أدّى الخلاف بين قائد الجيش العماد جوزيف عون ووزير الدفاع موريس سليم على قرار تعيين الضباط لدى المحاكم العسكرية، إلى تعطيل جميع الجلسات أمام الهيئتين الدائمة والاحتياطية للمحكمة العسكرية الدائمة ومحكمة التمييز الناظرة في الجنح والثانية الناظرة في الجنايات. كما أدى ذلك إلى تعطيل الجلسات أمام القضاة المنفردين العسكريين الموزّعين على 5 محافظات، فيما حُصر العمل حاليًا بقضاة التحقيق والنيابة العامّة العسكريّة. ونتيجةً لذلك، تعطّل النظر في الملفات التي يتجاوز عددها أسبوعيًا 800 ملف، كما وُضعت حقوق الموقوفين رهينة لهذا الخلاف الذي يندرج في إطار الخلافات السياسية والشخصية.
أمّا المشهد على أرض الواقع فليس مألوفًا على حرم المحكمة العسكريّة. فالحرم الذي يشهد ازدحامًا في الأيّام العادية، من غرفة المحامين إلى الباحة الخارجية والقاعتين اللتين تعقد فيهما الجلسات، تحوّل إلى مكان فارغ إلّا من العناصر الأمنية وبعض المحامين الّذين يتابعون ملفات لدى قضاة التحقيق والنيابة العامّة. مشهد لم تألفه العسكرية سوى خلال فترة التعبئة العامّة جرّاء انتشار جائحة كورونا واعتكاف القضاة المدنيين في العام 2023. وذلك خلافًا لما هي الحال أمام القضاء العدلي الذي تشهد محاكمه تعطيلًا مستمرًا ومتكررًا نتيجة الخلاف على التشكيلاتالقضائية، كما وإضراب المساعدين القضائيين والمحامين واعتكاف القضاة.
خلاف يتحمّل تبعاته الموقوفون
في غرفة المحامين في المحكمة العسكرية أربعة محامين فقط أتوا لمتابعة ملفاتهم أمام قضاة التحقيق. يروي أحد هؤلاء أنّ النيابة العامّة العسكرية استأنفت قرار قاضي التحقيق بإخلاء سبيل موكّله وأُحيل الملف إلى محكمة التمييز العسكريّة للبت في القرار، فجُمّد الملف لعدم اكتمال أعضاء الهيئة. ويُعلّق محامٍ آخر في الغرفة قائلًا: “مصير الموقوف معلّق وكذلك بدل أتعاب المحامي”.
وفي جولة اتصالات على عدد من المحامين الّذين يتوكّلون بشكل اعتيادي في ملفات لدى القضاء العسكري، يشكو هؤلاء من كلفة هذا التعطيل على عملهم وعلى أوضاع موكّليهم الموقوفين. ويؤكدون أنّ أمد الجلسات أمام المحكمة العسكرية الدائمة يصل إلى ستّة أشهر وأحيانًا إلى 10 أشهر في الأيّام العادية، والتعطيل اليوم يُعد كارثة على من كان ينتظر جلسته منذ شهور. وتُعطي محامية مثالًا من ملف أحد موكّليها الذي “كان ينتظر منذ خمسة أشهر جلسته ليخضع للاستجواب قبل تقديم طلب إخلاء السبيل، لكنّه فوجئ اليوم بتأجيل الجلسة لخمسة شهور إضافية”. وتلفت المحامية إلى أنّ “هناك عُرف معتمد يجبرنا على انتظار الاستجواب لإمكانية تقديم طلب إخلاء السبيل وإلّا سيُرفض الطلب”. وتضيف أنّ “مدّة توقيف موكلها ستتخطى مدّة العقوبة في التهمة الموجهة إليه، هذا عدا عن أنّه من المحتمل أنْ يحكم بالبراءة، وعليه فإنّ التعطيل يُعدّ ظُلمًا كبيرًا في حق الموقوفين”. وفي حالة أخرى، يتحدث محامٍ عن أحد العسكريين المدّعى عليهم بالفرار من الجيش، كان قد أوقف بسبب صدور حكم غيابي في حقه. ففي العادّة تتحوّل الأحكام في ملفات الفرار غرامات في المرحلة الوجاهية بعد الاعتراض على الحكم الغيابي، لكن في هذا الوضع لا خيار أمام العسكري الموقوف إلّا انتظار إعادة تشكيل الهيئة ليُحاكم.
