حرائق الغابات في تونس: التحوّل المَناخي وضعف الدولة


2024-08-21    |   

حرائق الغابات في تونس: التحوّل المَناخي وضعف الدولة
المصدر: فتحي بلعيد (أ.ف.ب)

تَصاعدَت وتيرة الحرائق في تونس، خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي أدّى إلى خسائر وأضرار كبيرة على المستوى البشري والبيئي والاقتصادي. وشَملَت الحرائق أساسا الثروة الغابية التي تُقدّر مساحتها الجملية بـ 5.6 مليون هكتار، وتتخلّلها عديد المنفرجات[1] الآهلة بالسكان (قرابة مليون ساكن). وتُوجد بهذه المنفرجَات مساحَات مزروعة متنوّعة من حبوب وبقول وأشجار مُثمرة أثّرت  فيها الحرائق، ممّا أدّى إلى تزايد معاناة سكّان المنفرجات والمناطق المتاخمة لها. وتَتَمركز المنطقة الغابية أساسا بالشمال الغربي والوسط الغربي بسلسلة جبال خْمِير ومَقعد. هذا ويتميّز الغطاء الغَابي التونسي بوجود كثيف ومتنوّع للأشجار كـ”الزّان” و”الفلّين” و”البلّوط” و”العَرعَار” و”السّرول” و”الكاليتوس” و”الصنوبر الحَلبي” و”الصنوبر البحري”، إلخ. وتُعرف هذه الأشجار بقابليتها السريعة للاحتراق. وهكذا تَكون الغابات عرضة لشتّى أنواع الحرائق مثل الحرائق السطحية التي تشمل الأحراش والحشائش السفلية وحرائق التربة وحرائق رؤوس الأشجار والمنطقة التاجية، التي تُعدّ سريعة الانتشار[2].

وتُطرح عديد الأسئلة حول تسارع هذه الظاهرة سواء في تونس أو المنطقة المتوسطية والعالم، وكذلك حول الأسباب الرئيسية لاندلاعها إن كانت طبيعية أو بشرية،  والسّبُل المُمكنة للحدّ منها.

الغابات  المتوسطية عرضة للحرائق منذ القديم

تُحرَق سنويا مساحة تتراوح بين 750 ألف و800 ألف هكتار في العالم حسب منظمة الأغذية والزراعة، وتكون الغابات المتوسطية أكثر عرضة للحرائق نظرا لكونها على شكل طبقات وتتأثر أكثر بعامل الجفاف، كما يتميµز غطائها النّباتي بتشكيلاته المتنوّعة عكس الغابات الاستوائية المعروفة بأحادية الفصائل النباتية[3]. وكانت الحرائق مألوفة منذ الزمن القديم في غابات المتوسط، وبخاصة قِسمه الجنوبي المعروف بمناخه شبه الجاف. في اليونان شملت الحرائق غابات ومجالات رعوية في عدّة جزر، ومسحت في أوت 2021 سبعين ألف هكتار، وتمّ إحصاء أكثر من 580 حريق خلال ثمانية أيام  وإجلاء 19 ألف شخص. وفي سنة 2017، شَملَت الحرائق البرتغال وإسبانيا. كما عرفت الجزائر خلال سنتي 2020-2021 حرائق كبيرة شمِلَت مساحات شاسعة، وكانت خسائرها فادحة أدت إلى وفاة 40 شخص  وإجلاء 1500 من المناطق المتضررة، إضافة إلى الخسائر الحيوانية الكبيرة. وفي 26 جويلية 2023، أجبرت الحرائق المنتشرة في جزيرة صقليّة على إغلاق مطار باليرمو وقامت السلطات الإيطالية بإخماد  1400 حريق في مدّة زمنية وجيزة لا تتجاوز ثلاثة أيام.

أما في تونس فقد بَلغَ معدّل الحرائق، بين سنوات 1985 و2016، 156 حريقا في السنة، بمساحة 1300 هكتار سنويّا حسب أستاذ الجغرافيا الطبيعية منجي بورقو.[4] وازدادَ عدد الحرائق في السنوات الفاصلة بين 2019 و2021، ليَصلَ إلى 190 حريقا في السنة، كانت أساسا بمناطق خْمير ومقعد والتّل العالي والشمال الشرقي بدرجة أقل.

وحسب قاعدة بيانات إدارة الغابات، فقد بلغَ عدد الحرائق، سنة 2020، 459 حريقا من ضمنهم 245 حريقا بجهة جندوبة وباجة (شمال غرب البلاد)، أي بنسبة 53 % من المجموع العام. ويُعتبر عام 2020 أكثر سنوات هذا القرن دفئًا في العالم، وكان أيضا عام الحرائق في تونس إذ تجاوز فيه معدل الحرائق  كل السّنوات التسع التي سبقته (2011-2019).

في 23 جويلية 2023، تعرَّضت مَحمية جبل زغدود من معتمدية الوسلاتية في ولاية القيروان إلى حرائق متعددة امتدّت على أكثر من 800 هكتار من جملة 1792 هكتار من مساحة الجبل[5]. ورغم التراجع الطفيف تواصلت الوتيرة  في الارتفاع خلال الأسبوع الثالث من شهر جويلية 2022، إذ أصدرت وزراة الفلاحة بلاغا على صفحتها أشارت فيه إلى أنّها تدخّلت لإخماد 15 حريقا مُوزَّعة على ست ولايات؛ جندوبة، باجة، بنزرت، نابل، بن عروس، القيروان. وفي أواخر جويلية 2023، شهدَت مناطق متفرقة من ولايات باجة وجندوبة وبنزرت اندلاع حرائق كارثيّة، بخاصة في سلسلتي جبال مقعد وخْمير، زحفت على الأراضي والمنازل والمناحِل[6]. ويوم  24 جويلية 2023، اندلَعت حرائق متزامنة بالطّارف والحمادية والفراحتية في منطقة وشتاتة التابعة لمعتمدية نفزة (ولاية باجة)، ودَمّرت المستغلاّت الزراعية بهذه المناطق.

خلال لقاءَات أجرتها المفكرة القانونية مع بعض المتضرّرين من الحرائق أشار مختار المنجلي، فلاح أصيل منطقة الطارف، إلى أنّ النار التهمَت أشجاَره المثمرة وأتلفت مضخّات المياه والأنابيب بضيعته الزراعية. وتحدّث أيضا وحيد بوزايتي، فلاح أصيل منطقة الفراحتية-وشتاتة، للمفكرة عن فدَاحة الخسائر التي تعرّض لها مع متساكني المنطقة، حيث تضررت “السْوَانيِ” (الضيعات) التي تحتوي على أشجار مثمرة متنوعة ومعدّات ري من مضخّات مياه وأنابيب. وقد كانت الخسائر بمنطقة الفراحتية  بشرية أيضا، حيث تُوفي أحد متساكني المنطقة بسبب الاختناق بدخان الحريق عندما كان يحاول إخراج والده من منزله الذي وصلت إليه النيران.

وعَرفت هذه الصائفة عدّة حرائق بغابات نفزة على غرار مناطق زاقة والمسيد وأولاد قاسم، اندلعت يوم 28 جويلية 2024. وفي حديث شهود عيان للمفكرة وَصلت النيران إلى الضيعات ومواشي متساكني منطقة الروازقية بطابوبة والبحايحية بزاقة، إذ أكدّ أحد المتضررين أنه فَقدَ أغلب مواشيه وتمكّن من إنقاذ حمارهِ فقط.

جنوح المناخ[7] والاحترار وراء عملية التجفيف وتواتر الحرائق

يُعرَف المناخ المتوسطي بطول فترته الجافة، حيث تتجاوز خمسة أشهر من شهر ماي إلى غاية شهر أكتوبر، ويتسبّب ذلك في جفاف لِحاء الأشجار والنباتات العشبية، إذ تُصبح لَهَا قابلية سريعة للاشتعال. وللتطرّف المناخي وارتفاع درجات الحرارة -خلال السنوات الأخيرة- دورًا مهما في ارتفاع نسق الحرائق بالمنطقة المتوسطية وتونس، إذ تَكثر الصواعق نتيجة ارتفاع درجات الحرارة، هذا وستزداد توقعات درجات الحرارة في أفق 2050 في حدود (+1) درجة و(+1.8) في حين سينخفض هطول الأمطار بنسبة 5 إلى 10 بالمائة[8]. وفي 11 أوت 2021 كانت الخمس ولايات الأشد حرارة في إفريقيا تقع في تونس، وتتصدّرهم ولاية القيروان بـ53°، ثمّ سيدي بوزيد 48.5°، فتونس العاصمة 48°، ثم تتلُوهم باجة وبنزرت. حيث سيطر على تونس  والجزائر الضغط الجوي المرتفع المتأتي من الصحراء الكبرى وتسبّبَ في ركود الهواء وجفافه، الأمر الذي يُساهم بشكل كبير في اندلاع الحرائق بمناطق متعددة بالمنطقة[9]. وتُساهم كذلك الرياح الجافة والساخنة في سرعة تنقل الجمر واتساع رقعة المساحات المحروقة، وتُعرَف بـ”رياح الشهيلي” في تونس والجزائر، و”الشرقي” في المغرب و”رياح الخمّاسين “في ليبيا ومصر. ولعلّ حريق ملّولة بمعتمدية طبرقة خلال صائفة 2023 يؤكّد  دور رياح الشهيلي في توسيع رقعة النار، حيث دمّرت الحرائق حوالي 400 هكتار في ظرف زمني وجيز وحاصرت المساكن مما أدّى إلى إجلاء 100 متساكن إلى مركز الإيواء[10]. كما ساهَمَ الغطاء النباتي، بخاصة الصنوبريات -التي تحتوي على مادة متقدة- وغَابات الزان والفلّين والفرنان والبولّوط التي تضم طبقات عشبية ونباتية تحتية، في انتشار الحرائق بسرعة.

عوامل بشرية  تتأرجح بين المحدودية  واللاعقلَنة والقَصديّة

يَتميّز المَجال الغابي التونسي بكثرة المُنفرجات الغابية التي يسكنها قرابة مليون ساكن، أغلبهم يتعاطون أنشطة اقتصادية مرتبطة أساسا بالغابات على غرار جَمع الخفّاف من أشجار الفرنان والزقوقو من الصنوبر الحلبي والبندق واستخراج الفحم وتربية النحل والرعي، إلخ. ويُمكن أن يُرافق هذه الأنشطة أعمال خطرة وغير معقلنَة مثل استخراج الفحم في فصل الصيف أو إشعال السجائر أثناء الرعي وتفقد المناحل، وإلقاء الفضلات التي يُمكن أن تحتوي على بلوريات أو مواد سريعة الاشتعال. كما أنه هناك فَرضية حدوث حرائق بطرق مفتعلة مثلما صرّح بذلك الناطق الرسمي بإسم الحماية المدنية  في 12 أوت 2021، حيث أشار إلى أنه من غير المستبعد أن تكون الحرائق مفتعلة نظرا لتوقيت اندلاعها بين منتصف الليل والساعة الثالثة ليلا والمناطق شديدة الوعورة التي اندلعت فيها. وفي هذا السياق تمّ فتح تحقيق بولاية القيروان  بشأن حرائق جبل الزغدود حيث وُجِّهت التهم إلى 9 أشخاص[11]. وأثناء الحديث  عن أسباب الحرائق مع عدد من متساكني المناطق المتضررة بجهة وشتاتة تمّ التنويه بوجود بعض النفايات العشوائية قرب الغابة قد يكون أدّى إلى الحريق. وقبل سنة 2011 كان مصب ّالنفايات التابع لبلدية  نفزة على تخوم الجبل بمنطقة السيوف، قبل أن يتمّ تحويل مكانه.

 تُساهم محدودية الموارد البشرية واللوجستية في تَزايد نسبة الحرائق واتساع رقعتها، حيث تُوفّر إدارة الغابات التابعة لوزارة الفلاحة قرابة 5150 حارسا للغابات التي تبلغ مساحتها 5.6 مليون هكتار، أي بمعدّل عون حراسة لكل 500 هكتار، في حين لا يتجاوز المعدّل المتعارف عليه 200 هكتار. هذا بالإضافة إلى ضعف الموارد البشرية، حيث  يُسَجّل نقص كبير في الإمكانيات اللوجستية للإطفاء، والتي تَحول دون السيطرة على الحرائق في الوقت المناسب.

الحلول الممكنة لتخفيف تواتر الحرائق

تُخلّف الحرائق سنويا آثارًا مدمّرة، حيث تَخسر العديد من الكائنات حياتها ومأواها وتُدمَّر التربة وتَختفي عناصرها الغذائية، وتعدّ آثارها من أهم مصادر انبعاث غازات الاحتباس الحراري. كما يُساهم تواترها في منع التجدّد التلقائي لأشجار الغابات، إذ تتطلّب شجرة البلوط 40 سنة وشجرة الصنوبر بين 15 و20 سنة للتجدد[12]. إضافة إلى الخسائر المادية والبشرية التي يتعرّض إليها سكّان المنفرَجات الغابية. لذلك لابدّ من حلول تطرحها  وتُنفّذها المؤسسات المشرفة على الغابات.

 أكد عدد من المتضررين من حرائق الصائفة الفائتة بمنطقة وشتاتة-نفزة للمفكرة القانونية إنه بالرغم من تقييم الخسائر من قبل لجنة رسمية لم يتلقى المتضررون إلى حدود اليوم تعويضات -ولو جزئية- على الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها مُستغلاتهم الزراعية ومعدّات الري، في هذا السياق قال مختار المنجلي للمفكرة “لم يتحصّل أي من المتضررين على تعويض ولو جزئي ومازلنا ننتظر إلى اليوم رغم أنّ الحادثة الأليمة تجاوزت السنة”.

 إن التسريع بالتعويضات وإيجاد منوال تنمية يخص سكّان الغابات والمنفرجات والمناطق المتاخمة لها يُساعد بشكل كبير في تشجيع المتساكنين على اليقظة وحماية غاباتهم، كما أنّ تَشريكهم في حماية مجالهم الحيوي، والذي يُعدّ مورد رزق غالبيتهم، من شأنه أن يعزز روح المواطنة لديهم. كما يجب على هياكل الدولة التي ترجع لها الغابات بالنظر تكثيف وتعزيز الوَاقيَات الغابية أو ما يُعرف بـ”مناطق وقف النيران” لمكافحة الحرائق بأكثر سرعة، إضافة إلى الولوج إلى رصد الحرائق عبر الأقمار الصناعية بخاصة في المناطق ذات التضاريس الصعبة التي لا يتمكّن حراس الغابات من الوصول إليها بسرعة. كما يُطالب عدد من سكّان الغابات بتعديل بعض فصول مجلّة الغابات، بخاصة المتعلّقة منها بالملكية إذ ينص الفصل 14 من المجلّة على أنّ “أملاك الدولة للغابات غير قابلة للتفويت ولا ينالها مفعول الحيازة بمرور الزمن بعد تسجيلها ولا يمكن تغيير وصفها ولا يمكن إخراجها من حظيرة أملاك الغابات إلاّ في الحالات المنصوص عليها في هذه المجلّة”، وبذلك تكون الأراضي المستغلة من السكان في إطار حق الإنتفاع وليس الملكية.

 ختاما، من المناسب التأكيد على خصوصية الغابة المتوسطية بغطائها النباتي المتنوع وكثرة منفرجاتها الآهلة بالسكّان (تونس أكثر الغابات المتوسطية التي تحتوي على منفرجات غابية) ومناخها المعروف بطول فترته الجافة، إضافة إلى التغيرات المناخية العالمية نتيجة التلّوث وتأثير استخراج الغاز الأحفوري على الأرض. وهو ما يُفسّر تواتر الحرائق بالمنطقة، وبخاصة في شمال إفريقيا لقربها من الصحراء الكبرى ومناخها شبه الجاف والجاف. وللحدّ من هذه الظاهرة المتطرّفة وجب اتخاذ إجراءات عاجلة تتوافق مع منطقة غابية يتواصل فيها الفصل الحار خمسة أشهر ويعيش فيها قرابة مليون ساكن ممّا يجعلها أكثر عرضة للحرائق.


[1] المنفرجات الغابية” les claireéres” وهي الفضاءات المفتوحة في الغابات وتكون موطنا لاستقرار السكان.

[2]  منجي بورقو، محاضرة: حرائق الغابات بين قضاء الطبيعة وفعل الإنسان، بيت الحكمة تونس، 02 ديسمبر 2021.

[3] Forêts tunisiennes entre marginalité territorial et valorisation des ressources naturelles, FTDES Cahiers  n6, tunis , 2022.

[4]  منجي بورقو، محاضرة: حرائق الغابات بين قضاء الطبيعة وفعل الإنسان، بيت الحكمة تونس، 02 ديسمبر 2021.

[5]  أي واقع بيئي في تونس اليوم؟ الحقوق البيئية بين النضالات والانتهاكات اليومية، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تونس 2022.

[6]  حرائق الغابات في ملّولة، دراسة علمية، جمعية كلام، تونس 2024.

[7] التغيرات السريعة والمتطرفة للمناخ والتي أدّت إلى ارتفاع درجات الحرارة وتراجع كميات التساقطات.   

[8]  التغيّرات المناخية في تونس، الواقع وسبل التكيّف في قطاع الخدمات العامة، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، 2021.

[9]  منجي بورقو، محاضرة: حرائق الغابات بين قضاء الطبيعة وفعل الإنسان، بيت الحكمة تونس، 02 ديسمبر 2021.

[10]  حرائق الغابات في ملّولة، دراسة علمية، جمعية كلام، تونس 2024

[11]  أي واقع بيئي في تونس اليوم؟ الحقوق البيئية بين النضالات والانتهاكات اليومية، المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تونس 2022.

[12]  منجي بورقو، محاضرة: حرائق الغابات بين قضاء الطبيعة وفعل الإنسان، بيت الحكمة تونس، 02 ديسمبر 2021.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، مقالات ، تونس ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني