لم يكن مجلس القضاء ولا قراراته الترتيبية على جدول أعمال مجلس الوزراء الذي أداره الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 30-12-2021، أمر لم يمنع من تخصيص الجانب الأكبر من كلمة افتتاحه للحديث عن فساد مجلس القضاء واستغلال أعضائه لسلطتهم الترتيبية لفرض حوافز لهم لا حق لهم فيها. لم يكن خطاب سعيّد هذا جديدا، فهو بمناسبة نقاش مرسوم ميزانية الدولة لسنة 2022 كان قد افرد مسألة مِنَح أعضاء مجلس القضاء بجانب كبير من خطابه وقد كان حينها اعتبرها من أبواب فساد الموازنة العامة. ولكن كلامه هذه المرة كان أكثر وضوحا في طابعه التحريضي بما دفع للاعتقاد أنه يمهّد لحلّ مرتقب لمجلس القضاء.
أول ردود الفعل جاءتْ في بيانٍ صدر عن المجلس الأعلى للقضاء في ختام جلسته العامّة وذلك مساء يوم 05-01-2022. وقد عبّر المجلس في هذا البيان عن رفضه المبدئيّ “لمراجعة وإصلاح المنظومة القضائية بواسطة المراسيم في إطار التدابير الاستثنائية”. كما دعا “القضاة إلى مواصلة التمسّك باستقلاليّتهم وتحمّل مسؤوليّاتهم ” محذرًا من “خطورة عمليات التشويه والضغط التي تطال القضاة” لتنتهي بالقول بكون كل قراراتها الترتيبية تمت في إطار الدستور والقانون. وقد أكد خطاب المجلس ذاك مضيّه قدما في رفض ما اعتبره تدخلا من الرئيس وحكومته في القضاء وهرسلة للقضاة وانخراطه بالتالي فيما يمكن أن نسميه معركة القضاء.
معركة القضاء: خلفياتها
يعزو أنصار الرئيس حديثه الدائم عن القضاء لما يقولون أنه ايمانه بأهمية القضاء ويستدلون على ذلك بقوله “قضاء عادل خير من ألف دستور”. وهم يبرّرون انتقاده للقضاة بتخاذلهم في محاربة الفساد. وتحضر هنا صفحات التّواصل الاجتماعي الدّاعمة لسياسات من يحلو لأنصاره أن يسمّوه قيصر تونس والتي يدار عدد منها من خارج تونس كمنصات للتشهير بالقضاة المعنيين بتلك التهم وللتبشير بإصلاحات موعودة من أهم فصولها كنس هؤلاء من القضاء وحل مجلس القضاء.
في الجهة المقابلة، يكاد المجتمع السياسيّ والحقوقيّ التونسي يجمع على كون خطاب الرئيس حول القضاء وبعيدا عن تبريره المعلن ليس إلا محاولة منه لتطويعه. وهو الموقف الذي تبنته لائحة الهيئة الإدارية للاتّحاد العامّ التونسي للشغل الصادر بتاريخ 04-01-2022 التي أدانت هرسلة القضاء. كما تبنّته عديد البيانات التي صدرتْ قبل ذلك عن الأحزاب السياسيّة والمنظمات الحقوقية وتحدّثت بوضوح عن تدخّل منه في القضاء .
القضاء المهني: أصل المعركة وهدفها
يُعيب سعيّد على القضاء عدم جدّيته في ملاحقة من يمسُّون باعتبار مؤسّسات الدّولة وفي مقدّمتها رئاسة الجمهورية. كما أنّه يعزُو ضعف أدائه في مكافحة ما يُسمّيه بالفساد السياسي لتواطؤ قضاة مع السياسيّين الفاسدين. وقد دعا سعيّد القضاة الشرفاء للانضمام له من أجل الإصلاح الذي يعد به في ذات حين اتهامه مجلس القضاء بإجراء تعيينات بمحاكم تونس خصوصا تمنع من تتبع الفاسدين. وهذا الخطاب إنّما يدلّ بوضوح على أنّ ما يدعو له من إصلاح لتركيبة مجلس القضاء سينتهي متى تحقق إلى تطهير القضاء من القضاة المتهمين منه بالتسيس أولا وإلى إعادة توزيع الخطط القضائية ثانيا بما يمكن من تحقيق ما يطلب من انسجام قضائي معه. وقد يكون هنا إصراره على نفي صفة السلطة على القضاء وما بادر له ووزيره للداخلية من استهداف للنيابة العمومية بمحكمة العاصمة تونس خير دليل على ذلك.
نيابة تونس: نموذج عن استقلالية تزعج
في نقطة إعلاميّة كانت مخصّصة لتقديم الرواية الرسمية لواقعة وضع نائب رئيس حركة النهضة نور الدين البحيري والإطار الأمني السابق فتحي البلدي تحت الإقامة الجبرية عقدت بتاريخ 03-01-2022، ذكر وزير الداخلية أنّ أبحاثا عدليّة تباشرها فرقة أمنية كشفتْ عن تدليس لجوازات سفر وشهادات جنسية استفاد منه أجانب على علاقة بالإرهاب. كما صرّح أنه طلب بمجرّد علمه بذلك من النيابة العمومية بمحكمة تونس (بواسطة وزارة العدل) اتّخاذ إجراءات في الموضوع. لكنها لم تفعل ذلك دون أي مبرر موضوعي بما دفعه من موقع المسؤولية والخوف على المصلحة الوطنية لاتخاذ قراره. بعد يوم من ذلك، أصدرتْ وكالة الجمهورية بتونس بيانا فنّد ادّعاء الوزير وأكد أن المحضر المتحدث عنه تعهد به قضاء التحقيق ويتم البحث فيه طبق القانون.
في سياق يبدو متصلا، يُذكر أنّ الرئيس استند في حربه على غيره من الفاعلين السياسيين لمقولة النزاهة في مقابل الفساد فتمسك بطلب تفعيل تقرير محكمة المحاسبات في حقهم وادّعى أن ذلك العمل الرقابي يرقى لمرتبة العمل القضائي وهو يثبت أن خصومه تمتعوا بتمويلات غير مشروعة في حملاتهم الانتخابية ويجب ترتيب الآثار الجزائية عليه.
كان سعيّد هنا يقدر أن ما يدعو له من ملاحقات يتعلق بغيره. وفي حين كشفَ بيان النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس الذي صدر بتاريخ 05-01-2022 أنّها ادّعت على عدد من مُرشّحي الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة لسنة 2019 أمام المجلس الجناحي بالمحكمة الابتدائية بتونس من أجل ارتكاب جرائم مخالفة تحجير الإشهار السياسيّ والانتفاع بدعاية غير مشروعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والدّعاية خلال فترة الصّمت الانتخابي، فهو ذكر أيضا أنها لم تحلْ عددا آخر ممن بيّنت الأبحاث شبهة تورّطهم في ذات الجرائم “لأسباب تتعلّق ببعض الإجراءات الخاصة بإثارة الدعوى العمومية المرتبطة بصفة المخالف واستكمال بعض الأبحاث”. وقد فهم من ذلك أن سعيّد نفسه هو المقصود بهذه التتبعات على خلفية استفادته بدعم هام لصفحات وتواصل اجتماعي في حملته الانتخابية جانب منها يدار من خارج تونس (حسبما ورد في تقرير محكمة المحاسبات) وأن حصانته كانت سبب منع ملاحقته. وربما كان هذا البعد من البيان ما دفع الرئيس في ذات اليوم إلى تحميل مجلس القضاء المسؤولية عن تعيين مسؤولين قضائيين قصّروا بالمحاسبة بمحاكم تونس.
مجلس القضاء مظلة تمنع عودة “الانسجام”
في مرحلة أولى، طرح الرئيس فكرة تعديل القانون الأساسي لمجلس الأعلى للقضاء في اتجاه يغير تركيبته والتي قال أن ضبطها التشريعي كان نتيجة لحسابات سياسية وانتهت لفرض غير القضاة في مجلسهم. وقد تعهّد دفعا لتهمة التّدخل في القضاء بأن يتم ذلك في إطار التشاور مع الشرفاء من القضاة وهو ما كلف به وزيرته للعدل. وفي حين بدا ذاك الخطاب مغريا لشقّ من المشهد القضائي لكونه يعيد إحياء مطالبه السابق، فإنه لم يقنع مجلس القضاء وشقا آخر هامّا منهم تمسكوا برفض كل مسّ بضمانات استقلالية القضاء خلال الفترة الاستثنائية.
وقد بدا ما تحقّق للقضاة من ضمانات استقلالية عاملا أساسيا في ضمان تمسك طيف كبير من الهيئات القضائية والقضاة باستقلاليتهم بصورة فعلية والدفاع عنها. ومن شأن الحرص على هذا المكسب الهامّ أن يزيد من المخاوف من خطورة فقدانه وتحديدا من خطورة نجاح الرئيس في افتكاك مجلس القضاء والإطاحة ببناء كان له فضل في تطوير قضاء مهني مستقل حلمت به تونس طويلا.
1 للإطلاع على نص البيان كاملا اضغط هنا
2 ورد بالبند الرابع من هذا البيان ” نشدّد على ضرورة احترام الحقوق والحريات وإعلاء شأن القانون والحرص على ضمان استقلالية القضاء ووقف هرسلة القضاة وندعو إلى إصلاح عاجل للمرفق القضائي حتّى يؤدّي دوره في إحلال العدل وإنفاذ القانون وضمان المحاكمات العادلة، ونؤكّد على أنّ زمن الإفلات من العقاب قد ولّى وأن لا أحد فوق المساءلة والمحاسبة مهما كان موقعه وانتماؤه وأنّ الوقت قد حان لفتح ملفّات التسفير والاغتيالات السياسية ونهب المال العام وغيرها.” للاطلاع على نصه كاملا اضغط هنا
3 رحبت نقابة القضاة التونسيين بهذه الدعوة وقد اعتبرت رئيستها اميرة عمري ان تونس في لحظة تاريخية فارقة وانها تعيش فرصة اصلاح داعية لتشريك هيكلها النقابي في ذلك
4 بيان 04 -11-2021 الصادر عن المجلس الأعلى للقضاء
5 جمعية القضاة وعدد هام من القضاة