حرية التعبير بعد 25 جويلية 2021: هل ينسف أهمّ مكسب للثورة التونسية؟


2021-08-24    |   

حرية التعبير بعد 25 جويلية 2021: هل ينسف أهمّ مكسب للثورة التونسية؟

جاء في تقرير منظمة المادّة 19، الصادر في 12 أوت 2021 أن “النظام الديمقراطي في تونس في خطر شديد”[1]. هذا القلق الذي عبّرت عنه هذه المنظمة والذي تتقاسمه معها عديد المنظمات والجمعيّات، يتأتّى أساسا ممّا تمّت ملاحظته ومعاينته من انتهاكات وإخلالات بحريّة الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر التي كرسها الفصل 31 من الدستور، وبخاصة لجهة أنه لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات.

وللتذكير، فإنّ حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر هي من أهم مكاسب الثورة التونسية التي مكّنت من إرساء مبادئ الحرية وذلك منذ أيامها الأولى. فكانت حرية الإعلام والصحافة من مقوّمات الانتقال الديمقراطيّ في تونس والتي تدعّمت بإقرار منظومة قانونية مكّنت من تأكيدها ثمّ من دسترتها وجعلها مكسبا دستوريا لا يجوز التراجع عنه [الفصل 49 من الدستور].

فالمنظومة التي أرستها الثورة جاءت لتقطع تماما مع ما كان سائدا ولمدّة فاقت الخمسين سنة من سياسة تكميم الأفواه والرقابة المسبقة والصنصرة والملاحقات القضائية والهرسلة التي عانت منها وسائل الإعلام كافة والإعلاميات[2] من ناحية وكذلك المدوّنات والناشطات على الإنترنت[3].

وهو ما أدّى إلى إشاعة جوّ من الخوف والترهيب والتعتيم وحرم المواطنين والمواطنات من الاطلاع على الخروقات والانتهاكات وجرائم النظام. ولذا كانت أولى الإصلاحات منذ 2011 هي إصلاحات قطاع الإعلام عموما ومجال الصحافة والولوج إلى المعلومة خصوصا. فكان إحداث الهيئة الوطنية المستقلّة لإصلاح الإعلام والاتّصال بموجب المرسوم عدد 10 في 2 مارس 2011 والتي صاغت ونشرت تقريرها الذي تضمّن التوصيات الأساسية لإصلاح قطاع الإعلام والصحافة والتي حلّت نفسها في 4 جويلية 2012 متّهمة الحكومة آنذاك بفرض الرقابة وبتضليل المواطنات والمواطنين.

وكان للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطيّ والإصلاح السياسيّ دور هامّ في إقرار نظام حريّة يقوم على مرسومين أساسيين: المرسوم 115 المؤرخ في 2 نوفمبر 2011 يتعلق بحريّة الصحافة والطباعة والنشر، والمرسوم عدد 116 المتعلق بإحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري [HAICA]. وهو ما تدعّم لاحقا بالقانون الأساسي عدد 37 مؤرخ في 22 سبتمبر 2015 يتعلق بالتسجيل والإيداع القانوني وبالقانون الأساسي عدد 22 مؤرخ في 24 مارس 2016 يتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة.

هذه المنظومة التي تأسست تدريجيّا وبصعوبة نظرا لأنه “وكعادة الحكومات” فإنها ترغب دائما في وضع يدها على الإعلام وعلى النشر والتعبير عموما. فكانت ولا تزال محلّ تدخّلات سياسيّة وحكوميّة لمحاولة تدجينها واستعمالها لتبييض أعمال السّاسة والمسؤولين الحكوميين من ناحية وللتّسويق لصورة مجمّلة لها. ولذا كانت كل الهجمات على الإعلام والإعلاميين والإعلاميات منذ 2011 إلى اليوم بصفة مستمرّة ومتواصلة ممّا يؤكّد أنها سياسة ممنهجة … ورغم كلّ ذلك فإنّ حريّة الإعلام والنشر والتعبير كانت من أسس اليقظة الديمقراطية: هذه الحرية هي التي كشفت ملفات فساد سياسي واقتصادي وبيئي وثقافي … وأدّت من ناحية إلى إنارة الرأي العام وإلى تحريك القضاء [في بعض الأحيان] من ناحية أخرى. فحريّة الإعلام ليست فقط ترفا “ديمقراطيا” وإنّما دعامة هامّة لشفافية الحياة العامة ونزاهتها وأيضا لحماية الحقوق اليومية للمواطنات[4]. ولذا فإنّ حماية هذه الحرية وضمانها هو مبدأ أساسي في إرساء الديمقراطية والتوازنات الاجتماعية والاقتصادية … ولذا فإنّ الهجمات تتفاقم على حريّة الإعلام والرأي والتعبير في فترات الأزمات والانتقالات … وهو ما نعيشه منذ 25 جويلية 2021، حيث بصدور بيان رئيس الجمهوريّة المتعلّق بتعليق أعمال مجلس نواب الشعب وإقالة رئيس الحكومة وترأس رئيس الجمهورية النيابة العمومية، انطلقت الهجمات والانتهاكات لهذه الحريات وتعدّدت صور ذلك وآثاره على المشهد الإعلامي سواء المنظم والمهيكل وكذلك على كل وسائل التواصل الاجتماعي. ولذا فإنّنا سنحاول تقديم هذا المشهد الخطير الذي يتميّز بتجميع السّلط من ناحية وتنامي تصاعد الخطاب والقرارات الشعبويّة ومدى تطابقها مع الأحكام الدستورية والالتزامات الدولية للجمهورية التونسية ومع قوانينها الوطنية.

تنوّع الانتهاكات: لا أحد فوق الاعتداء

إن ما نعيشه منذ 25 جويلية 2021 هو تصاعد غير مسبوق لانتهاك حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر. هذه الظاهرة أعادتْ إلى أذهاننا فترات ما قبل 2011 ولكن أيضا الفترات الحالكة لضرب حرية الرأي والتعبير والإعلام بين 2012 و2014 [إلى حين صدور دستور 27 جانفي 2014] وأيضا الفترة التي انطلقت مع انتخابات 2019 وصعود الأحزاب والتيارات المعادية للحرية.

في تعدّد مصادر الانتهاكات

قوات الأمن والتي تُعتبر أهمّ طرف يتّهم بالاعتداء على الإعلاميين حيث نقلت نقابة الصحفيين التونسيين ومنظمة المادة 19 الاعتداءات على مصوّرين من وكالة تونس إفريقيا للأنباء، عرقلة عمل عضو مكتب الاتحاد الدولي للصحفيين، كذلك احتجاز وثائق عمل صحفية وهاتفها الجوّال.

السلط العمومية [ونجهل لحدّ الآن من هي] والتي أذنت ونفذت غلق مكتب قناة الجزيرة بتونس دون أي توضيح للرأي العام عن أسباب الغلق ولا للإعلاميين الممنوعين من مزاولة عملهم.

رئاسة الجمهورية: بإقالة الرئيس المدير العام للتلفزة الوطنية [الأمر عدد 78 المؤرخ في 28 جويلية 2021] دونما أي توضيح للأسباب ودونما أي تشريك للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري.

اعتداءات من قبل المحتجين/المناصرين لقرارات رئيس الجمهورية وأهمّها الاعتداءات التي طالت صحفيين في صفاقس في26-07-2021 وإعلاميين أمام مجلس النواب في باردو أيضا…

الفضاءات التي تمارس فيها الانتهاكات

مورست هذه الانتهاكات في جميع الفضاءات المادية والافتراضية.

حيث طالت هذه الانتهاكات الفضاءات العامة: المحتجين في الشوارع والصحفيين في أماكن تغطية الأحداث، وطالت فضاءات إعلامية خاصة [قناة الجزيرة] والتلفزة الوطنية والمساكن الخاصّة بإيقاف المدوّنين والنواب …

أمّا الفضاءات الافتراضية فما عشناه منذ 25 جويلية هو حملات “فايسبوكية ” ضدّ الآراء المخالفة لما هو سائد أو متخيّل أنه “موقف الرأي العام” حيث طالتْ الحملات الكتابات والمقابلات الإعلامية التي عبرت عن قراءة مختلفة لتدابير 25 جويلية 2021، وخاصة تلك التي اعتبرته انقلابا على الدستور وعلى الشرعية أو التي حذرت من خطورة هذه الإجراءات على الحقوق والحريات: حيث كانت الحملات والتي نعتبرها ممنهجة ومنظمة مؤسّسة فقط على الشتم والتشويه والتخوين[5] وهي حملات تضرب صراحة حريّة الفكر والتعبير وتصبّ في التحريض على الاعتداء وتعرّض المختلفين للعنف والسّحل.

هذه الحملات قامت أساسا على فكرة شيطنة القانونين والدّفع نحو أنّهم السّبب في الأزمات التي تعيشها تونس منذ 2011 وأنهم سبب الاختيارات الخاطئة وكأن ما يحصل منذ 25 جويلية هو انتفاضة ضدّ “التشريعيين” les légalistes.

كما طالت الانتهاكات المدوّنات والناشطات على الإنترنت على خلفيّة آرائهن المختلفة المعارضة أوالمنتقدة لما يحصل منذ 25 جويلية وخاصة انتقاد رئيس الجمهورية وهو ما حصل مع العديد منهن[6].

في مخاطر الانتهاكات على الحقوق والحريات:

هذه الانتهاكات الخطيرة ضربت عديد الحقوق والحريات الدستورية والتعاهدية والمبادئ التي تقوم عليها الديمقراطيات:

في ضرب دولة القانون: يؤكد الدستورفي ديباجته وفي فصله الثاني على علويّة القانون التي تضمنها الدولة، ذلك أن دولة القانون تقوم أساسا على احترام القوانين النافذة والديمقراطية. إلا أن ما لاحظناه منذ 25 جويلية هو عدم احترام التشريعات المؤكدة للحريّات ومنها المرسومين 115 و116، حيث تضرب حرية الإعلام دونما استشارة قبلية للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري وهو ما حصل مع غلق مكتب الجزيرة وإعفاء الرئيس المدير العام للتلفزة الوطنية.

كما تقوم دولة القانون على الشفافية والحق في النفاذ إلى المعلومة. وهو ما أكّده الدستور في فصله 15 [والمتعلق بمبادئ تنظيم وعمل الإدارة]. والفصل 32 [المتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة] إلا أن ما يحصل منذ 25 جويلية يتعارض تماما مع هذه المبادئ، حيث يتمّ اتّخاذ هذه التدابير والإجراءات ولا يتمّ توضيح أسبابها أو تعليلها: سواء في غلق مكتب قناة الجزيرة أو إيقاف المدوّنين أو احتجاز وسائل العمل الصحفي … كما أنه لا تصدر عن رئاسة الجمهورية أي توضيحات عن التدابير المتخذة ولا عن النيابة العمومية أو غيرها.

في ضرب حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر: هذه الحريّات يؤكدّها الفصل 31 من الدستور. إن كل هذه الانتهاكات اعتداء صريح على هذه الحريات والحقوق الدستورية بما يتنافى مع جوهرها ودونما احترام لمبادئ الضرورة والتناسب المضمّنة في الفصل 49 من الدستور حيث تضرب هذه الحقوق والحريات دونما احترام لهذه المبادئ. فأي ضرورة لإيقاف المدونين أو منع الصحفيين من تغطية الأحداث؟ إنها انتهاكات خطيرة تذكّر بالأساليب الدكتاتورية.

– في ضرب الحريات الأكاديمية: تقوم هذه الحريات التي يضمنها الدستور في فصله 33 على ما للباحثين من حرية مطلقة في التفكير والبحث والكتابة والنشر ولا ضوابط لذلك إلا الضوابط الأكاديمية القائمة على العقل والمنهج العلمي لا غير. وما عشناه من حملات تشويه وشيطنة للباحثين والمفكرين لا يقوم على أي نهج علمي أو ردود منطقية ومعللة علميّا بل إنبنت على الأحكام المسبقة والقيميّة فقط. وهو ضرب خطير للحريّات الأكاديميّة وتؤسس لصنصرة للفكر والرأي الحرّ.

