون عندكن نفس الرأي بس مش هيك، نحنا مش بغابة”.
هكذا سطّحت نظرة الثوّار لمناصري أحزاب السلطة تعدد الدوافع وراء مشاركة هؤلاء المناصرين من جهة، كما فيما يخصّ النظرات والمقاربات المختلفة للثورة الموجودة ضمن قاعدة أحزاب السلطة. فتصبح صبغة “المندسّ” المنسوبة إلى جماهير أحزاب السلطة في ساحات الإعتصام، مع كل ما تحمله هذه الصبغة من دلالات سلبية ورجعية، الوسيلة لحرمان هذه الجماهير من أي تعددية داخلها، ما يسهّل عملية إقصائها وشيطنتها.
بين “الثائر” و”الحزبي”: الهويات السياسية المركبة
لم يترك الثوار مساحة للهويات السياسية المركّبة لتعبّر عن نفسها، أي تلك التي تقع ضمن المنطقة الضبابية بين “الحزبي” و”الثائر”. هناك من اعتنق فكرة عدم توافق الحزبية السياسية (وهنا نشمل فقط أحزاب السلطة) والمشاركة في الثورة، وترك حزبه على هذا الأساس مثل سايد: “كنت عم شارك بكثرة بالثورة، ما بيحقّلي كون محزب، بس بدي قول “كلن يعني كلن” يا بدي إعنيها يا ما قولها”. وفي الاتجاه نفسه، أفاد غابي الذي ترك حزب القوات: “ما فيك تكون محزّب وتكون جوّا الحراك”. وتعزز هذه النظرة الحدود التي رسمتها الثورة بين من هو “داخل” صفوفها ومن هو “خارجها” (أو يندس في صفوفها)، حيث لا يمكن للفرد أن يكون مؤيداً لحزب من أحزاب السلطة وثائراً في الوقت نفسه.
وأتت المقابلات لتبرز بعض الأشكال التي تتّخذها الهويّات السياسية المركّبة. لا ترى لارا (المنتسبة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي) أي تعارض بين الثورة وحزبها، إذ تعتبر أنّ الشعارات المرفوعة اليوم في الساحات كان كمال جنبلاط أول من رفعها مثل إلغاء الطائفية السياسية واسترجاع دور الجامعة اللبنانية وحماية البيئة ومحاسبة السياسيين. “هول مبادئ حزبي ليه بدي أتركه؟ بقول عن الخطأ خطأ وبطلب محاسبة وليد جنبلاط متل أي سياسي تاني بالحكم وسرق الثروات”. رانيا أيضاً لم ترَ أيّ تعارض بين انتمائها إلى تيار المستقبل ومشاركتها في المظاهرات، حتى لمّا كان المطلب الأساسي إسقاط حكومة سعد الحريري: “تعرّضت لحملة إنتقادات ولهجوم عنيف (من الثوار) “يا عمي سمعوا اقشعوا والله بتزبط الإنسان فيه يكون متحرر شو خص هاي بهاي… أنا نزلت لأن سعد الحريري فشل بالحياة السياسية”. فهي فصلت بين شخص سعد الحريري وتيار المستقبل كحزب وتعتبر أنّ الإنسان يتحرّر من قيود “بتفكيره مش بإنتمائه سواء ثورة أو حزب”، وتنعكس نظرتها هذه بنشاطها في كل من ساحات الثورة من جهة، وورشات عمل ينظّمها حزبها من جهة أخرى. “أنا كأني عم مثّل الشعب بقلب الحزب ووصّل المطالب المرفوعة على الأرض، أنا بس بدي الحزب يدفشوني بالآليات المتبعة تيصير في إقرار للمطالب”. أمّا كارل فوجد في التظاهرات وسيلة ضغط موازية للضغط الذي يمارسه برأيه التيار الوطني الحرّ “من الداخل” لتحقيق المطالب التي يعتبرها محقة. وكريستال انزعجت من عدم تفهّم بعض مناصري التيار الوطني الحرّ لمشاركتها، “ناس من التيار يسألوني ‘كيف عم تتظاهري ضد حالك؟’ برد إنو عم بنزل لأتظاهر على حزبي ليغيروا ويزبطوا حالهم لأن في شي مش زابط”.