ويُثير رئيس لجنة السجون في نقابة المحامين في طرابلس المحامي محمد صبلوح إلى أنّ “تأجيل الجلسات يزيد الأعباء المالية على أهالي الموقوفين، إذ باتت المحكمة العسكريّة تطلب رسم 200 ألف ليرة للسؤال عن ملفات الموقوفين” (رسم التأليل). ويعتبر أنّه يتمّ تحميل المحامين وأهالي الموقوفين هذه الكلفة وكأنّ التعطيل من مسؤوليتهم، فيما هو من مسؤولية المحكمة العسكرية. ويلفت إلى أنّ “مواعيد الجلسات تُعلّق لمدّة 24 ساعة على الجدار خارج المحكمة العسكرية وفي حال لم يتوجّه المحامي في اليوم نفسه لمعرفة تاريخ التأجيل يتحتم عليه دفع الرسم”. ويشدّد صبلوح على أنّ الموضوع لا يتعلّق بقيمة الـ 200 ألف ليرة إنّما بتحديد من يتحمّل هذه الأعباء وهي بالطبع ليست خطأ أهل الموقوف.
يُشار إلى أنّ فترة التعطيل أكملت أسبوعها الثالث، على اعتبار أنّ تاريخ عودة العمل إلى المحكمة العسكرية بعد الأعياد هو الثامن من شهر كانون الثاني، وجرت العادة أن تعقد كلّ محكمة جلسات لثلاث أيّام في الأسبوع. وعليه، يُقدّر أنّ عدد الملفات التي تتعطّل أسبوعيًا يتخطّى 800 ملف لدى هيئات المحكمة العسكرية الدائمة ومحكمة التمييز والقضاة المنفردين. وإن كانت الظروف لا تزال قابلة للاحتواء، فإنّ أي مماطلة إضافية في حسم قرار التعيينات وفض الخلاف بين قائد الجيش ووزير الدفاع سيؤدي إلى تفاقم الأضرار. وأكثر المتضرّرين هم الموقوفون في الجنح في ملفات غالبًا لا يطول أمد التوقيف فيها. مثال المدعى عليهم بإطلاق النار الابتهاجي ومعاملة قوى الأمن بالشدّة والفرار من الجيش. وكذلك يقع الضرر على المحكومين الّذين أنهوا مدّة العقوبة وينتظرون توقيع المحكمة لطلبات إطلاق السراح.
خلاف حول شرط إجازة الحقوق
ينصّ قانون القضاء العسكري، على أنّه يتم تعيين الضبّاط القضاة لدى القضاء العسكري في بداية كلّ سنة بقرار من وزير الدفاع بناء على اقتراح المجلس العسكري. ويشهد هذا الملف جدلًا سياسيًا بدأ مطلع هذا العام حين رفض وزير الدفاع موريس سليم توقيع إقتراح التعيينات الصادر عن المجلس العسكري بشكله الكامل، وجزّأ القرار إلى جزئين: أوّلًا، وقّع على قرار تعيين المستشارين في هيئة المحكمة العسكرية الدائمة وهيئتها الرديفة. وثانيًا، مدد العمل إلى 29 شباط 2024 بقرار العام 2023 لتعيين المستشارين لدى محكمة التمييز الناظرة بالجنح (التي يرأسها القاضي جان مارك العويس) ومحكمة التمييز الناظرة بالجنايات (التي يرأسها القاضي جون قزّي) وبمناصب القضاة المنفردين العسكريين. وبرر سليم في بيان أصدره في تاريخ 24 كانون الثاني هذا الأمر بأنّ “المقتَرح تعيينهم لا يحملون إجازة في الحقوق مما يخالف النصوص القانونية بهذا الشأن ويجافي المفهوم القانوني لمن يتولّى مهامًا قضائية”، فطلب من المجلس العسكري إعادة النظر بأسماء الضباط المقترحين لهذه المناصب. واعتبر سليم أنّ الضباط الذين تم تعيينهم أو تمديد العمل بقرار تعيينهم “مُنعوا من القيام بمهامهم القضائية مع ما ينطوي عليه هذا الأمر من تمنّع عن إحقاق الحق ومن الحؤول دون تأمين العدالة في القضاء العسكري”.
لم يُحدد سليم المواد القانونيّة التي يستند إليها في رفضه التوقيع على التعيينات الكاملة، إلّا أنّ قانون القضاء العسكري الحالي لا يفرض شرط الإجازة بالحقوق لتعيين الضبّاط في القضاء العسكري، باستثناء مراكز القضاة المنفردين حيث يجيز تعيين ضبّاط من غير المجازين في الحقوق في حال تعذّر تعيين قضاة من القضاء العدلي أو من ضبّاط من المجازين في الحقوق (المادّة السابعة). وهذا الغياب في اشتراط الكفاءة القانونية لدى القضاة الضبّاط هو ما اعتبرته“المفكّرة القانونية” من أسباب انعدام معايير استقلالية المحاكم العسكرية. وبحسب مصادر مطلّعة فإنّه جرت العادة على تعيين ضبّاط من المجازين ومن غير المجازين بالحقوق ولم يحصل سابقًا أن اعتُمدت الشهادة كشرطٍ أساسي في عملية التعيين. ويُضيف: “حتّى أنّ سليم نفسه كان قد وقّع العام الفائت على قرار تضمن تعيين ضباط من غير المجازين”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.