لم يكن مخطّطاً أن يصدر هذا العدد في فترة الحراك هذه. لا بل تأجّل صدوره حوالي شهر ونصف ليحظى بما يستحقّ من اهتمام. لكن، وأيّاً كان مآل هذا الحراك، يجدر أن نسجّل لذوي المفقودين موقعاً تأسيسياً في أيّ مسعى لبناء دولة المواطنة.
فحين استثنى قانون العفو من الجرائم السياسية المعفاة، جرائم الإغتيال المرتكبة ضد القادة السياسيين والدينيين، عرفنا أن القيمة العليا في نظام ما بعد الحرب هو “القائد” أو “الزعيم” وضمناً قادة الميليشيات خلال الحرب. وتالياً، بات واضحاً أن قانون العفو لا يمنح هؤلاء عفواً أبيض وغير مشروط مهما كانت ذنوبهم، إنما يدعو إلى التعامل معهم على أساس أنهم مقامات تستحق التمييز والتبجيل بمعزل عما ارتكبت أياديهم من قتل ونهب. في ظل قانون كهذا، بدا واضحاً أنّنا بتنا في نظام كاريسماتيّ، نظام الزعماء، نظام المقامات. ومع هذا التحوّل، كان من الطبيعيّ أن تتحوّل ذاكرة الحرب إلى ذاكرة أبطال بما فيها من استقطاب وتطييف، وأن تضمحلّ تماماً ذاكرة الضحايا بما تتيحه من إدراك ووعي للقواسم الإنسانيّة والاجتماعيّة المشتركة.
خلال العقود التي تلت انتهاء الحرب، كان الزعماء يوطّدون حكمهم وسطوهم على موارد لبنان. وفيما تلاشت تدريجياً حيويّة القوى الاجتماعيّة في مكافحة نظامهم هذا، شكّلت حركة ذوي المفقودين علامة الاستفهام الأكثر بلاغة حول الأسس التي انبنى عليها. ففيما نجح النظام الجديد في استقطاب المهجّرين ومعوّقي الحرب من خلال برامج المساعدة الاجتماعية والتي تبقى الواسطة والاستتباع أفضل مفاتيح الوصول إليها، انبنت قضية ذوي المفقودين برمتها على مطلب “المعرفة”، معرفة مصائر هؤلاء. ومن هذا المنطلق، وجد هؤلاء أنفسهم منذ البداية في موقع النقيض للنظام السّائد القائم على طمس الحقائق، فباءت محاولاتهم عموماً بالفشل. واذ شكلت قضية خطف محيي الدين حشيشو أمام محكمة جنايات صيدا القضية الرمز في ملاحقة مسؤولي الحرب، فإن المجموعات الممثلة لذوي المفقودين حملت ابتداء من 2009 قضيتها الأساسية إلى حلبة القضاء. وفي آذار 2014، أصدر مجلس شورى الدولة قراراً تاريخياً بإعلان حقّها بالمعرفة حقاً طبيعياً لا يقبل أي استثناء أو تجزئة. من هذه الزاوية، شكل هذا القرار منعطفاً تأسيسياً لحقبة جديدة، لنظام جديد، نظام قيمته العليا هي الإنسان.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.