– عدم احترام قرينة البراءة والحق في المحاكمة العادلة : لقد ضمّن الدستور في فصوله 27 وما يعقبها مجموعة من الحقوق اللصيقة بالحق في المحاكمة العادلة. إلا أن إيقاف المدونين والناشطين على أساس انتقاد رئيس الجمهورية وتدابيره لا يضمن أيّا من هذه الحقوق الدستورية. كما أنّ الدستور يضمن حقوق المواطنات بصفة متساوية أمام القانون. إلا أنّنا لاحظنا عدم تحرّك النيابة العمومية لحماية حرية الرأي من حملات التشويه والتحريض بينما تتحرّك النيابة لإيقاف أو استدعاء المدوّنات وتوجّه لهم تهما خطيرة تضمّنتها المجلة الجزائية أو مجلة العقوبات والمرافعات العسكرية ومجلة الاتصالات.

كما يغيب تدخّل رئيس الجمهورية [الفاعل الأساسي/الأوحد في المشهد السياسي التونسي]. سواء في خطاباته أو بياناته للكفّ عن هذه الحملات التحريضيّة والتشويهيّة والخطيرة. وهو ما يمكن تأويله من قبل المناصرين للرئيس كتشجيع “غير مباشر” لهم للمضي قدماً.

ماذا بعد؟

هذا الوضع الذي نعيشه منذ 25 جويلية والذي يهدّد أهم مكسب من مكاسب العشريّة الأولى للثّورة: حريّة الفكر والتعبير والإعلام والنشر. لا يمكن إلا أن يؤكّد مخاوفنا الأصليّة من الانحراف الاستبدادي للتدابير المتخذة، وغياب تحرّك النيابة لحماية ضحايا حملات التحريض والشيطنة، وخاصة مع تشريك القضاء العسكري في هذه الإجراءات مما يمثل خطرا جسيما على الانتقال الديمقراطي. ذلك أن أي اعتداء على حرية التعبير غير مقبول لأنه بسقوطها يسقط حجر أساس الديمقراطية في تونس، فاليقظة كل اليقظة.

مقالات ذات صلة :

– تقرير منظمة المادة 19، تونس خطوة خطيرة في الاتجاه الخاطئ تونس 12 أوت 2021

النسخة العربية: https://www.article19.org/ar/resources/tunisia-a-grave-step-in-the-wrong-direction/

النسخة الإنجليزية: https://www.article19.org/resources/tunisia-a-grave-step-in-the-wrong-direction/

  1. أنظر تقرير المادة 19، تونس خطوة خطيرة في الاتجاه الخاطئالنسخة العربية: https://www.article19.org/ar/resources/tunisia-a-grave-step-in-the-wrong-direction/

    النسخة الإنجليزية: https://www.article19.org/resources/tunisia-a-grave-step-in-the-wrong-direction/

    نشر في 12 أوت2021 .

  2. تعتمد المفكرة القانونية مبادئ الحيادية الجندرية ومنها شمول جمع الإناث وجمع الذكور الذكور والإناث.
  3. أنظر تقرير هيئة الحقيقة والكرامة، المحور الاول تحت عنوان “تفكيك منظومة الاستبداد” الصفحات 154 الى 179 ، نشر في قرار مجلس هيئة الحقيقة والكرامة عدد 14 لسنة 2018 المؤرخ في 31 ديسمبر 2018 يتعلق بنشر التقرير الختامي الشامل بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية نشر بالرائد الرسمي عدد 59 مؤرخ في 24 جوان 2020 الصفحة 1536 وما يليها الرابط:. http://www.iort.gov.tn/WD120AWP/WD120Awp.exe/CTX_4900-5-qkrqDqrogh/RechercheTexte/SYNC_-614276906
  4. تعتمد المفكرة القانونية مبادئ الحيادية الجندرية ومنها شمول جمع الإناث وجمع الذكور الذكور والإناث.
  5. أنظر الحملات التي طالت الأستاذ عياض ابن عاشور والأستاذة سناء بن عاشور.
  6. أنظر تقرير منظمة المادة 19: إيقاف حمزة بن محمد ورضا رداية، إيقاف شابين في سوسة ثم إطلاق سراحهما.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، أحزاب سياسية ، حرية التعبير ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني