إن كان بحر صيدا مشهوراً بـ”بحريّته”، فنهر الأوّلي الذي يشعر الصيداوي بالغربة بعد اجتيازه، لا يقلّ أهميّة بالنسبة لمدينة توزّعت عائلاتها بين “بحريّة” و”بستنجيّة”. فمياه نهر الأوّلي الغنيّة بالمعادن كانت وراء ازدهار الزراعة المرويّة ونظام البساتين في سهل صيدا وشهرة المدينة بالحمضيّات والأكي دنيا. ولم يكن ذلك ممكناً لولا تشييد أهل صيدا، منذ القدم، نظام ريّ متطوّراً جداً يعتمد بأكمله على منطق الجاذبيّة وقوّتها في جرّ مياه نهر الأوّلي وتوزيعها على القسم الأكبر من البساتين. ويقوم العمود الفقري لهذا النظام على قناة أساسيّة معروفة بقناة الخاسكية أو قناة السلطانية.
إنجاز هندسي
تعتبر قناة الخاسكية تحفة هندسية فهي تتغذّى من مياه نهر الأوّلي من خلال سدّ صغير يقع4.5 كيلومتراً أعلى النهر يسمّى “سد رصاص”. ومن ثمّ توزّع المياه على برك وقنوات أصغر من خلال فتحات إلى جانب القناة تسمّى المكاسر نسبةً للأحجار التي توضع أو تزال لتحويل الماء.
تلحق قناة الخاسكية خطّاً طبوغرافيّاً واحداً مع انحدار صغير لتسهيل عمليّة جرّ المياه ومن أجل المحافظة على تدفّق محدّد على طول 7 كيلومترات. وهذا الانحدار فرض حفر الصخر في بعض الأحيان حتى 12 متراً تحت سطح الأرض. وفي آخر جزء من الخاسكية بُنيت قناة مرفوعة (aqueduct) حتى البلد القديمة التي كان هذا النظام يغذّيها بمياه الشفة حتى نهاية القرن التاسع عشر.[1]
عند وصول قناة الخاسكيّة إلى ساحل صيدا تجري تحت طريق السلطانية حيث تم بناء حائط دعم من أجل فتح طريق تسهّل مرور المسافرين على الدواب والعربات وبنيت عليها العديد من الخانات. في هذا الجزء تقوم الخاسكية والسلطانية بدور فاصل بين الجبل حيث زراعة الزيتون البعليّة والساحل حيث بساتين الحمضيات والأكي دنيا المرويّة.
بنى ملك صيدا الفينيقي بوداشتارت الجزء الأول من قناة الخاسكية في القرن الخامس قبل الميلاد إذ أراد توسيع معبد أشمون بالقرب من نهر الأوّلي[2]. فقد بنى بوداشتارت وسلفه الملك إشمونازار معبداً لإله الشفاء أشمون ليخصص لمعالجة الأمراض وخصوصاً المتعلقة بالأطفال وذلك من خلال استخدام مياه الأولي المقدسة.[3] كان الاتّكال بداية على ماء نبعة “إلدل”. وبعدما لاقى معبد أشمون نجاحأً كبيراً، قام “الملك البنّاء” بوداشتارت بتوسعة المعبد وأراد تزويده بكمّية أكبر من الماء فبنى قناة الخاسكية[4]. اليوم عند زيارة موقع معبد أشمون يمكن ملاحظة برك الماء المخصصة للعلاج والقنوات الصغيرة التي كانت تستمد الماء من قناة الخاسكية وتوزعها في المعبد.
رغم غياب الدراسات الأثرية على قناة الخاسكية، من المرجح أن الجزء الثاني منها يعود إلى الفترة الهلنستية من خلال لوحة كانت موجودة في الماضي على ضفاف نهر الأوّلي بالقرب من سد رصاص.[5] كما أنّ نظام القناطر التي تحمل طريق السلطانية تدل إلى الحقبة الرومانية.[6] وقد سمّيت القناة بإسمها تيمّناً بخاسكية زوجة الأمير فخر الدين التي كانت مسؤولة عن ترميم القناة في القرن السابع عشر[7].
إدارة سلسة للقناة خالية من الشوائب
الأهم من الهندسة المميزة للقناة هو النظام الذي اتّبعه أهالي صيدا في إدارة القناة. ويقول المؤرخ الصيداوي طلال مجذوب أنه عند دراسته أرشيف المحكمة الشرعية وجد بعض الخلافات حول الماء في منطقة صيدا الكبرى ولكن على عكس ما يحصل في كثير من الأماكن، لم يجد أيّ أثر لـ”إشتباكات دموية” من جرّاء هذه الخلافات.[8] ويقول المجذوب إنّ هذا يميّز صيدا عن أماكن أخرى في العالم حيث الاتكال على طريقة الجرّ خلّف الكثير من الضحايا.[9]
تعود قلًة الخلافات على توزيع المياه إلى النظام الإداري الفعّال الذي اتبعه الصيداويون. فيتم الإشراف على عملية الري من قبل لجنة مياه تم إختيار أعضائها “بدقة وعناية كبيرتين، بحيث يتمتعون بالحكمة وبالسيرة الحسنة والخبرة” والقدرة على حل النزاعات المتعلقة بتوزيع المياه عند حصولها. تقوم هذه اللجنة بوضع جدول الري وإختيار مجموعة من “القنواتية برئاسة “القنواتي باشي” أو “شيخ السقي” كي يديروا قناة الخاسكية وعملية الري.[10] تعاقب عبر الزمن الكثير من شيوخ السقي، وهناك عائلة في صيدا تحمل إسم قنواتي. وهم في الأصل من آل زكّور ولكن لقبَوا بالقناواتي نسبةً لمهنتهم.[11]
ما زال شيخ سقي الخاسكية الحالي، السيد محمد إبريق يقوم بصيانة قناة الخاسكية وتنظيفها مع إنتهاء كل ربيع تحضيراً للري في فصل الصيف رغم الإمكانيّات القليلة المتاحة له وإهمال الدولة للقناة. كما يقوم عمله على إدارة جدول الرّي والتذكير بفتح المكاسر وذلك مقابل مبلغ ثابت يدفعه أصحاب البساتين سنوياً.[12]
تضافر عناصر عدّة لتدمير القناة بينها سد بسري
إن كانت إدارة القناة تتّكل على تكافل وتكاتف المجتمع المحلي فهذا لا يلغي دور المسؤولين في المدينة في المحافظة على القناة فقد أهملوها ونسيوا حق أهل صيدا في مياه نهر الأوّلي. بدأ ذلك يظهر بعدما أغار الطيران الإسرائيلي في 1980 قرب القناة وكسرها بالقرب من مكسر العبد. منذ ذلك اليوم توقّفت مياه الأوّلي عن الوصول إلى جزءٍ كبير من البساتين في حي الوسطانيّ ممّا أجبر الكثيرين على حفر آبار إرتوازية. بعدها تكسرت القناة عند نقاط أخرى بسبب البناء وعدم إجبار المسؤولين المقاولين على أخذها بعين الإعتبار.
لكنّ القنواتي السابق الحاج يوسف القنواتي يعتقد أنّه ما زال من الممكن ترميم الخاسكية وعودة المياه إلى الجزء الجاف منها وذلك إذا تم إصلاح الأجزاء القليلة المتكسّرة منها. ولكن في ظل السياسات والمخططات المتبعة حالياً فإن مستقبل الخاسكية مظلم. فمن جهة سيؤثر سد بسري سلباً على منسوب المياه في حوض الأوّلي ما سينعكس على قوّة تدفّق المياه وفعالية القناة في إيصال المياه ودورها في عملية الري. ومن جهة أخرى سيدمّر مشروع أعلنت عنه بلدية صيدا لتوسيع طريق السلطانية، القناة بالكامل.
قد يستسخف ويستخفّ المسؤولون بأنظمة القنوات القديمة كقناة الخاسكية، متناسين مدى فعّاليتها ما يجعلها فخراً لمنطقتنا. فالعرب هم من صدّر هذه التقنية من الأندلس إلى الغرب وحتى القارّة الأميركية، فأصبح الغرب يتفاخر بنظام الـ”أساكياس” (acequias) (نسبةً لكلمة ساقية) الفعّال في مناطق مثل فالينسيا. أما نحن، فنضرب الحلول الهندسية القديمة عرض الحائط مع أنها توزّع المياه بفعالية ونبني بدلاً من ذلك سدوداً وحلولاً تتكل على التكنولوجيا الحديثة التي تكلّفنا المليارات من الديون، وتدمّر منظومة زراعية وبيئية ومعيشية واقتصادية بالكامل.
- نشر هذا المقال في العدد | 62 | كانون الثاني 2020، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
مرج بسري في قلب الإنتفاضة
[1] طلال مجذوب، تاريخ صيدا الإجتماعي (1840-1914) صيدا: منشورات المكتبة العصرية، 1983، 260.
[2] Paolo Xella et al., “Prospection épigraphique et archéologique dans la région du Nahr al-Awali (Saïda/Sidon),” 2005, https://digital.csic.es/handle/10261/9228.
[6] بحسب مسؤولة مديرية الآثار في صيدا بعد معاينة سريعة للموقع خلال زيارة ميدانية تمت مع أعضاء من “مبادرة للمدينة” في سنة 2017
[7] مقابلة مع المؤرخ طلال المجذوب في 2012.
[8] طلال مجذوب، “زراعة صيدا وسقيها في منتصف القرن التاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين” (الزراعة في بلاد الشام منذ أواخر العهد البيزنطي إلى نهاية العهد العثماني، عمّان: مركز الوثائق والمخطوطات ودراسات بلاد الشام، 2012) 359–425.
[11] من استنتاجات العمل الميداني التي قامت به مجموعة مبادرة للمدينة خلال عام 2017.