“
تسعة عشر عاماً مرّت على صدور القانون 220/2000 الخاص بالأشخاص المعوّقين ولم ينفذ منه سوى القليل. وحتى يومنا هذا، وفي تناقض مع التوجّه الدولي واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لم تزل الدولة اللبنانية تعتمد سياسة الرعاية والعزل لهؤلاء الأفراد عن بيئتهم ومجتمعهم، وتكتفي بتمويل رعاية ما يُقارب 9000 شخص، بينما عددهم في لبنان يتخطّى الـ100 ألف.
طرحت “حركة الإعاقة من أجل حقوق الإنسان” هذه المعطيات في بيان تلته بعد مسيرة نفّذتها من بشارة الخوري في بيروت نحو ساحة الشهداء. واختارت الحركة توقيت المسيرة عشية عيد الاستقلال تحت شعار “حرية وكرامة للكل… في وطن للكل”، لتكون واحدة من التحركات الاحتجاجية التي تندرج تحت مظلّة “ثورة 17 تشرين الأول”. وتوجّه العشرات من الأشخاص المعوّقين ومناصريهم من الشمال والجنوب وبعلبك والبقاع ومن بيروت للمشاركة في المسيرة بهدف رفض سياسات الرعاية والعزل المعتمدة من قبل الدولة اللبنانية، والمطالبة بتبنّي سياسات تعزز مبدئَي الدمج والعيش باستقلالية، وفق ما جاء في البيان. وطالبوا بتنفيذ بنود القانون 220، والتوسّع أكثر لناحية الضغط لجهة تبنّي لبنان الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، بخاصة وأنّ القانون المذكور قد مرّ عليه الزمن وأصبح بحاجة أن يتماهى مع التطورات والتغيرات الاجتماعية.
وسار أشخاص مقعدون على كراسيهم المدولبة ومعهم مكفوفون وصم وفئات متعددة من المواطنين المهمشين، بمواكبة قوى الأمن الداخلي، وتوجّهوا إلى ساحة الشهداء هاتفين “قالوا عنّا معاقين… لا طبابة ولا تعليم… من التنقّل محرومين، عن العمل ممنوعين”، “بيكفي قهر وبيكفي جوع، عن الثورة ما في رجوع”. وتقدّمت المسيرة يافطة كُتب عليها عبارة “حقوق الإنسان للكل… في وطن للكل”. وحمل أحدهم دلو ماء صغيراً وضع فيه بطاقة الشؤون الاجتماعية الخاصة بالأشخاص المعوّقين وكتب فوقها “بلوها واشربوا ميّتها”، للدلالة على أنّ البطاقة هي لزوم ما لا يلزم، ولم تضف شيئاً يُذكر على حياتهم. ومن باب السخرية يختصر عضو الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً مسألة البطاقة لـ”المفكرة” بالقول “لديها استخدامات متعددة مثل أن نستعملها فاصلاً في الكتاب لنحدد أين وصلنا في القراءة، أو كركيزة تحت كوب الشاي”.
الإعاقة هي نتيجة سياسات الدولة
أجمع عدد من المشاركين في المسيرة على أنّ “الإعاقة ليست مشكلة في الفرد إنما في الدولة وسياساتها المجحفة التي تُعيقه عن الاندماج وممارسة واجباته الأساسية والوصول إلى حقوقه”. فلا وسائل نقل عام تتيح له التنقل بمفرده، وهو محروم من العمل وبالتالي من الاستقلال المادي، وأحياناً كثيراً من التعلّم وممارسة الرياضة والحصول على الطبابة.
وشدد بيان الحركة على أنّ “التغطية الصحية الشاملة، التعلّم في المدارس الدامجة، حرية التنقل والمشاركة في الانتخابات البلدية والنيابية، واعتماد لغة الإشارة مشتركة، وحق السكن المؤهّل واللائق” هي حقوق للجميع لن يعود مقبولاً بعد اليوم أن تُحرم منها فئات وأن تتمتع بها فئات أخرى. وتابع: “اليوم نؤكد أن الصّحة للجميع والعلم للجميع والعمل للجميع والضمان الاجتماعي للجميع وحرية التنقل للجميع والمشاركة السياسية للجميع والسكن للجميع، والعيش المشترك للجميع والحياة الكريمة للجميع”.
وتشارك قراءة بيان الحركة، رئيسة الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوّقين حركياً سيلفانا اللقيس ورئيس المنتدى لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في لبنان د. نواف كبارة.
المجتمع الدامج ضمانة لحقوق الإنسان
وقبل يوم من المسيرة شاركت اللقيس في ندوة تلاها حوار في موقف العازارية تمحور حول قضية الأشخاص المعوّقين. وانطلقت اللقيس من تفسير المفهوم الاجتماعي للإعاقة وحتمية بناء المجتمع الدامج، إذ أكدت أنه “المجتمع الذي يأخذ بعين الاعتبار كل فئاته، النساء والرجال والأطفال وكبار السن والأشخاص المعوقين”. وأشارت إلى أن 15% من سكان لبنان هم من الأشخاص المعوّقين، وهؤلاء لا يتمتعون بالحقوق، والسياسات التي تعتمدها الدولة والتي تزيد من تجاهلهم تعيق تمتّعهم بحياة كريمة. ولفتت اللقيس إلى أنه “لا يُمكن التكلم عن حقوق الإنسان ما لم تنظر الدولة بكافة الفئات من مواطنيها”. وانطلاقاً من طرحها لمفهوم المجتمع أرادت اللقيس أن تُقدم صورة واضحة عن المفهوم الحقيقي للشخص المعوق، “وهو ليس شخصاً لديه مشكلة يجب حلّها، بل هو شخص يتعرّض للتمييز والأحكام المسبقة ويعيش في مجتمع يتجاهله، مما يُعيقه عن العيش بكرامة”. واعتبرت أنّ المجتمع عليه أن يُلبّي احتياجات كافة فئاته، مشيرة إلى أن هذه الفئات تشمل الأشخاص المعوّقين أيضاً. لذلك، فإنه بالنسبة للقيس لا يُمكن أن يكون المجتمع متكافئاً إن لم يرعَ كافة الفئات، من دون أحكام مسبقة، ومثلما يتم تأمين أسواق تجارية تناسب فئة من المواطنين، فإن هذه الأسواق عليها أن تناسب الفئات الأخرى”.
وما يحصل في لبنان برأيها هو أنّ الدولة لا تزال تعتمد سياسة تقليدية استندت منذ عقود على عزل الأشخاص المعوّقين، وتطويعهم ضمن النظام الرعائي، مما يمنعهم من العمل والتعلّم ويُكبد الدولة خسائر اقتصادية بسبب تجاهلها لقوى فاعلة في المجتمع وقادرة على تحريك الاقتصاد. وتأسف اللقيس لإن غالبية الجمعيات المعنيّة بالأشخاص المعوقين هي جمعيات غير احترافية وبخاصة تلك التابعة لزوجات السياسيين.
القانون رقم 220 لم ينفذ منه سوى القليل
وذكّرت اللقيس بمرور 19 عاماً على صدور القانون 220 لعام 2000 الخاص بحقوق الأشخاص المعوّقين في لبنان الذي ما كان ليصدر لولا نضالات حركة الإعاقة. ولكن للأسف منذ ذلك الوقت لم يطبّق القانون بشكل كامل حيث ارتبطت العديد من بنوده بالمراسيم التطبيقية. وتطرقت اللقيس بشكل خاص إلى مسألة ضرورية وهي تأهيل المباني وتجهيزها ليتمكّن الأشخاص المعوّقون من استخدامها لاسيّما من خلال المنزلقات، والحمامات الواسعة، ولغة الإشارة وغيرها.
وكان أول مرسوم صدر في هذا المجال عام 2009، وهو المرسوم رقم 2214 الذي حدّد الإجراءات والتدابير المتعلقة بتسهيل مشاركة ذوي الاحتياجات الخاصة في الانتخابات النيابية والبلدية. وعام 2011 صدر المرسوم رقم 7194 الذي حدد معايير الحد الأدنى التي يجب على أساسها أن تؤهل السلطات الأبنية والمنشآت والمرافق العامة والدوائر الرسمية القائمة ضمن مهلة انتهت في نهاية 2017.
ولكن للأسف لم يطبّق أي مما نص عليه المرسوم، حيث جرت ثلاثة استحقاقات انتخابية (الانتخابات البلدية والاختيارية لعامي 2010 و2016، والانتخابات النيابية للعام 2018) منذ صدوره من دون أن يتمتع الأشخاص المعوقون بحقوقهم الانتخابية وباستقلالية المشاركة من دون الانتقاص من كرامتهن. وعام 2018 جرت الانتخابات من دون احترام حقوق الأشخاص المعوّقين فيها، لا لناحية تجهيز مراكز الانتخابات لسهولة التنقل ولا لناحية تأمين لغة الأشخاص الصُم أو المكفوفين، وهو ما استدعى تلقي المساعدة من آخرين ما أثّر على استقلاليتهم. ولا ننسى المواجهة التي حصلت أمام أحد مراكز الاقتراع في بيروت بين اللقيس ورئيس الحكومة سعد الحريري حيث قالت له إن وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق “كذب علينا” فهو كان قد وعد قبل الانتخابات بتجهيز المراكز ليتمكن ذوو الإعاقة من استخدامها وهو ما لم يحصل. وحينها وعد الحريري أن يأخذ هذا الموضوع على عاتقه، وتبعه تصريح للمشنوق خلال مؤتمر صحافي ألقى فيه المسؤولية على “مجموعة كانت مكلّفة بالملف ولم تقم بأي شيء جدي… وما حصل هو خطأ إداري”. ووعد حينها أن يطرح المسألة في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء.
“