هي مفارقة: رئيس الدولة قيس سعيّد الذي عرفه التونسيون بعد الثورة بفضل حضوره في المنابر الإعلامية التي عبّر من خلالها عن مواقفه المتباينة عن الطبقة السياسية حينها، عادت التلفزة العمومية في ظلّ حُكمه الانفرادي بوق دعاية للسلطة تقصي صوت المعارضة. هو الرئيس الذي تدحرج معه مؤشر حرية الصحافة 45 مرتبة في التصنيف العالمي في ظرف 3 سنوات فقط بين 2021 (المرتبة 73) و2024 (المرتبة 118). هذا المؤشر القياسي يكثّف لوحده تدهور وضع الصحافة في البلاد خصوصا في ظلّ تتالي الملاحقات القضائية ضد الصحفيين على خلفية ممارسة أعمالهم، والتي انتهت بعضها بإصدار أحكام سجنية نافذة. أجواء أعادت مقصّ الرقابة الذاتية في صفوف الصحفيين فضلا عن تصاعد تدخل إدارات المؤسسات الإعلامية عمومية كانت أو خاصّة في المضامين الصحفية.
تعدّد الملاحقات القضائية
عرفت التتبعات القضائية ضد الصحفيين نسقًا تصاعديًا في الفترة الأخيرة. إذ تمّ تسجيل 39 تتبعًا في ظرف عام من بداية ماي 2023 إلى نهاية أفريل 2024، مقابل 17 تتبعًا خلال نفس الفترة من العام السابق[1]. يكشف هذا التضاعف عن استهداف مركّز خصوصًا بعد تجيير المرسوم عدد 54 لسنة 2022 في إثارة التتبع، في تجاوز للمرسوم 115 لسنة 2011 الذي يوفّر ضمانات قانونية تفترضها الأحكام الدستورية والتزامات الدولة في المعاهدات الدولية. تجييرٌ يعزّز القناعة مجددًا أنّ غاية المرسوم 54 هو فرض عصا جزائية جديدة لاستهداف الصحفيين علاوة على أحكام المجلة الجزائية ومجلة الاتصالات. فالفصل 24 من المرسوم بعنوان محاربة “الأخبار الزائفة والإشاعات” تحوّل لأداة لمساءلة الإعلامي على آرائه وتعليقاته الصحفية.
والملاحظ في كثير من التتبعات، هو أنّ النيابة العمومية هي التي تبادر من تلقاء نفسها لإثارة الدعوى، على نحو يبيّن مسارعتها لتوسيع دائرة التكييف لما تراه اعتداء على الحقّ العام وذلك في تصوّر يخالف دورها المطلوب في حماية ممارسة الحريات العامة. وهذا مؤشر على الصبغة الممنهجة للتتبعات الجارية. أمّا الشكايات الصادرة من الوزراء أو الموظفين العموميين، فتحظى هي الأخرى بسرعة لافتة للانتباه في إجراءاتها، على نقيض الشكايات المقدّمة ضدّ من هم في السلطة. يؤشر ذلك إلى ما بات يتمتّع به الموظف العمومي، وبالأخصّ في المناصب العليا، من امتياز ليس فقط واقعيا في التطبيق القضائي، بل أيضا قانوني من خلال تشديد العقوبة السجنية لتصل إلى 10 سنوات إن كان المستهدف من جريمة الفصل 24 موظفًا عموميًا أو شبهه، وهو ما يتعارض مع مبدأ المساواة. تشدّد عقابي يتناقض تماما مع ما تفترضه حريّة التعبير والصحافة، من لزوم توسيع مجال ممارستها تجاه الفاعلين العموميين باعتبارهم يتولون مسؤوليات تعرّضهم بشكل أكثر بالضرورة للرقابة والنقد.
في الأثناء، ظهر جليًا أيضًا توظيف تهم الفساد لما تحمله من حمولة وصم للمعنيين بها أمام الرأي العام، وبغاية توجيه النظر عن واقع استهداف حرية الصحافة. فبعد تتبع الإعلاميين برهان بسيّس ومراد الزغيدي من أجل تعليقات صحفية على أساس المرسوم 54، ثمّ صدور حكم بسجنهما لمدة عام، أثارت النيابة تتبعًا جديدًا من أجل الإثراء غير المشروع. وكانت النيابة العمومية قد أثارت العام المنقضي تتبعًا مشابها ضد مدير عام إذاعة “موزاييك” نور الدين بوطار بعنوان جرائم تبييض أموال، قبل إطلاق سراحه بضمان مالي. رسالة مضمونة الوصول دفعت، كما لاحظ الكثير من المتابعين، إلى تغيير تركيبة برنامجها الإذاعي السياسي في الظهيرة، وهو الأكثر استماعًا على موجات الأثير في تونس، وإلى تعديل الخطّ التحريري للإذاعة ليصبح أقلّ إزعاجا للسلطة.
العقوبات السجنية تعمّم أجواء الترهيب
لا ينحصر أثر العقوبات السجنية النافذة في الأحكام الابتدائية الصادرة بحقّ كلّ من محمد بوغلاب وبرهان بسيّس ومراد الزغيدي، وهم وجوه صحفية نشطة يوميًا في وسائل إعلامية مرئية وسمعية، في المعنيين بها فقط. بل امتدّ في أوساط الصحفيين بوجه عامّ بما زاد في إشاعة الترهيب خشية إيقافهم. أجواء من الخوف عززتها الاستدعاءات الموجّهة بين الفترة والأخرى لسماع إعلاميين بشأن أعمالهم أو تدويناتهم على غرار المقدّمة خلود مبروك على خلفية استضافة وزير سابق محلّ تتبع، أو الصحفي سمير ساسي على خلفية تدوينات معارضة، أو رسام الكاريكاتير توفيق عمران على خلفية رسوم كاريكاتورية ناقدة للسلطة.
كما خيّم مواصلة إيقاف الصحفية شذى الحاج مبارك فيما تُسمى قضية “انستاليغو” رغم سابقية حفظ التهمة في حقها من قاضي التحقيق قبل إصدار دائرة الاتهام لبطاقة إيداع، في مزيد كشف الآثار الإنسانية والصحية للإيقافات. أمّا الإعلاميّة والمحامية سنية الدهماني، فتعدّدت في حقّها التتبعات، منذ إيداعها بالسجن بسبب تعليق إعلامي ساخر تحوّل إلى شعار سياسي يفضح تدهور الوضع العامّ في البلاد. إذ أثيرت في حقّها في الأسابيع الأخيرة ملفات قضائية مستقلة على خلفية تصريحات حول مواضيع مختلفة، وجميعها على أساس المرسوم 54. وكان رئيس الدولة قد حسم بنفسه بإدانتها، حيث أشار في بلاغ رئاسي إلى أن تصريحها حمل “تحقيرًا للوطن وترذيله”. وإجمالًا، فإن هذه الملاحقات والإيقافات أبرزت مدى ثقل كلفة ممارسة حرية الرأي، وساهمت في انتشار مناخ مشوب بالخوف في أوساط الصحفيين على نحو يقيّد كثيرا من حرية عملهم. كما جعلت إدارات المؤسسات الإعلامية الخاصّة تعمل على توسيع دائرة رقابتها التقييدية للصحفيين بما يمسّ من استقلالية الخط التحريري خشية من “المتاعب” القضائية، وصولا إلى تخلي بعضها عن البرامج السياسيّة التي كان فيها حدّ أدنى من التعدّدية أو الخطاب النقدي.
الإعلام العمومي واجهة للسلطة
في خضم هذا المناخ، ظهر الإعلام العمومي وبالخصوص التلفزة الرسمية مثالًا على واقع وضع اليد على الإعلام عبر برامجها السياسية التي تعكس وجهة نظر السلطة، وتغيّب تماما المعارضين حزبيين كانوا أو مستقلين، بل حتى الخبراء الذين لا يظهرون موالاتهم للسلطة في إدارة الشأن العام.
في هذا السياق، يُستذكر استدعاء رئيس الدولة لمديرة التلفزة عواطف الدالي، في الخريف المنقضي، للاحتجاج بخصوص مضمون “نشرة الأخبار” حينما اعتبر أن ترتيب الأنباء فيها ليس بريئًا. لاحقًا تحوّلت نشرة الأخبار إلى شريط للأنشطة الرئاسية والحكومية بدرجة أولى. وفي ذلك زادت مظاهر تدخّل الإدارة عبر الصنصرة والمضايقة. إذ سجّل التقرير السنوي لنقابة الصحفيين أن جلّ أعمال تدخل الإدارة تمركزت في الإعلام العمومي وهو ما لا يقتصر على التلفزة بل يشمل وكالة تونس-إفريقيا للأنباء والإذاعة الوطنية[2]. الأمر الذي يعزّز حقيقة السعي لتوجيه الخط التحريري، على نحو حوّل وسائل الإعلام العمومية إلى أبواق حكومية تفتقر للتنوع في عرض المعطيات أو الآراء، وهو ما يحرم المواطن دافع الضرائب من حقه في ضمان التعددية والتوازن في العرض.
“هايكا” مجمّدة وتأبيد الفراغ
مسار خنق حرية الصحافة في تونس تزامن مع مسار تجميد هيئة الاتصال السمعي البصري (الهايكا) خصوصًا بعد إيقاف أجور أعضاء مجلسها بداية العام الحالي وتكليف الكاتب العام بتسيير أعمالها الإدارية. تغييب “الهايكا” من المشهد، وهي التي عبّرت في الفترة المنقضية، ولو باحتشام وتأخّر، عن تمسكها بحرية التعبير والإعلام واستقلالية المؤسّسات الإعلامية، يزيد في إفساح المجال للسلطة لممارسة تضييقاتها بعيدًا عن أعين الرقابة المؤسساتية.
تجميد “الهايكا” يأتي بالنهاية استتباعًا لسُنّة تجميد جميع المؤسسات والسلط المضادّة منذ 25 جويلية 2021. هدم وتعطيل ممنهج للمؤسسات لم يلحقه أيّ عمل موازٍ بغاية سدّ الشغور. إذ امتنعت السلطة عن تعيين رئيس جديد للهيئة أو مجلس آخر برمته أو إصدار قانون جديد. والأمر لا يتعلّق بمجرّد إهمال ملفّ إصلاح الإعلام بقدر ما يظهر خيارًا مستقصدًا لفرض حالة الفراغ. الأمر الذي تبيّن منذ عدم التنصيص على هيئة دستورية لتنظيم التعديل الذاتي للإعلام في دستور الرئيس. بل لا يظهر عمومًا أن الرئيس يحمل تصورًا واضح المعالم حول الإصلاحات التشريعية والمؤسساتية التي يقترحها في جمهوريته الجديدة، باستثناء سياسة السجون والترهيب للأصوات الناقدة.
[1] التقرير السنوي لحرية الصحافة 2024، النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
[2] المصدر السابق، ص. 26.