في عملها البحثي حول الهويات السياسية، تتحدث الباحثة بوبي جينتري عن أهميّة الفصل بين الهوية السياسية من جهة والحزبية السياسية من جهة أخرى كمفهومين مختلفين من حيث الأساس وغير مرادفين[7]. تعتبر جينتري أنّ الحزبية السياسية هي نوع من تسمية فقط، في حين تشمل الهوية السياسية كل المعتقدات حول السياسة ومكانة الفرد في السياسة والسلوكيات الناتجة عن تلك المعتقدات[8]. تتضمن الهوية السياسية كيفية تفاعل الفرد ومعتقداته وتصرّفاته بطرق قد تتجاوز أي فهم يركّز فقط على الإنتماء الحزبي[9]. فيمكن لشخص أن يكون منتمياً إلى حزب من دون أن يكوّن هوية سياسية، أو بالعكس أن يكون له هوية سياسية من دون أن يكون منتمياً إلى أي حزب، وذلك كون الأمرين منفصلين واحدهما عن الآخر[10].
فإذا انطلقنا من مبدأ جينتري لجهة الفصل بين المفهومين، يصبح أسر مناصري أحزاب السلطة في حزبيّتهم ليس فقط نكراناً لهويّات سياسية مركّبة بل، أبعد من ذلك، قد يكون نكراناً لحق هؤلاء في التمتّع بهويّة سياسية أصلاً. من هذا المنطلق، أمكن القول إنّ رفض الاعتراف بهويات “المنطقة الرمادية” يشكّل علامة تكبّر للثوار على فئة جماهير انتمت تقليدياً لأحزاب السلطة إلّا أنها رأت نفسها كجزء من الثورة.
تفكيك الحدود المرسومة من الثوار: الحزبية السياسية كمعيار “تخلّف”
في مقالة بعنوان “لسنا قطيع غنم أو خراف”… عندما يكون الشعب قائد الانتفاضة”، ورد على لسان متظاهرة الآتي: “حاول العديد من السياسيين تشويه صورة الإنتفاضة عن طريق الزّعم بأنّ هناك قادة غير مرئيين يقودون الحراك غير أنّ هذا الأمر غير صحيح على الإطلاق، لسنا قطيع غنم أو خراف لكي ننقاد وراء الزعماء من دون تفكير”[11]. يظهر هذا الاقتباس، التمايز الذي، بنظر الثوار، يفرّق بين من ينتمي إلى حزب من السلطة ومن هو مع الثورة. بحسب الحدود هذه، يصبح الحزبيون “قطيع غنم ينقادون وراء الزعماء من دون تفكير” تربطهم علاقة لاعقلانية مع أحزابهم مبنيّة على العاطفة والزبائنية، مقابل ثوّار عقلانيين تحرّكهم مطالب وأهداف سياسية، فكرية أو حقوقية. وعلى هذا الأساس، راح الثوار يطالبون مناصري أحزاب السلطة بترك أحزابهم والإنضمام إلى صفوف الثورة وكأنه انتقال من “العاطفية” أو “التخلّف” إلى “العقلانية”، مجرّدين الإنتماء الحزبي من أي مضمون أو معنى قد يجعل المناصرين أكثر تردداً في التحرّر منه.
العاطفة داخل أحزاب السلطة
إشكالية العاطفة في المساحة السياسية لا تنحصر بوجودها وانعدامها. فهي موجودة في كل من أحزاب السلطة والثورة، ولكنها تكمن بالشكل الذي تتخذه هذه العاطفة، وفي أي إطار يتم اختبارها. فبعيداً عن أي صبغة “تخلّف”، كيف تتجلّى العاطفة داخل الأحزاب؟ كشفت المقابلات وجهاً عاطفياً لبعض الحزبيين الذين قابلناهم، مثل ريم التي عبّرت عن حبّها لحسن نصرالله: “الكلّ بيعرف قدّيش بحبّو”. ومدح خالد زعيمه الذي يحبّه: “عندي صوره ببيتي… كل ما قطع الوقت كل ما حبيته أكتر، كل ما تعلّقت فيه أكتر”. ويذكّرنا كلام خالد بدراسة إثنوغرافية أجرتها الباحثة إيزابيل ريفوال عن مناصري الحزب التقدمي الإشتراكي. تجادل ريفوال أنّ هناك علاقة حميمة بين المناصرين وزعيمهم تُبنى عبر ممارسات إجتماعية ورموز تجعل الزعيم جزءاً من حياتهم اليومية[12]. فتصبح صور وليد جنبلاط في المنازل بمثابة امتداد لشخصه داخل المساحة الحميمة، يتفاعل الإشتراكيون معها بعيداً عن أي هرمية، ليصبح جنبلاط بمثابة نسيب (تحديداً خال) لهم يدخل في حياتهم وأحاديثهم اليومية[13]. ومثلاً يعرف بعض المناصرين ماذا يحبّ جنبلاط من طبخات ونشاطات، فيصبح هو امتداداً لهم وهم امتداد له[14]. ويتحدّث الباحث برونو لوفورت عن أفكار مماثلة، تحديداً عن كيف تمكّن ميشال عون من بناء صورة له كشخصية الأب لمؤيديه نتج عنها علاقات حميمة و”عضوية” تكون عادةً مخصصة للعائلة[15]. فعندما يطلب الثوار من مناصري أحزاب السلطة ترك أحزابهم، هم يطلبون منهم التخلّي عن مساحة حميمة يعيشونها مع زعيمهم على طريقتهم الخاصة. وتبرز صعوبة التخلّي ذلك عندما تحدّث خالد عن عملية الإنفصال التي يعيشها مع زعيمه مشبهاً حبّه له بعزقة زورق يصعب فكّها: “حاسس حالي مجنزر، يعني الزورق إله زمان بالبحر صعب تفك العزقة. بتحط دوا على العزقة بتفك شويّ، وبيترجع مرة تانية، بيجي وقت بتنفك وبتكبّ الزورق”.
يبرز شقّ ثانٍ من العاطفة السياسية في المقابلات، ويتجلّى في تعلّق الأفراد بحزبهم نظراً إلى الوقت الطويل والمجهود الذي استثمروه فيه. فالتأييد الحزبي لا يُختبر فقط على مستوى نظري بل يُترجم إلى حياة حزبية تتطلب جهداً ووقتاً وتَنتج عنها علاقات اجتماعية، فينشأ تعلّق بالحزب كمؤسسة ومساحة حياة. بنظر غابي الذي ترك حزب القوات، قرار ترك حزب “فكرياً أهين شي” ولكن “عاطفياً صعبة”. ويفسّر جاد الذي لا يزال منتسباً إلى حزب القوات أنّ “الأشخاص اللي عندهم نشاط سياسي بيعرفوا شو يعني حزب، بيعرفوا قديه صعبة تترك حزب، إنت اليوم بس تترك حزب يعني عم يتوقف شغل 15 سنة من حياتك، يعني استثمرت 15 سنة من حياتك وبين النهار والتاني بتقول خلص رح وقّف؟ كأنّ عملت شركة وبتقول يلا رح روح أعمل وحدة تانية وإنت بعد ما خلصت عمل أول وحدة”. ولمّح حسن إلى هذه النقطة عندما قال متحدّثاً عن حركة أمل أنّ “اللي فات بهيدا التنظيم وإله عمر مش سهل يتخلّى عنه”. فاستخفاف الثوّار بتجلّي العاطفة داخل أحزاب السلطة وحصرها بعاطفة “رجعية” يعزّز معالم اللوحة التي يرسمها مناصرو الأحزاب هذه عن ثورة يرونها “متكبّرة”.
أبعد من شخص الزعيم
وهناك من يجادل أنّ الارتباط الحزبي مبنيّ على تعلّق بقضية أو مجتمع متخيّل يجسّده الزعيم. وهذا ما تحدّث عنه لوفورت في بحثه عندما فسّر أنّ أبرز ميزات الزعيم أن ينشئ ويحدّد مجتمعاً مصغّراً متخيّلاً يشعر الأفراد بالإنتماء إليه[16]. بحسب هذه النظرية، لا يكون تأييد الحزب مرتبطاً بشخص الزعيم مباشرةً بل برمزيته لمجتمع متخيّل يتطابق مع نظرة المناصرين لأنفسهم في الحياة الإجتماعية والسياسية. على سبيل المثال، يرمز ميشال عون بنظر مناصري التيار الوطني الحرّ إلى مجتمع متخيّل يرتكز على مبدأ الدولة (مقابل الميليشيا) والأوادم (مقابل الزعران)[17]. وتصبح بالتالي مطالبتهم بترك أحزابهم مرادفاً، ليس فقط لترك زعيمهم، بل للتخلّي عن صورة لديهم عن أنفسهم. كما يشار إلى أنّ عدداً من الباحثين مثل كريستيان هوسيلت جادلوا أنّ ما يجمع مناصري أحزاب السلطة بزعيمهم هو نوع من عقد إجتماعي غير رسمي حيث يكون التأييد الحزبي مبنياً ليس فقط على شخص الزعيم بل القضية السياسية التي يجسّدها[18]، بمعنى أنه أضاف فكرة المشروع السياسي إلى المجتمع المتخيّل المذكور أعلاه. لمّحت ريم إلى الصعوبة التي تعيشها في التخلّي عن المجتمع المتخيّل التي تنتمي إليه، مجتمع المقاومة، والقضية السياسية التي يحملها: “نحنا مننتخبهم لهول الناس (حزب الله) لأن مدفوعين بشعور الذنب، إذا ما ربحوا كأن إنت عم بتخون القضية وسلاح المقاومة اللي حماك، إنت عم بتخون اللي ما خلّى إسرائيل توصل لعندك، هيدي الشغلة كتير بتوتّرني”. وقد تساهم مقاربات وحجج الباحثين في المقطع هذا في كسر “الرجعية” التي ينسبها الثوار إلى مناصري أحزاب السلطة وكأن تعلّقهم بزعيمهم لاعقلاني ومبني على عبادة شخصه فقط.
ثورة تفرض “معمودية عار” على مناصري أحزاب السلطة
في ظلّ نكران التعددية والهويات المركّبة داخل الأحزاب من جهة، وتبسيط الإنتماء الحزبي وصبغه بالتخلّف من جهة أخرى، بات من الأهمّ لبعض الثوار أن يحددوا إذا كان الفرد يؤيّد أحد أحزاب السلطة أم لا، أكثر مما إذا كان يوافق على المطالب والمبادئ التي رفعتها الثورة أم لا. وأصبح تأييد أحد هذه الأحزاب وصمة عار بنظر الثوار، وكأن الحزبية السياسية هي نوع من إهانة: “بتعب لما يقولولي ‘يييي إنت إشتراكية’ كأن اشتراكية هي شي مسبّة أو عيب”[19]. وقد بدا أن القوى الثورية فرضت على حزبيي السلطة ما أمكن تسميته “معمودية العار” لإثبات صدقية مشاركتهم في الثورة: فقد طُلب منهم أن يتركوا أحزابهم ويمزّقوا بطاقاتهم الحزبية في العلن ويشتموا زعماءهم ويعترفوا أنهم كانوا على خطأ طوال السنوات السابقة، ليتمكّنوا عبر هذه المراسم التخلّص من خطيئة “تخلّفهم” والإنضمام إلى صفوف الثورة “العقلانية المباركة”.
