حريق الميناء: 5 أولاد لبسوا الكفن بدل ثياب العيد


2025-04-03    |   

حريق الميناء: 5 أولاد لبسوا الكفن بدل ثياب العيد
باب الغرفة التي توفي فيها الأطفال اختناقاً

إلى أي حدٍ يُمكن للحياة أن تكون قاهرة؟ سؤال قد تصعب الإجابة عليه في بلدنا، حيث الموت عبثي ومجاني. ولكن الحياة قاهرة حتمًا عندما تُحرَمُ أمّ من أبنائها الخمسة دفعة واحدة، وقبل أيام من حلول العيد.

صباح الخميس، 27 آذار 2025، قبل عيد الفطر بثلاثة أيام، كانت آخر مرة ترى فيها منال أبناءها الخمسة. ودعتهم من دون أن تعي أنه الوداع الأخير. غادرت الغرفة الصغيرة المظلمة في مرآب بمبنى فياض في الميناء، حيث تقطن العائلة المؤلفة من خمسة أولاد وأبوين، متجهة إلى السوق لتستكمل شراء ثياب العيد لهم. ولكن عند عودتها لم تجدهم. تحوّل الأطفال جثثًا مختنقة داخل الغرفة، بعدما عاشوا لحظات رعب غير مسبوقة، إذ سُمع صراخهم في كل أرجاء الحيّ.   

الأولاد أماني (مواليد 2007) ومحمد (مواليد 2008) ومحمود (مواليد 2010) وحسام (مواليد 2014) وآلاء (مواليد 2018) الأسعد، غطوا في سبات عميق عندما خرجت والدتهم إلى السوق لتستكمل شراء ملابس العيد لأسرتها. وعلى عكس ما قيل إنها أوصدت الباب بالمفتاح خلفها، تؤكد لـ “المفكرة” أنّ الباب لم يكن مقفلًا. وعندما شبّ الحريق الذي لم تحسم أسبابه بعد، تصاعدت ألسنة اللهب في الزاوية حيث أدوات المطبخ، والتهمت الستائر وفرشات النوم وثياب الصغار وأغراضهم. وقد ساهم في اتساع رقعة الحريق، احتراق جزء من المواد البلاستيكية الموضّبة في أكياس، إذ يقوم الوالد هاشم الأسعد بلمّ وجمع البلاستيك بغرض بيعه. فيما بقيت أكياس أخرى كما هي ولم تمسها النيران.

الكابلات الكهربائية متدلية بوضوح وممدودة بشكل عشوائي بمحاذاة الغرفة

ومع اتساع رقعة الحريق التمّت الجموع، واتّصل أحد الجيران بهاشم قائلًا له: “روّج، بيتك عم يلهب”، ليرد الأخير: “ولادي وين ولادي.. الولاد نايمين جوا”. هنا بدأ يعلو صراخ الأولاد، لكن الحريق كان قد امتد واشتدّ، فأمسكت ألسنة النيران على أصواتهم وخنقتها.

استمر الحريق لأكثر من ساعة قبل وصول فرق الدفاع المدني لإخماده، وعندما وصلت، استعان العناصر بالكمامات للدخول، لعدم توفّر المعدات اللازمة لديهم، وتحديدًا معدّات الأوكسيجين. فدخلوا إلى الغرفة بكمامات على وجوههم وكادوا هم أيضًا أن يختنقوا من الدخان. 

وحريق الميناء هو واحد من ثلاث حرائق اندلعت في شهر واحد في مناطق مختلفة في لبنان هي بالإضافة إلى الميناء، الهرمل والدوسة، وحصدت 11 طفلًا و3 بالغين.

عناصر الدفاع المدني تساعدوا وأهالي الحيّ على سحب الأطفال من داخل الغرفة عبر النافذة ولكنهم كانوا قد فارقوا الحياة. عندما وصل هاشم، لم يستطع الاقتراب، كما أنّه لم يقو على وصف المشهد بل اكتفى بالقول: “الحمدالله”. 

توزّع الأطفال على ثلاث مستشفيات في طرابلس لمعاينتهم: المنلا والمظلوم والإسلامي، ثمّ استلمت العائلة جثامينهم. هنا، أبدت والدتهم رغبتها في إعادتهم إلى سورية لدفنهم هناك، لكن تعذّر ذلك بسبب صعوبة الإجراءات، والحاجة إلى كشف رسمي من طبيب شرعي وغيرها. فعدل الزوجان عن الفكرة. ونظرًا لعدم توفّر مكان مناسب لدفنهم، سمحت بلدية الميناء لذويهم بدفنهم في مقبرة داخل المدافن القديمة في المدينة.

مدخل المرآب

قوى الأمن الداخلي حضرت إلى المكان، ممثلةً بعنصرين فقط، من دون أن تحضر الأدلة الجنائية، وفتحت تحقيقًا في الحادثة، لكنها لم تستمع إلى إفادة ذوي الأطفال تقديرًا لصعوبة الموقف واحترامًا لوضعهم النفسي الصعب، وطلبت منهم الحضور إلى فصيلة الميناء للاستماع إليهم صباح أمس الأربعاء. ورفعت الفصيلة تقريرًا إلى النيابة العامة في الشمال التي أوكلت محققًا متخصّصًا بالحرائق لمتابعة القضية. وأفاد الوالدان منال وهاشم بأنّهما لم يدّعيا على أحد، بل طالبا المحققين في فصيلة الميناء باستكمال التحقيقات وكشف ملابسات ما حدث واسترداد حق أبنائهم الخمسة.

أدوات المطبخ محروقة

ونظرًا لعدم قدرة ذوي الأولاد الضحايا دفع أتعاب الطبيب الشرعي، لم يقدم أيّ من الأطباء الشرعيين في الشمال على معاينة الضحايا، وبالتالي لا تقرير من طبيب شرعي، فقرر المخفر الاكتفاء بجمع تقارير الأطباء من المستشفيات الثلاث التي نقلت إليها جثامين الضحايا. وتقدّم المخفر بطلب من نقابة المحامين في الشمال لتوكيل محام بشكل مجاني، في إطار المعونة القضائية، لتولّي القضية. وعلمت “المفكرة” أنّ الوالدة ادعت على كل من يظهره التحقيق متورّطًا أو متسبّبًا بوفاة أطفالها.

جانب من الموقع الذي احترق

وكشف مصدر أمني لـ “المفكرة” أنّه في إطار التحقيقات تمّ طلب الحصول على تسجيلات كاميرات المراقبة الموجودة في الجهة الثانية من المبنى. إذ لا كاميرات مراقبة من جهة المرآب، حيث تقع الغرفة التي احترقت، إلّا أنّ المحققين يعتقدون بأنّ الكاميرات من الممكن أن تساعد في حسم واحدة من فرضيات اندلاع الحريق وهي: ماس كهربائي، أو حريق مفتعل، أو إهمال من العائلة. 

في الغرفة لا شيء سوى سواد دامس. رائحة موت وبقايا صرخات مبعثرة في كل مكان. منال، التي لا تجرؤ على الدخول، تضمّ بين يديها ما بقي من أغراض أولادها. هاتفان ومسبحة وسوار. تقلّبها من يد إلى أخرى وتذرف دموعًا حارقة: “كنت عم جبلن تياب العيد قمت لبّستن الكفن”، تردف. إضافة إلى وجعها، يؤلمها، ما أسمته “الاستخفاف” بالفاجعة التي ألمّت بها: “استعجلوا شطف درج البناية. قال بدن يعيّدوا. بس انا رايحلي خمسة! خمسة أولاد! واستعجلوا على الكهرباء. من تاني يوم قطعوا كابلات وغيروا كابلات كرمال يرجّعوا الكهرباء على البناية. متل كأن ما صار شي وبسبب الكهرباء”.

والد الضحايا، هاشم الأسعد يعاين غرفتهم بعد احتراقها

ما تقوله منال يؤكّدها مصدر أمني متابع للتحقيقات والذي كشف بأنّ نزع بعض الكابلات الكهربائية سيؤثر على سير التحقيق ومسار الحقيقة، إذ قام أحد أصحاب المولدات في الحيّ بنزع عدد من الكابلات المحترقة ووصل كابلات أخرى، بناء على طلب سكّان المبنى بإعادة الكهرباء. 

هاشم الذي أتى من درعا إلى لبنان عام 2013 عقب الأحداث في سورية صاحب صيت حسن في مدينة الميناء. يعمل بكدٍّ وجهد لإعالة أطفاله وتعليمهم. يقول: “كنت خايف علهين من الموت بسورية، قام ماتوا هون”. من لحظة قدومه إلى لبنان، بدأ العمل كناطور في المبنى المعروف بمبنى آل فياض من دون أجر، مقابل السماح له بالعيش هو وعائلته في الغرفة داخل المرآب.

مدخل المرآب في مبنى آل فياض في الميناء حيث وقع الحريق

الموت الذي خطف خمسة أطفال بلحظة لم يحضر فجأة. فالخطر كامن هناك، في الاستهتار والتقصير المتراكمين. فقد وقع ماس كهربائي في الغرفة قبل أيام من الحريق الكبير، قال هاشم إنّه حصل في كابلات مؤسسة كهرباء قاديشا، وقد طلب هاشم من المعنيين في المؤسسة إصلاح الأعطال، وأفيد بأنها حلّت. كما أنّ وجود عائلة بأكملها في غرفة داخل مرآب سيارات من دون أدنى معايير السلامة العامة والعيش الكريم، شأن لا بدّ أن يشغل البلدية لما ينطوي عليه من مخالفات. إلّا أن رئيس دائرة الهندسة في بلدة الميناء عامر الحداد، كان لديه رأي آخر، فقال: “البلدية آخر من يقع عليه اللوم في ما حدث، فصلاحيتنا بموجب القانون تمكننا من تسطير إنذارات للمخالفين ليس إلّا. المسؤولية على أصحاب المولّدات وكل شخص مسؤول عن تمديد كابلات كهربائية بشكل عشوائي ملاصق لغرفة المعيشة ولغرفة نوم الأطفال”.

الحادثة التي أرخت حالة من الحزن العميق في الميناء لم تحرّك أيًّا من نوّاب المدينة لإصدار موقف أو مطالبة أو مناشدة أو استنكار، فـ ” الضحايا سوريون”، كما تقول ناشطة في الحي لـ “المفكرة”. لم يقرأ أحد على مسامع الطرابلسيين وأبناء الميناء أنّ الفوضى مستشرية في المدينة، وخصوصًا في أماكن السكن العشوائي، وأنه على الدولة الالتفات إليها، وبأنّها عانت وتعاني من الإهمال، وغيرها من الجمل التي صار تكرارها مملًا. لكن حتمًا، لو أن هذه الفاجعة قد حلّت على مواطنين لبنانيين لما مرّت الحادثة كما حصل حتى على الصعيد الإجتماعي وفي المدينة. أثر أليم للصمت سيُلازم هاشم ومنال طويلًا بعد خسارة أولادهم دفعة واحدة. 

صورة لجانب من المرآب بعد الحريق

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني