فور الانتهاء من الانتخابات النيابية، اختار التيار الوطنيّ الحرّ مقاربة مختلفة في قضية تفجير المرفأ. فبعدما كان حريصا على إعلان تمسّكه بحماية التحقيق فيها، بات خطابه يتمحور حول مظلومية توقيف مدير عام الجمارك بدري ضاهر. وقد بلغ هذا الخطاب أوجّه في الذكرى الثانية للتفجير في 4 آب 2022 ومن بعدها حيث طغت قضية الموقوفين عليه في موازاة تهميش ذاكرة الضحايا تماما. ولم ينقضِ شهر من هذه الذكرى إلا وتبلورت أهداف واضحة لهذا الخطاب بلغت أوجّها مع بروز بدعة تعيين قاضٍ ثانٍ (القاضي الرديف) للنظر في الطلبات الملحّة ومنها طلبات الموقوفين بإخلاء سبيلهم. ومن الجدير ذكره أن هذا الانزلاق في الأولويات والخطاب ليس جديدا بل نكاد نشهده بصورة منتظمة في مجمل الحالات التي قد تجد قوة سياسية مصالحها في تناقض مع حقوق الضحايا أو سير العدالة. وغالبا ما تكون الوصفة الفضلى التشكيك بآليات المحاسبة والقضاء والعمل على إبراز مظلومية المدعى عليهم في موازاة افتعال انقسامات ذات طابع فئوي وطائفي في مقاربة القضية، انقسامات تطغى على ذاكرة الضحايا وتكاد تطمسها تماما.
وفي حين تناولت الحلقة الأولى من هذا المقال الخطوات المتّبعة لقلب الذاكرة والتشويش على المسؤوليات، وتناولت الحلقة الثانية الملامح والمعطيات التي يستشفّ منها أنّ هذه الخطوات أتت خدمة لغايات متعددة في إطار تسوية سياسية، ننشر هنا تعليقنا على اقتراح قانون تقدّم به نوّاب من كتلة لبنان القوي في 29 أيلول ويذهب في الاتّجاه نفسه لجهة تبدية إخلاء سبيل الموقوفين وعلى رأسهم بدري ضاهر على أي موضوع آخر في التحقيق. واللافت أيضا أن هذا الاقتراح جاء خارج أيّ إصلاح قضائي فعلي في ما خصّ المحاكم الاستثنائية وعلى رأسها المجلس العدلي (المحرّر).
بعد أقل من أسبوع على إفشال تعيين قاض رديف، قدّم نواب في كتلة لبنان القوي اقتراح قانون يتيح في حال إقراره تحقيق نفس النتيجة المرجوة من المحقق الرديف. ومن أهم ما تضمنه الاقتراح: (1) إنشاء هيئة اتّهامية تنظر في الطعون المقدمة ضد بعض قرارات المحقق العدلي، وتحديدا القرارات المتعلّقة بالتوقيف وبإخلاء السبيل، (2) يترأس الهيئة قاض من الدرجة 20 على الأقل وعضوية قاضييْن من الدرجة 15 على الأقل يعينون بموجب مرسوم يصدر بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى، (3) تستحدث وظيفة قاض رديف لرئيس الهيئة المنشأة يتولى ترؤسها في حال لم تقم الهيئة بالبت بالمراجعات أمامها ضمن مهلة أسبوع. (4) تكون قرارات الهيئة الاتّهامية المناقضة لقرارات المحقق العدلي، قابلة للطعن أمام محكمة التمييز.
وفي حين يتبدى أن بإمكان الهيئة أن تعيد النظر في قرارات ومذكرات التوقيف التي كان أصدرها المحقق العدلي قبل منعه من العمل (ومنها مذكرة توقيف بدري ضاهر)، فإن الاقتراح لم يتطرّق قط إلى مسألة توقيف المحقق العدلي عن العمل.وقد وقع الاقتراح بمعية باسيل، نواب من كتلة لبنان القوي هم فريد البستاني وندى البستاني وجورج عطالله وغسان عطالله وسامر التوم وسيزار أبي خليل.
وقبل المضي في عرض أبرز ملاحظاتنا على هذا الاقتراح، تجدر الإشارة إلى أن وزير العدل هنري خوري كان اقترح من قبل إنشاء هيئة مشابهة للنظر في استئناف قرارات المحقق العدلي، وذلك في إطار تسوية لإقناع وزراء الثنائي أمل – حزب الله بالعدول عن مقاطعة اجتماعات الحكومة. إلا أن هذا الاقتراح لم يؤخذ به آنذاك.
التقاضي على درجتين، مبدأ ملزم أم وسيلة لتهريب المدعى عليهم؟
على عكس ما ذهبت إليه أسبابه الموجبة لجهة ضمان حق الدفاع ومبدأ التقاضي على درجتيْن، فإنّ الاقتراح يحصر مفهوم التقاضي على درجتيْن بالقرارات المتعلقة بالتوقيف وإخلاء السبيل فقط، من دون أن يكون للهيئة المزمع إنشاؤها أي صلاحية للنظر في قرارات الدفوع الشكلية أو القرارات المتصلة بالتحقيق أو بالقرار الاتّهامي الذي سيصدر عن المحقق العدلي عند انتهائه من التحقيق. وعليه، بدا اختصاص الهيئة منقوصا بالنسبة إلى اختصاص الهيئات الاتهامية. وما يزيد من قابلية هذا التوجه للانتقاد هو أن المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي ذكرها مقدّمو الاقتراح ضمن أسبابه الموجبة قد نصّت على أنّه “لكل شخص أدين بجريمة حق اللجوء، وفقا للقانون، إلى محكمة أعلى كيما تعيد النظر في قرار إدانته وفى العقاب الذي حكم به عليه.” بمعنى أن المادة جاءت أصلا في سياق الحديث عن أحكام إدانة صادرة عن محاكم وليس عن قرارات قضاء التحقيق. فما معنى أن تذكر هذه المادة لينتهي مقدمو الاقتراح إلى حصر تطبيقها على قرارات التحقيق من دون قرارات الحكم؟ فكأنما يثار هذا المبدأ كمدخل لإنشاء هيئة قدرة على فسخ قرارات ومذكرات التوقيف الصادرة في قضية المرفأ أكثر مما يثار كباب إصلاح يهدف إلى ضمان المحاكمة على درجتين.
موقف من المحاكم الاستثنائية أم تعزيز لوجودها؟
فضلا عمّا تقدم، يأتي الاقتراح بمعزل عن أيّ تفكير إصلاحيّ بشأن المحاكم الاستثنائية ومبادئ المحاكمة العادلة على الرغم من الاعتداد بهذه المبادئ في الأسباب الموجبة. فالاقتراح في حال إقراره يؤدّي إلى زيادة عدد الأجهزة المتّصلة بالمجلس العدلي، بما يؤدّي عملياً إلى تعزيز هيكلية محكمة استثنائية تتّفق مبادئ القانون العام على وجوب إلغائها. فالمجلس العدلي هو بحد ذاته محكمة استثنائية تخرج عن مبدأ القاضي الطبيعي وتتعارض مع مبادئ المحاكمة العادلة. وفي حين كان من المُمكن التفكير في إجراء تعديلات على أصول المحاكمات أمام المحاكم الاستثنائية (المجلس العدلي أو المحقّق العدلي أو المحكمة العسكرية) في اتّجاه ضمان المحاكمة العادلة أمامها، فإنّ ذلك لا يصحّ إلّا إذا اندرج ضمن خطة لتحويل هذه المحاكم إلى محاكم متخصّصة (غير استثنائية) وأتى ضمن خطّة إصلاحية واضحة وشاملة.
وما يزيد من قابلية الاقتراح للانتقاد هي استثنائية طريقة تعيين أعضاء الهيئة، بحيث يعيّن هؤلاء بموجب مرسوم بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى. فآليّة التعيين هذه تؤدّي عمليا إلى منح السلطة التنفيذية صلاحية إجراء التعيينات بعد تهميش دور هذا الأخير تماما طالما أن رأيه غير ملزم. ومن شأن هذا الأمر أن يمكّن هذه السلطة من التحكم بهوية أعضاء الهيئة وضمان ولائهم. ولإدراك خطورة هذا التوجه، يكفي مقارنته بآلية تعيين المحقق العدلي والتي تتمّ وفق القانون الحالي بموجب قرار من وزير العدل بعد أخذ موافقة مجلس القضاء الأعلى.
وما يزيد من هامش التحكم هي فكرة تعيين قاضٍ رديف لرئيس الهيئة، يكون له الحلول محله حكما في حال عدم بتّ الهيئة للمراجعات المقدمة إليها ضمن مهلة أسبوع. ويفهم من ذلك أن حلول الرديف محل الأصيل يحصل أيا كانت أسباب التأخير، حتى ولو كانت خارجة عن إرادة القاضي كأن يكون موضوع طلب ردّ أو يمتنع العضوان الآخران عن حضور جلسات الهيئة أو التوقيع على قراراتها. وعليه، لا يمنح الاقتراح في حال إقراره السلطة السياسية هامشا واسعا في تعيين موالين لها وحسب، بل أنه يجعل قضاة الهيئة وبخاصة رئيسها أكثر هشاشة وقابلا للتبديل بيُسر وسهولة. ومجرد طرح فكرة القاضي الرديف على هذا الشكل إنما يؤدي إلى نسف مبدأ القاضي الطبيعي واستقلالية القضاء ويجعلنا أمام وضع أكثر استثنائية مما هو الوضع الحالي. وعليه، بدل أن يخفف الاقتراح من استثنائية المجلس العدلي وأجهزته، يأتي ليعزز من استثنائيته بإنشاء هيئة وفق أصول استثنائية وعلى أن يكون رئيسها في وضع هشاشة استثنائية أيضا.
وما يزيد من هذه الاستثنائية أيضا هو اشتراط أن يكون أعضاء الهيئة من درجات مرتفعة (20 درجة وما فوق بالنسبة إلى رئيس الهيئة ورديفه أي ما يفترض وجود أقدمية 40 سنة و15 درجة وما فوق بالنسبة إلى أعضائها مما يفترض وجود أقدمية تتراوح بين 24 و34 سنة بعد احتساب الدرجات الممنوحة استثنائيا). واشتراط هذه الدرجة العالية هو أيضا جدّ استثنائي طالما أن قانون تنظيم القضاء العدلي يشترط على الرئيس الأول لمحكمة التمييز (وهو أعلى قاض) أن يكون من الدرجة الرابعة عشرة وما فوق في حين أنه يشترط على رئيس غرفة في محكمة التمييز أن يكون من الدرجة العاشرة وما فوق. فلمَ يشترط هؤلاء أقدمية 12 سنة إضافية لرئيس الهيئة الاتهامية بالنسبة إلى القاضي الذي يشغل أعلى رتبة في الهرم القضائي؟ ثم، كيف يعود أصحاب الاقتراح ليجعلوا قرارات هذه الهيئة قابلة للطعن أمام محكمة التمييز التي قد لا تتعدى درجة رئيسها 10 درجات؟ وألا يناقض ذلك ما نقلوه بأنفسهم ضمن الأسباب الموجبة عن العلّامة الفرنسية Perrot لجهة أنّ “القضاة معرّضون لارتكاب الأخطاء…، لذا فأنّه يكون من الأفضل أن يعيد النظر في المراجعة قاض أعلى درجة وعلى دراية وخبرة لكي يصحح الأخطاء التي تكون قد اعترت الحكم الأول..”.
استعادة بدعة القاضي الرديف أو الجوكر
لا نعرف حتى اللحظة إذا كان الهدف من هذا الاقتراح تأمين بديل عن فكرة القاضي الرديف للمحقق العدلي والتي بادر إليها وزير العدل (بدل ضائع) أم إنشاء هيئة اتهامية في كل الحالات. لكن اللافت ثبات فكرة القاضي الرديف الذي يكون مهيئا للحلول محلّ القاضي الأصيل فور تعذر قيام هذا الأخير أو تأخره في القيام بعمله وهي الفكرة البدعة التي ليس لها أي أساس أو مثيل في القوانين المعمول بها. ومن شأن هذا الأمر عند تحوله إلى سابقة أن يعمق من هشاشة القضاة وأن يسهل عزلهم خلافا لإرادتهم بما يناقض أحد أهم معايير استقلالية القضاء.
ولا نبالغ إذا قلنا أن مآل هذه الفكرة هو تملك السلطة السياسية “جوكر” بإمكانها استخدامه لعزل قضاة من عدد من المراكز القضائية، كلما رأت حاجة لذلك.
اقتراح يسمح بخروج الموقوفين مع إبقاء التحقيق مجمّدا
أخيرا،من اللافت أن الاقتراح يسعى إلى إنشاء هيئة للنظر في استئناف قرارات المحقق العدلي المعطّل عن العمل منذ أشهر من دون أن يتطرق من قريب أو بعيد إلى كيفية إعادة سير التحقيق. وبذلك، ينتظر أن يكون مؤدّى الاقتراح في حال إقراره هو نفسه مؤدّى تعيين قاض رديف وهو تمكين الموقوفين والمدعى عليهم من طلب الإفراج عنهم أو تقديم طلبات رجوع عن مذكرات التوقيف، من دون أن يتحرر ملف التحقيق من جموده. ومن هنا، يعكس الاقتراح نفسا تسوويا قوامه فتح زاروب لتحرير الموقوفين والمدعى عليهم من مذكرات توقيف غيابية مع إبقاء طريق التحقيق مغلقا تماما. وما يزيد موقف مقدمي الاقتراح قابلية للانتقاد هو أنهم لم يعلنوا أي موقف إيجابيّ من الاقتراح المقدم مؤخرا من كتل نيابية عدة بهدف تمكين المحقق العدلي من مواصلة عمله رغم تقديم طلبات ردّ ضده. ويشار هنا إلى أن أي تأييد من كتلة لبنان القوي لهذا الاقتراح سيضمن غالبية واسعة لتمريره في أول جلسة نيابية بما يعيد التحقيق إلى مساره ويضمن للضحايا والموقوفين إمكانية استعادة حقوقهم بالتقاضي. أما وأنهم لا يفعلون، فإن ذلك يطرح مزيدا من الأسئلة المشروعة حول انخراط هؤلاء في مخططات ضرب التحقيق ومعه حقوق الضحايا بالعدالة والمجتمع بالحقيقة.