في أعقاب ثورة 2011، تعالتْ بفضل مناخ الحريات مطالبات بعلاج ظاهرة الفساد القضائي والذي تم التمييز فيه بين فساد إداري نُسب لمن تمّ الاصطلاح على تسميتهم بقضاة الإدارة أو التعليمات وآخر ماليّ خصّ من تربّحوا من وظيفتهم.
بدت دلائل الفشل في تحقيق ما كان يعتبر استحقاقا ثوريا خارج القضاء وفي القضاء خصوصا. فمن لوّح من المنتمين له بقوائم الفاسدين عاد ليتراجع عن تهديده دون تفسير، ومن جرّب ممن حكموا الإعفاءات كسبيل للتطهير تبيّن سريعا فساد مسلكه.
وكان أن انتهى الأمر في بداية سنة 2022 ومع تفجر فضيحة شبهات الفساد التي طالتْ كبير القضاة حينها وما رافق ذلك من تخاذل من مؤسسات القضاء في محاسبته، لرسم صورة يغيب عنها النّقاء ويطرح من ينظر إلى تفاصيلها السؤال عن نفوذ جديد لفساد قضائي زاد مداه وصار أكثر حصانة بفعل التضامن القطاعي والتقاء المصلحة بينه وبين نظيره السياسي ومراكز النفوذ. وهذا وما ورافقه من اتهامات تمّ تداولها بالتورط في التغطية على الإرهاب على نطاق واسع وفي إطار حملات إعلامية مركّزة ضد قضاء صامت خيّر ألا يدافع عن نفسه.
وعند تحقّق ذلك، رفعت سلطة ما بعد 25 جويلية 2021 شعار تطهير البلاد من الفساد وعادتْ لتربط نجاحها في ذلك بتطهير القضاء من الفساد. وقد شخّصت بهذا واقع الفساد في تونس بشكل غير مختلف فيه وبدتْ بفعل ربطها الحرب على الفساد بالقضاء منسجمةً مع فكرة المساءلة أكثر من الحكومات التي سبقتْها ممن أعلنت الحروب السابقة على ذات الآفة والتي انتهت جميعا للفشل لما اعترى آلياتها من فساد.
تاليا وعند تنزيل الشعارات حيّز الممارسة، كشفتْ ساحة معركة تطهير القضاء أنّ الوعد المغري لا يعكس ما ينجز فعليّا، إذ أنّ شعار الإصلاح كان سلاحه التفرّد بالقرار ومُبتغاه تطويع القضاء على نحو يهدد بصناعة فساد جديد.
استهداف قيمة القانون بدعوى مقاومة الفساد: المدخل الخاطئ
بداية تركيز نظام حكمه، كان الرئيس قيس سعيد يتطرق في جلّ اجتماعاته ولقاءاته للفساد القضائي، مُستعرضا في كلّ مرة واقعة أو أكثر تقيم الدليل عليه. وفيما يبدو تتويجا لذلك الجهد الاتصالي، دعا ليلة 05-02-2021 أنصاره للتظاهر ضدّ المجلس الأعلى للقضاء وللمطالبة بحلّه معتبرًا في كلمته تلك المؤسسة في حكم المنتهية وواعدًا بتطهير القضاء. نزع حلّ المجلس بقوة الأمر الواقع عن القضاة ضمانة كانت تمنع مؤاخذتهم خارج مسالك التأديب. وإذ أحدث المرسوم عدد 11 لسنة 2021 مجلسا مؤقتا محلّ المجلس الذي وقع حلّه، فإنه خصّص مكانة كبرى في صلبه لتنظيم ”إعفاء” القضاة أو عزلهم من دون محاكمة، وذلك تحت شعار تطهير القضاء. إلا أن رئيس الجمهورية عاد وأصدر بتاريخ 01-06-2021 المرسوم عدد 35 الذي نقّح المرسوم السابق مسندا لنفسه صلاحيّة إعفاء القضاة بناء على تقارير تصله ممّن سماها الجهات المخولة من دون المرور بمجلسه. وقد صدرت في ذات تاريخ التعديل قائمة تعفي 57 قاضيا من مهامهم بدعوى الفساد.
ثم وبتاريخ 30-08-2023، صدرت الحركة القضائية للسنة القضائية 2023-2024. وأجمع من تولّوا التعليق عليها بشكل عامّ على أن أهمّ ما ميّزها هو ما تضمّنته من نُقَل عقابية لقضاة من مراكز عملهم الأصلية على خلفية مواقفهم وانخراطهم في التحركات التي خاضها زملاؤهم احتجاجا على حلّ المجلس والإعفاءات. كما لفت هؤلاء إلى إحدى نتائجها وهي تنحية بعض أعضاء المجلس المؤقت المعينين بحكم مناصبهم من خلال إفقادهم هذه المناصب، مما أدى لاحقا إلى تعطيل نصاب المجلس بعد فقدانه مزيدا من أعضائه بفعل التقاعد أو الاستقالة. وفي سياق متّصل، أحيتْ وزيرة العدل صلاحيات كانت تخصّ نظراءَها مدة الجمهورية الأولى ولم تستعمل بعد الثورة، بحيث أصدرتْ بناء عليها قرارات بإيقاف قضاة عن العمل ونقلة آخرين من مراكز عملهم والحطّ من درجة آخرين زيادة على ترقية عدد آخر وإسنادهم خططا وظيفية. وهنا يطرح السؤال حول شرعية سندها خصوصا وأنها مسّت المسار المهني للقضاة بناء على نصّ قانوني نسخ في الجزء المتعلّق منه بهذا الغرض بمفعول جملة التشريعات التي سنّت بعد الثورة بعدما أسندت صلاحيات إدارة المسار المهني للقضاة لمجالسهم.
وعليه، بدا واضحا أنّ ضمانات الاستقلالية التي وفّرتها الجمهورية الثانيّة للقضاة وحصّنت مسارهم المهني إزاء تدخّل السلطة التنفيذية، كانت أول ما استهدفه النظام الجديد في حربه على الفساد ليمنح ذاته سلطة مطلقة في عقاب القضاة ومجازاتهم. وهو بهذا جعل من القضاء امتدادا له يدخل ضمن بنائه الجديد، بما يطيح بقيم المؤسسة وقيمة دولة القانون ويمكّنه من صياغة تعريف جديد للفساد يخدم مشروعه.
الفساد في البناء الجديد .. بعض منه ما يسمى استقلالية
شملت الإجراءات العقابية التي طالت القضاة تحت شعار التطهير عددا ممّن تحوم حولهم شبهات تربح من الوظيفة. إلا أنه قد يستفيد هؤلاء من تجاوز المسار التأديبي لإسقاط التدابير المتخذة بحقهم. فضلا عن ذلك ولكون النقلة من مركز عمل إلى آخر يواصل معها المعني بها مزاولة عمله القضائي، فإن استعمالها كعقوبة مقنعة لفساد محتمل يبدو بمثابة تغطية عليه. وربما تستعمل في ابتزاز المعني به وبالتالي استضعافه وإلزامه على مزاوجة فساده المالي بآخر يتمثل في الحكم وفق هوى الحاكم طمعا في مواصلة التغاضي عن مؤاخذته.
في جانب آخر من الموضوع يبتعد عن الفساد بمفهومه المتداول، يكشف ما ورد في خطاب رئيس الجمهورية حول الفساد القضائي وبخاصّة الخطاب الذي ألقاه عند إعلانه إعفاء 57 قاضيا وما أثاره الإعلام والمنظمات الحقوقية بعد ذلك، عن كون حرب النظام على الفساد استهدفت في جانبها الأهم قضاة لم ينسجموا معه فصدرتْ عنهم مقررات في قضايا تعهّدوا بها خالفتْ انتظاراته، فكانوا بذلك عرضة لعقابه.
ومثال ذلك ما نسبه الرئيس لمن تعهّدوا بقضايا تعلّقت بمعارضين وصفتْ بالإرهابية من “تعطيل تتبّع ذوي الشبهة في ملفات إرهابية والتصدي لتطبيق الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية“ و”إبقاء مشبوه فيهم في قضايا ارهابية جدّية بحالة سراح“ و”التصدي للقيام بتحريات أمنية“ و”عدم تمكين الشرطة العدلية من القيام بتفتيش مقرّات سكنى عناصر إرهابية“ و”التصدي للقيام بتحريات أمنية”.
ومنه أيضا ما رصدته منظمات حقوقية في دراستها للتبعات الجزائية التي أثيرت في حق المعفيين من استعمال لوقائع غير مؤيدة تستند لشكايات أو لتقارير أمنية كانت وقائعها على علاقة باجتهادات قضائية أو مواقف على علاقة بالشأن العام أو باستقلالية القضاء، لتوجيه تهم للمعنيين من القضاة بالإرهاب أو بالفساد.
ويستخلص من هذا أن السلطة التي رامت استعمال القضاء كعنصر قوة تستند لها لتحسم صراعها مع معارضيها أو المحسوبين على العشرية السابقة اصطدمت بما تشكل من ثقافة استقلالية به وانتهت لكون هذه الثقافة فسادا يمنعها من صناعة القاضي الذي ينخرط في مشروعها وأنها الفساد الأوْلى بالمحاربة انتصار لقيم قضائها الجديد قضاء” القضاة الشرفاء” كما تسميهم.
استعمال النقلة كعقوبة مقنّعة لفساد محتمل يعني تغطية عليه وطريقة لابتزاز القاضي
رسالة السلطة للقضاة: كونوا شرفاء
كشف تحقيق نشر بموقع إنكفاضة بتاريخ 20-07-2022 حول خطب الرئيس قيس سعيد خلال الفترة الفاصلة بين 25 جويلية 2021 تاريخ انفراده بالسلطة و30 جوان 2022 عن أن الحديث عن القضاء استغرق منها 4 ساعات و30 دقيقة منها ساعتان و53 دقيقة كان فيها الحديث متشنّجا. بعد تلك الفترة، تراجع حضور القضاء فيما توجه به من كلمات وغاب أو كاد الحديث عن فساد القضاة ليحلّ محله تطرّق إلى قضايا يُشار لها تلميحا صدرت فيها قرارات لم تكن كما يجب (من نظر السلطة) أو تم تأخيرها لدواعٍ إجرائية. وقد دأب سعيّد في كل مرّة يتطرّق فيها إلى هذه القضايا على حثّ القضاة الشرفاء وهم الأغلبية فيما يتم التأكيد عليه على الانخراط أكثر في معركة تطهير البلاد والبناء الجديد.
وتكشف المقاربة بين الحقبتيْن من الخطب الرئاسية عن كون بداية الثانية كان بمثابة إعلان النجاح في تحقيق هدف الأولى أي مواجهة ما تعدّه السلطة فسادا والانطلاق في الثانية أي التعويل على القضاة الشرفاء. ويصوّر هؤلاء عموما على أنّهم وطنيون ينخرطون في مشروع النظام ولا يهتمّون بالإجراءات والقوانين التي كتبها فيما سبق ”الفاسدون على المقاس” ويبذلون الجهد اللازم في التصدي للمتآمرين والفاسدين والمتعاونين مع الخارج ويحاربون في نفس الوقت المحتكرين ويحاكمون بصرامة من لا يقبل من الفاسدين الجنوح للصلح الجزائي. فيكونون بذلك قضاة النظام وهم في تعريفهم من “تتحدد وظيفتهم وتتطوّر في ضوء حاجيات النظام” إيمانا بأفكاره أو خوفا من سطوته وبخاصة بعدما استبدل هذا النظام الضمانات القضائية التي منحتهم إياها الثورة بهشاشة قصوى، قوامها إمكانية إعفائهم في أي حين ومن دون أية محاكمة.
نشر هذا المقال في الملف الخاص بالعدد 29 من مجلة المفكرة القانونية – تونس
لقراءة الملف بصيغة PDF