حادثة المزونة: الحقائق التي تُريد السّلطَة إخفاءَها


2025-04-17    |   

حادثة المزونة: الحقائق التي تُريد السّلطَة إخفاءَها

تَهَاوى، يوم الاثنين، سُور معهد ابن حزم في مدينة المزّونة (وسط غرب تونس) فوق رؤوس عدد من التلاميذ كانوا بجانبه. خَلّفَت الحادثة المأساوية وفاة ثلاثة تلاميذ وإصابة آخرين. وفي الوقت الذي أثارت فيه الحادثة موجة استياء وحُزن في مواقع التواصل الاجتماعي، اكتفَتْ رئاسة الدولة بإصدار بلاغ عبّرت فيه عن أسفها متوعّدة بمحاسبة “المُقصّرين” والتّلميح بوجود “مؤامرة” وراء سقوط الجدار. وفي الأثناء مُنِعَت وسائل إعلام عمومية وخاصة من الحصول على معلومات وتصريحات رسمية بشأن الحادثة. 

مع انطلاق الغضب الشعبي وتنظِيم مسيرة حاشدة وإعلان إضراب عام في مدينة المزّونة، أجابَت السلطة باعتقال مدير المعهد محمد الكثيري، الذي قال زملاؤه الأساتذة في عريضة تداولوها أمس الأربعاء أنه قَامَ بواجبه في إعلام المندوبية بوضعية السور المتهالكة، وطالبوا بالإفراج عنه. كما تجمَّعَ عدد من أهالي المزّونة صباح اليوم الأربعاء للمطالبة بإخلاء سَبيل المدير، مطالبين السلطة بتحمّل مسؤولياتها. وجدّت مساء الثلاثاء مواجهات بين عدد من الأهالي وقوّات الأمن تمّ خلالها استخدام القوة المفرطة ضد المحتجّين وفق ما أكّده شهود عيان للمفكرة القانونية. كما تعرّض طاقم صحفي للاعتداء بالعنف اللفظي من قبل أعوان أمن حسب بيان نشرته اليوم النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.  

بيان النقابة الأساسية للتعليم الثانوي والتربية البدنية بالمزونة

خلال مأساة المَزّونة سَعت السلطة إلى إخفاء حقيقتين أساسيتين: تتمثّل الحقيقة الأولى في التآكل الرهيب للبُنى التحتيّة التربويّة في مدينة المًزونة وكامل ولاية سيدي بوزيد ومناطق أخرى في تونس، بسبب عجز السياسات العمومية -التي يشرف عليها الرئيس سعيد- عن وضع حلول لهذا الانهيار. والحقيقة الثانية؛ وُجود تململ شعبي إزاء وعود الإصلاح والبناء المتكررة التي تلوح إلى حدّ الآن معزولة عن واقع المؤسسات والمجتمع والمناطق الداخلية. لذلك استخدمت السلطة استراتيجية الغلق التام لمصادر المعلومة الرسمية أمام معظم وسائل الإعلام.  

مؤسسات تربوية غير صالحة للحياة        

جدَّت المأساة بعد حوالي أسبوع من زيارة أدّاها وزير التربية نور الدين النوري إلى ولاية سيدي بوزيد، في 08 أفريل 2025، وكان فيها على مقربة من المعهد الذي تهاوَى سُوره الخارجي فوق رؤوس التلاميذ. وعلى هامش الزيارة أذاعت وزارة التربية بلاغا أعلنتْ فيه اتّخاذ عددٍ من الإجراءات والقرارات المتعلّّقة بالصّيانة وإنشاء فضاءات جديدة. ولكن غابَ عن البيان الوزاري أية إشارة واضحة إلى الانهيار والتآكل التراجيدي الذي تعيشه العديد من المؤسسات التربوية في مدينة المَزونة وولاية سيدي بوزيد بشكل عام. 

بعض المؤسسات التربوية في مدينة المزونة كَفّت عن تقديم خدمات الإيواء والإعاشة للتلاميذ من بينها المدرسة الإعدادية، إذ أكّّدت للمفكرة القانونية هادية بن الفرجاني، أستاذة تعليم ثانوي ونقابية وتعمل في المدينة منذ 13 سنة، أن ثمة قرارا بهدم المبيت والمطعم الجامعي لإعدادية المزونة، ويُواصل الأساتذة عملهم في المعهد في ظل تواصل أشغال الهدم. وأضافت محدّثتنا بأن الأهالي والأساتذة حاولوا تدارك تعطّل هذه المرافق بجهودهم الخاصة، ولم تُفلح المراسلات المتكررة في إعادة إصلاح المرافق التي تُقدّم خدمات ضرورية للتلاميذ.   

صورة حديثة للمعهد الثانوي بالمكناسي تداولتها صفحات تلمذية

في منطقة المكناسي التي لا تبعد كثيرا عن مدينة المزونة، احتجّ مؤخّرا عددٌ من تلاميذ المعهد الثانوي للتعبير عن خشيتهم من سقوط جدران المعهد المتشقّقة فوق رؤوسهم، إثر الرَّجات الأرضيّة التي شهدتها المنطقة. وتلوح الكثير من آثار الانشقاقات ظاهرة في الصور التي تداولها العديد من تلاميذ المعهد. وخلال زيارته الأخيرة إلى ولاية سيدي بوزيد، تحدَّث وزير التربية عن التفكير في وضعية المعهد من دون وضع خطّة بديلة استعجاليّة، حيث قال في تصريح للتلفزيون الرسمي “سنُعيد تشييد هذا المعهد في كلّيتِه بحلّة جديدة، ولكن هذه الأشغال ربما تتطلب وقتًا ولن تنطلق قبل سبتمبر المقبل. هناك حلّ آخر في مستوى الجهة. حلّ بديل يتطلب على الأقل مدة سنة أو سنتين”. 

تبدو الصورة أكثر تعقيدا وانهيارًا بالنسبة للمدارس الريفية في ولاية سيدي بوزيد. إذ في أكتوبر 2024 (أي بعد حوالي شهر من العودة المدرسية) بثت إذاعة تونسية خاصة تقريرا عن مدرسة العْكَارْمة في ولاية سيدي بوزيد، ذَكَرت فيه أن 80 بالمائة من قاعات المدرسة آيلة للسقوط. وفي مدرسة أولاد بيّة بلسودة عَبّرَ الأولياء، في صيف 2023، عن تآكل البنية التحتية للمدرسة واحتوائها على قاعات آيلة للسقوط. 

صورة السور الخارجي لمدرسة العكارمة في ولاية سيدي بوزيد تعود إلى شهر أكتوبر 2024

واقِع الانهيار المَرير لا يَقتصر على السنوات الخمس الأخيرة. ففي سنة 2018 شهدت المدرسة الابتدائية بأولاد بلقاسم في ولاية سيدي بوزيد سقوط جزء من سقف أحد الأقسام فوق رأس تلميذ. وفي العام 2016 تفاجأ تلاميذ مدرسة الغابة السوداء (السبالة- سيدي بوزيد) بسقوط جزء من سقف القاعة قبل دخولهم إليها بدقائق، وهو ما دفع أولياءهم إلى الاحتجاج ورفع قضية عدلية.  

العجز المحقّق عن الإصلاح 

من الملاحظ أن التأويل الرسميّ للحدث -حسب بلاغ رئاسة الجمهورية- جاء خاليًا من الاعتراف بالمسؤولية السياسية، وبَحث عن تفسير ما جرى في أمكنة أخرى، إما بتحميل التقصير لموظفين صغار مثل مدير المعهد، أو التلويح بوجود “مؤامرة” لم يُكشف بعد عن خيوطها.

حرصت السردية الرسمية على إخفاء الارتباط بين تآكل البنية التحتية وفشل السياسات العمومية التي يُشرف عليها رئيس الجمهورية. والحقيقة الأساسية التي لا تريد السلطة السياسية الحالية الاعتراف بها، تتمثل في عدم تخصيص موارد للاستثمار في التعليم العمومي، أو إنقاذ ما تآكل من مؤسساته. لأن الدولة بصدد اعتماد سياسات تقشفية تحت شعار رئاسي يقول بـ “التعويل على الذات”.

لذلك تَجدر الإشارة هنا إلى تأثير السياسات المالية للدولة على واقع التعليم العمومي في تونس، وبخاصة في المناطق الداخلية: لم تتطوّر ميزانية مهمة التربية بين سنتي 2024 و2025 سوى بنسبة 1.6 بالمائة، حيث بلغت الميزانية 8044000 مليون دينار لهذه السنة مقابل 7917500 مليون دينار للسنة الفارطة. وعموما أيضا في سنتي 2022 و2023 لم تشهد الميزانية تطوّرًا يُوحي بضخ موارد جديدة للإصلاح أو الترميم. وظلّت نفقات التأجير تحظى بالنسبة الأكبر في ميزانية الوزارة مقارنة بنفقات الاستثمار والصيانة. 

من الملفت للانتباه أيضا في تقارير ميزانية الوزارة لسنتي 2024 و2025 أن هناك إشارات واضحة إلى اهتراء البنية التحتية بشكل يَجعل المدرسة العمومية فضاءً غير آمن للتلاميذ، والإقرار بوجود فوارق بخصوص البنية التحتية بين المناطق. ولكن مقترحات الوزارة وبرامجها لا توحي بوجود خطة استعجالية لترميم هذا الانهيار الذي اتّسَعَ مَدَاه.  

في الوقت الذي كان فيه وزير التربية السابق فتحي السلاوي يشير، عام 2022، إلى وجود 1450 مؤسسة تربوية غير مرتبطة بالماء الصّالح للشراب، كانت رئاسة الجمهوريّة تعمل على إعداد الاستشارة الوطنيّة حول إصلاح نظام التربية والتعليم، التي أُعلِن عنها في أفريل 2023 وتم إطلاقها فعليا في سبتمبر من السنة نفسها. لم يتجاوز عدد المشاركين في هذه الاستشارة ال ـ500 ألف، رغم الدعاية الرسمية الحثيثة، والموارد والجهود التي رُصدَت لها. وقد جاء فشل الاستشارة ليؤكّدَ انعزال السلطة الحالية عن المشاكل الآنيّة والجذريّة للتعليم العمومي في تونس، وكانت مجرد محاولة للالتفاف على المطالب النقابية والاجتماعية والسياسية المُنادية بإصلاح التعليم منذ زمن، لتحاول سلطة الرئيس سعيد إبراز نفسها كـ “صاحبة مشروع” استثنائي في هذا القطاع، من دون وضع سياسات تعليمية فعلية قادرة على إنقاذ المدرسة العمومية من حالة الانهيار. وربما الملاحظة الأساسية في الاستشارة هو عدم احتوائها أسئلة متعلقة بظروف التمدرس: النقل، الإيواء، البنية التحتية، الظروف البيداغوجية. 

طيلة السنوات الفارطة، وبخاصة منذ استيلاء الرئيس سعيد على كل السلطات في 25 جويلية 2021، ظَلَّ النظام السياسي الجديد يمارس الإنكار إزاء ما تعيشه المدرسة العمومية من حالة موت سريري، سواء بتحميل الأزمات للحكومات السابقة، أو تقديم تصورات إصلاح معزولة عن واقع المؤسسة والمجتمع ومن ضمنها مشروع الاستشارة الوطنية حول التربية والتعليم، إضافة إلى مشروع المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي تم إنشاءه بمقتضى مرسوم في 16 سبتمبر 2024، وتبدو هذه المؤسسة المنشودة إلى حد الآن تشكو من ضبابية الملامح، بالخصوص على مستوى المهام والصلاحيات.   

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في التعليم ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني