“
بتاريخ 22/10/2018 أصدر نقيب هيئة المحامين بتطوان محمد كمال مهدي قرارا مبدئيا تطرق في سابقة تعدّ الأولى من نوعها لإشكالية تعاطي المحامين مع وسائل الإعلام في قضايا معروضة على أنظار القضاء تحظى بتتبع الرأي العام.
يلحظ أن القرار صدر ردا على شكاية قدمت في إطار إحدى القضايا الأكثر اشتهارا بالمغرب في الآونة الأخيرة، وهي القضية التي تم فيها اعتقال مدير تحرير صحيفة واسعة الانتشار مشتبه في اقترافه لجرائم اتجار بالبشر، على خلفية استغلال العاملات في الصحيفة. وقد انتهى القرار إلى حفظ الشكاية المقدمة من زوجة المدعى عليه الرئيسي ضد محامي الطرف المدني (محمد الهيني). وكانت الشكاية نسبت إلى الهيني ـ”الإساءة” إلى زوجها و”التشهير به”، لكونه “خرق سرية الجلسات”، عن طريق التصريحات الإعلامية التي كان يصف فيها ما يدور من مناقشات داخل قاعة الجلسات.
وكان لافتا في قرار النقيب أنه جاء معللا، وتطرق بتفصيل لقضية تعاطي المحامين مع وسائل الاعلام في المحاكمات التي يتابعها الرأي العام، و رسم حدودا واضحة للتمييز بين التزام الدفاع باحترام قرينة البراءة مميزا في هذا الصدد بين دفاع المتهم، ودفاع الضحايا، كما رسم حدودا لموجب السرية الملقى على عاتق الدفاع، مستندا في كل ذلك على المعايير الدولية المنظمة لمهنة المحاماة.
وقبل المضي في استعراض أبرز ما تضمنه القرار، يلحظ أن القضية كانت شهدت صدور عدة بلاغات متتالية لهيئات المحامين على خلفية تعاطيهم مع وسائل الاعلام، صونا لأعراف المهنة.
ومن أبرز ما تضمنه القرار، الأمور الآتية:
احترام قرينة البراءة بين التزامات دفاع المتهم والتزامات دفاع المطالب المدني
فيما أن مبدأ قرينة البراءة يقتضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بمقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به، فإن واجب المحامين في الدفاع عن هذا المبدأ على المستوى العام يختلف بحسب المراكز القانونية لأطراف الدعوى العمومية التي يتولون الدفاع فيها. فالمحامي المؤازر للمتهم في قضية جنائية من واجبه أن يتمسك بمبدأ قرينة البراءة لفائدة موكله، لما فيه من مصلحة لهذا الأخير. أما المحامي النائب عن الضحايا المنتصبين كأطراف مدنية في نفس الدعوى، فمن واجبه المهني أن يهدم ذلكم المبدأ بعرضه لكل وسائل الإثبات التي تجر المتهم إلى ساحة الإدانة خدمة لمصالح موكليه المتضررين من الفعل الإجرامي.
وكلا المحاميين انما يجسدان في ذلك ما أقرته القوانين المنظمة لمهنة المحاماة وكذا المبادئ العامة الدولية المحددة لدور المحامين وحصانتهم وفي مقدمتها الدفاع بكل الوسائل المشروعة عن مصالح الموكل والولاء الكامل له.
التعليق على وقائع المحاكمات في القضايا التي تهم الرأي العام
انطلق قرار النقيب من مسألة بديهية تكمن في كون “التعليق على وقائع المحاكمات إعلاميا، هو أمر استقر على ممارسته المحامون في وطننا بل وفي العالم”، وهو ما قام به سائر محامي القضية موضوع الشكاية باختلاف المراكز القانونية لموكليهم، لافتا الانتباه إلى أن هذه القضية اكتست وصف قضية رأي عام، مما جعل “العديد من المنابر الاعلامية الوطنية والدولية تخصها بالتغطية والتحليل لصالح هذا الطرف أو ذلك في الدعوى العمومية الرائجة أمام القضاء، بما لا يمكن معه استثناء المشتكى به من هذا الجو الاعلامي العام المصاحب للمحاكمة”.
حرية التعبير مكفولة للمحامين
دافع قرار النقيب على شرعية تعاطي الدفاع مع وسائل الاعلام بشأن القضايا التي يدافعون عنها أمام القضاء، مستندا في ذلك على المعايير الدولية، وعلى رأسها “المبادئ التي أقرتها الأمم المتحدة بشأن دور المحامين واعتمدتها في مؤتمرها الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين بعاصمة كوبا في 27/08/1990 التي تنص على الواجب الملقى على عاتق المحامين في تقديم المساعدة لموكليهم بشتى الطرق الملائمة واتخاذ الاجراءات القانونية لحماية مصالحهم، واحترام مصالح موكليهم بصدق وولاء”.
واستبعد القرار أي امكانية لمساءلة المحامين بهذا الخصوص لأن “نفس المبادئ تقضي بعدم تعريض المحامين للملاحقة القانونية أو العقوبات الإدارية أو الاقتصادية وغيرها نتيجة قيامهم بعمل يتفق مع واجبات ومعايير وآداب المهنة المعترف بها، أو حتى تهديدهم بمثل هذه الأمور”.
كما أن “نفس المبادئ تنص على كون المحامين يجب أن يتمتعوا بحصانة مدنية وجنائية بالنسبة للتصريحات التي يدلون بها بنية حسنة سواء كان ذلك في مرافعاتهم المكتوبة أو الشفهية كما لهم الحق في حرية التعبير (مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في ميلانو بايطاليا بتاريخ 26/08/1985)”.
وحيث أن حرية التعبير هو حق ثابت للمشتكى به كما يثبت للكل ولا يمكن لمن ينتفع منه أن يحرم الآخر من الانتفاع منه بذرائع قد تقوم في حقه هو نفسه. إذ لما تعبّر اعلاميا عن مواقفك من قضية تعتبر ملفقة في حقّ أحد، لا يمكنك أن تمنع من يعتبرها غير ذلك.
وعليه، ذهب القرار إلى توسيع حرية المحامي في الدفاع عن وجهة نظر موكله، على اعتبار أن من حقه أن يرد على الاتهامات الاعلامية الموجهة ضد موكليه والآيلة إلى اعتبار الادعاء ملفقا. وقد نصّ القرار أنه كان للشكاية أن تكون أكثر جدية لو كان هنالك إجماع من جميع الأطراف في الدعوى العمومية على عدم إثارة الأمر إعلاميا. إلا أن عدم حصول هذا الأمر يجعل أي تدخل لتقييد حرية أحد الخصوم في التعبير بمثابة خروج عن مبدأ الحياد، وانتصار لرأي دون آخر. وهو موقف لا ينسجم مع القانون.
التعليق على مجريات المحاكمات لا يعد إفشاء للسر المهني
اعتبر قرار النقيب أن القضية موضوع الشكاية استنفذت مراحل البحث المشمولة بالسرية، وأن إضفاء الطابع السري على جلساتها يجد سنده فقط في طبيعة وقائع الدعوى وأدلة الإقناع الخاصة بها، ليخلص القرار إلى كون التزام المحامي بالسرية يشمل الأبحاث والتحقيقات وعدم تسريب وقائعها ولا يمتد ليشمل التعليق على مجريات المحاكمات.
دور مؤسسة النقيب حماية القانون واستحضار قواعد العدالة والانصاف
كان لافتا في قرار النقيب أنه علل حفظ الشكاية المقدمة في مواجهة دفاع الضحايا باستحضار الأدوار الموكولة إلى مؤسسة النقيب التي “يفترض فيها حماية القانون عموما وإعمال قواعده على وجه يستحضر العدالة والانصاف، بشكل مجرد دون انحياز أو محاباة أو مجاملة ولا يمكن أن تستعمل تحت أية يافطة كيفما كان مصدرها محاميا أو غيره”.
بالنظر إلى أهمية هذا القرار على صعيد حرية المحامين الإعلامية، تفتح المفكرة صفحاتها أمام جميع قرائها المهتمين لإبداء ملاحظاتهم بشأنه.
مقالات ذات صلة:
بلاغات متتالية لهيئات محامي المغرب صونا لأعراف المحاماة: هيئة الدار البيضاء تستدعي المحامين في قضية بو عشرين
جدل قانوني وحقوقي في المغرب بسبب تسريب صور من محاكمة بوعشرين
اقتراح بتنظيم علاقة المحامي مع وسائل الإعلام: اين المحامي المناصر للقضايا الإجتماعية؟
إستدعاء “المفكرة” للتحقيق في نقابة المحامين في بيروت: نقابة للحريات أم ذراع للسلطة؟
“