بحسب ريتا “اللي بالساحة بحسسوك إنه مش محلّك، بيقولولك إشيا متل “البلد فرط على وقت العهد تبعكم…”. وتعرّضت رانيا “لحملة انتقادات ولهجوم عنيف” من قبل الثوار الذين لم يتقبّلوا الطريقة التي صالحت حزبيّتها بمشاركتها في الثورة واستغربت أنّ الثوار، وأكثر من حزبها تيار المستقبل، هم من عارضوا مشاركتها: “اللي بالثورة عارضوا مشاركتي، هيدي أول مرة بشوف حزب (تيار المستقبل) ما بيعارض بس ناس مفروض متحررين بيفهموا وبدهم مطالب قبل ما يقولولي حزب وما حزب هني بيعارضوا”. أصبح الحزبيون مضطرين إلى إثبات انتمائهم للثورة باستمرار والخضوع لمعمودية العار: “كان الموقف اللي بيضايقني بالثورة لما يتقوص علينا نحنا اللي عنّا ميول سياسية هيدي أزعج وأصعب شي بالثورة. طيب شو بدهم، إكسر بطاقتي؟ سبّه قدامهم ت قلّهم أنا مش فرقانة معي؟ كنا نتعب كيف نثبتلهم إنه نحنا الثورة الحقيقية”[20]. فلم يكتفِ الثوار بتأييد مناصري أحزاب السلطة لمطالبهم، بل هم يريدونهم أن يبرهنوا انتماءهم للثورة عبر، مثلاً، شتم زعيمهم. فرأينا سابقاً حبّ خالد لزعيمه، فهو لا يريد شتمه. ولكن لم يمنعه حبّ زعيمه من تأييد المطالب أو الإنفتاح على لوائح انتخابية نابعة من الثورة في المستقبل، فهو أكّد: “بحبّه كتير بس صار الوقت يفلّوا كلّن يعني كلّن”. بنظر رانيا “عم بيكون الثائر متعصّب ومتمسّك بالثورة على الآخر لدرجة ما عم يسمع الشخص التاني إذا مش عم يمشي متل ما بده، ما بيتقبلك”. وتحدّثت كل من ريم ورانيا عن محاولة الثوار “إلغاء” شريحة المجتمع التي تؤيّد أحزاب السلطة. “ما فيك تلغي الأحزاب هيك فجأة. في كتير ناس لإلها الحزب شي مقدس، بتكون عم تلغي نسبة كتير كبيرة من الشعب” كان تعليق رانيا. أمّا ريم فقالت إنه “بالنهاية رح يضل في ناس مؤيدين إلهم (أحزاب السلطة) … بالنهاية الأحزاب شقفة من هيدا البلد لو حبيت أو ما حبيت ما فينا نمحيهم متل ما أنا ما بدي يمحوني”.
من جهة، يمكن أن تولّد مقاربة الثوار هذه ردّات فعل معاكسة قد تدفع العديد من اللبنانيين إلى الإبتعاد عن الثورة والعودة إلى أحزابهم. بحسب ريتا “بس حدا يقلّك خاروف بتعصّب وبيصير بدّك تردلّهم ياها بتقلّهم إنتو زعران، ولو عارف إنه مش كلّن زعران”. ويفسّر كارل، من منظار مؤيّد للتيار الوطني الحرّ، أنه “كل ما يشوف حدّة بالهجوم على طرف واحد، وبركي هيدي طبيعة الإنسان، كل ما يحس بده يدافع عن هيدا الطرف”. من جهة أخرى، يواجه بعض المناصرين انتقادات ونبذاً من أحزابهم بسبب مشاركتهم في الإنتفاضة مثل لارا: “أنا من الثورة أوقات باكل لطشات ولكن بالبيئة الحاضنة لإلي أنا حدا مغضوب عليه، بالنسبة إلهم أنا عم غرّد خارج السّرب لأن أنا ضد وليد جنبلاط”. ففي ظلّ مقاربة الثوار الرافضة لهم، يجد بعض حزبيي السلطة أنفسهم عالقين بين انتقادات الثورة من جهة وانتقادات أحزابهم من جهة أخرى. يرى خالد أنه لا يجب التهجّم على مناصري أحزاب السلطة بل يجب جذبهم، مشبّهاً الثورة بمحل يحاول جذب زبائن: “أنا ضد الثوار يتهجّموا على المحزّبين، خيّي اعتبره زبون وأنت عندك محل. ما بدنا نكحشه، إذا قطع قدام محلّك اضحكله لو ما فات اشترى من المحل، بس رح يتذكر إنك بتضحكله وبس يكون بدو يشتري شي رح يجي لعندك. ما تفتري على نفسك، اجذب قد ما فيك اجذب. نحنا خلقنا بجوّ مسيّس، كتير صعب لإلنا نوثق بشي جديد منخاف. اللي قاعدين ببيوتهم مبسوطين بالثورة بس بيخافوا وما لازم نخوّفهم”.
في مقالة بعنوان “ماذا عن جمهور الأحزاب؟”[21]، يجادل سامر فرنجية بأنّ أحزاب السلطة تواجه بعد 17 تشرين أعمق أزمة في شرعيتها منذ انتهاء الحرب اللبنانية. فأحد تحديات الثورة بحسب فرنجية هو “ابتكار خطاب وممارسات يمكن أن تستقطب من بات على حدود حزبه”. انطلاقاً من هنا، من المهم التوقف على الأسئلة الآتية: كيف يميّز الثوار من هو على “حدود حزبه” وسط نكرانهم للتعددية داخل أحزاب السلطة؟ وهل الإستخفاف بالحزبية السياسية و”خورفة” مناصري أحزاب السلطة يشكّل خطاباً يستطيع أن يجذب جمهور الأحزاب؟ وهل تُعدّ “معمودية العار” ممارسة تستقطبهم؟ أسئلة نضعها في رسم ثورة تشرين.
[1] Abiyaghi, Marie-Noëlle, Myriam Catusse, and Miriam Younes. “From Isqat an-Nizam at-Ta’Ifi to the Garbage Crisis Movement: Political Identities and Antisectarian Movements.” Lebanon Facing The Arab Uprisings, 2016, 73–91. https://doi.org/10.1057/978-1-352-00005-4_5.
[12] Rivoal, Isabelle. “Intimate Politics: The Art of the Political Relationship in Lebanon.” Anthropology of the Middle East 9, no. 1 (January 2014): 1–17. https://doi.org/10.3167/ame.2014.090102.
[15] Lefort, Bruno. “Michel Aoun, ‘Patriarch of the Christian Street’: Leadership, Affect, and Politics of Communalization in Lebanon.” Middle East Journal of Culture and Communication 8, no. 1 (2015): 102–23. https://doi.org/10.1163/18739865-00801007.
[18] Thuselt, Christian. “‘We Wander in Your Footsteps’—Reciprocity and Contractility in Lebanese Personality-Centred Parties.” British Journal of Middle Eastern Studies 44, no. 2 (September 2017): 194–210. https://doi.org/10.1080/13530194.2017.1281573.
[19] لارا، منتسبة إلى الحزب التقدمي الإشتراكي، مقابلة مع “المفكرة”، 31/3/2020.
[21] سامر فرنجية، “وماذا عن جمهور الأحزاب؟”، موقع ميغافون، 10/11/2019.