
رسم: رائد شرف
في تمام الساعة الحادية عشرة من ليلة 09-03-2022، ومن مقر وزارة الداخلية وفي لقاء له مع القيادات الأمنية[1]، تحدّث الرئيس التونسي قيس سعيد عن المضاربات والاحتكار فقال أنها ظاهرة غير طبيعية غايتها ضرب السلم والأمن ليضيف أنه حدّد الأهداف وضبط اللحظة صفر لانطلاق ما سمّاها حربا دون هوادة على المحتكرين. وإذ أشاد سعيّد بالقوى الأمنية التي تخوض هذه الحرب، دعا قضاة النيابة العمومية للانخراط معها في جهدها. بعد يومين، أصدرت وزيرة العدل ليلى جفال بتاريخ 11-03-2022 منشورا[2] وُجّه ليس فقط للنيابات العامة إنما أيضا لرؤساء المحاكم. وقد طلبت جفال ممن وجّهت لهم منشورها “إيلاء الجرائم الاقتصادية.. الأهمية والمتابعة اللازمتيْن في عمل النيابة العمومية والمجالس القضائية”، طالبة من النيابات العامة توجيه ملفّاتها إلى دوائر الفصل السريع ومن المحاكم “الحرص على إصدار أحكام رادعة حسب خطورة الجرم وتأثيره على الأمن الاقتصادي والاجتماعي”.
ويلحظ هنا أن هذا المنشور يشكّل بما انتهى إليه من اتّباع إجراءات بعينها وإصدار أحكام رادعة تدخّلا في عمل القضاء وجب التنبه لخطورته لعلاقته بما سبقه من عصف بضمانات استقلالية القضاء كما تصورها دستور 2014. وهذا ما أشارت إليه جمعية القضاة في اللائحة الصادرة عن مجلسها الوطني في تاريخ 12-3-2022 حيث اعتبرتْ أن منشور الوزيرة إنما يمثّل تدخلا مباشرا وغير مقبول في الأحكام وفي تقدير العقوبات، وإن شدّدتْ على أهميّة دور القضاء في التصدي لجميع أنواع الجريمة بما فيها الجرائم التي تهدد الأمن العام الاقتصادي وتنال مباشرة من المقدرة الشرائية للمواطن.
ما بعد العصف بالضمانات… التدخل في القضاء بنص مكتوب
استغرق حديث استقلالية القضاء جانبا هاما من النقاش العام حول باب السلطة القضائية بالدستور التونسي لسنة 2014 في سياقات كان فيها الهاجس الأكبر تدعيمها وتوفير ضماناتها. وفي هذا الإطار، تمّ التنصيص على تحجير التدخل في القضاء[3] كما تمت دسترة المجلس الأعلى للقضاء الذي أسندت له مهمة “ضمان حسن سير القضاء واحترام استقلاله”[4] بعد أن وفرت له شروط الاستقلالية الهيكلية وضمنت له الاستقلالية الوظيفية.
تاليا، وبعد 25 جويلية 2021، توجه خطاب الرئيس قيس سعيد الذي بات ينفرد بالسلطة السياسية في اتجاه معاكس شعاره الحاجة لقضاء منخرط في اللحظة التاريخية. وكان من نجاحاته أن حلّ المجلس الأعلى للقضاء وفرض محلّه مجلسا مؤقتا غابت عن نصوصه فكرة ضمانات الاستقلالية وحضرت فيها أبواب تدخل الرئيس في المسارات المهنية للقضاء إلى حدّ وصل لدرجة أن بات إعفاء القضاة من دون ضمانات تأديبية صلاحية رئاسية.
بالنظر لما تمّ من مأسسة للتدخل في القضاء وزراعة للخوف في الوسط القضائي منها، لم يكن من المستغرب أن تمضي هذه السلطة إلى تحقيق ما تحتاجه من توظيف للقضاء في تنفيذ سياساته. وفي حين باشرت هذا التدخل في خضم حرب توحي بوجود نية في حماية المواطن ضدّ الاحتكار، فإنها بذلك أرستْ سابقة ومهدت للتطبيع مجددا مع التدخّل في القضاء، وتاليا من أن يتم نفس التدخّل لاحقا في قضايا قمع الحريات، وضمنا قمع حرية الجمعيات الذي تزداد المؤشرات عليه يوما بعد يوم.
إملاء الأحكام: عود على بدء
إلى حدود ثمانينات القرن العشرين، لم يكن وزراء العدل يجدون حرجا من توجيه مناشير للمحاكم تضبط ما يقدرون أنه سياسة الدولة الجزائية يطلبون فيها ما يرونه لازما من توجهات وينتقدون ما يعتبرونه خللا فيما سبق من عمل محاكم. تاليا ومع تطوّر الوعي باستقلالية القضاء في الوسط القضائي تراجعت تلك الممارسة لتستبدل بالتدخل في القضاء باستعمال التعليمات الشفوية والتي تبقى في غالبها سرية وغير معلنة.
في مرحلة ثالثة أعقبت الثورة، لم يكن يتصور أن تتجاسر سلطة سياسية على أن توجّه تعليمات مكتوبة أو شفوية للمحاكم لما كان من مؤسسات تمنع ذلك ولما كان للقضاة من مناعة مردّها وعيهم بكون السياسي لا يملك لهم في مساراتهم المهنية ضرّا ولا نفعا. وكان بالتالي التدخل في القضاء لا يتم إلا عبر مسالك موازية يؤمنها قضاة اختاروا أن يخدموا أصحاب النفوذ طمعا في تعيين سياسي أو طلبا لحصانة خاصة تغطي على ما قد يكون من فساد مالي ينسب لهم.
ويذكر هنا منشور وزيرة العدل بحقبة الثمانينات مع ما فيها من غياب كامل لثقافة استقلالية القضاء ومن مجاهرة بالتدخل في القضاء تحت شعار إنفاذ سياسة الدولة. وقد يكون هذا المنشور هو التنزيل الأول لمقولة الرئيس سعيد “القضاء وظيفة” وهو جزء من الدولة وليس سلطة.
نقدر لهذا الاعتبار أنّ هذا المنشور يمثل ارتدادا حقيقيا على مكتسبات القضاء التونسي وخطرا داهما يتهدد فكرة استقلاليته وثقافتها.
[1] يفترض في اطار تقسيم الوظائف داخل الدولة ان تكون وزارة التجارة الجهة الحكومية المعنية بتعديل الأسعار و ضمان حسن التزويد بالأسواق ولكن الرئيس اختار ان يكون مخاطبه في الموضوع الإطارات الأمنية وهذا يذكر لحد بعيد باختياره السابق ان يكون اعلان حل المجلس الأعلى للقضاء من وزارة الداخلية وبحضور القيادات الأمنية .للتذكير بتلك الواقعة المماثلة ينقر هنا
[2] Un circulaire administratif
[3] الفصل 109
[4] الفصل 114
متوفر من خلال: