“نحنا اشتقنالك، انتي اشتقتيلنا” هي واحدة من العبارات الأخيرة التي كتبتها الصحافية في “إذاعة النور” سكينة منصور كوثراني (35 عامًا) على صفحتها على فيسبوك متوجّهة إلى الضاحية الجنوبية، قبيل استشهادها مع طفليها رضا وسارة وكامل عائلتها في غارة إسرائيلية استهدفت مبنى سكنيًا في بلدة جون الشوفية، في 12 تشرين الثاني 2024.
كانت الشهيدة سكينة تعبّر عن صعوبة الابتعاد عن الضاحية والألم الذي يعتريها حين ترى الدمار وقد نال من بيتها ومرتع طفولتها وصباها ومكان عملها. وقد انضمّت الزميلة سكينة إلى لائحة الصحافيين الشهداء في هذه الحرب الوحشية على لبنان ليرتفع عدد الشهداء الإعلاميين إلى 13 شهيدة وشهيدًا، 6 منهم في استهدافات مباشرة.
سكينة وطفلاها كانوا من بين 21 شخصًا من بينهم 8 أطفال وثّقت “المفكرة القانونية” استشهادهم في تلك الغارة التي وقعت عند الساعة السادسة والنصف مساء، واستهدفت منزلًا في حي “الضهرة” أو “بوابة الريح” كما يسميها أبناء البلدة، مؤلّفًا من طبقتين، يعود لمحمد سليم غصن ويؤوي عائلات أقربائه الذين نزحوا قبل شهر ونصف الشهر إلى مكان ظنّوا أنّه آمن.
وقبل شهرين، وتحديدًا في 25 أيلول الماضي، وقعت مجزرة أخرى في جون استهدفت أيضًا مبنى سكنيًا يؤوي نازحين في ضهر المطلّ، استشهد فيها صاحب المبنى خضر رعد وزوجته زينب طلال قطايا وابنهما حسن، والأم السورية من معلولا أريج بتوز وطفليها قصي وريتال بتوز، والأمّ النازحة من جبشيت إيمان جفال وطفليها من آل خضرا.
ووضعت المجزرتان في سياق الاستهدافات المتعمّدة لإسرائيل لمناطق تؤوي نازحين وذلك بهدف ترهيب المجتمعات المضيفة للنازحين ونشر الرعب ضمنها من النازحين وزعزعة التضامن الاجتماعي معهم. ولكنّ أهالي جون في قضاء الشوف الذي استضاف أكثر من 160 ألف نازح، مثل نظرائهم في بلدات أخرى كانت هدفًا لمجازر مشابهة، تصدّوا لذلك بخطاب وحدوي وأكّد عدد منهم لـ “المفكرة” أنّ إسرائيل تعمل من خلال ارتكابها هذه المجازر، على إثارة فتنة داخلية وتقليب أهل البلدات المضيفة للنازحين عليهم لكنّها أخفقت أمام التضامن الكبير الذي أبداه الأهالي.
الشهيدة سكينة وطفلاها
مجزرة 12 تشرين الثاني: 21 شهيدًا بينهم 8 أطفال
فيما وثقت “المفكرة القانونية” استشهاد 21 شخصًا، من بينهم 8 أطفال، ذكر عدد من أبناء البلدة، أنّ عدد الشهداء يقارب الـ 27. وقد علمت “المفكرة” أنّه لا تزال هناك أشلاء لم يعرف أصحابها بعد، وتقوم الجهات المعنية بفحصها للتعرّف على هويتها. وقد طال عصف هذه الغارة عددًا من المنازل المحيطة، ما أدى إلى تضرّرها بشكل جزئي، منها منزل رمزي شمس الدين الذي استشهد داخله.
والشهداء الذين وثقت “المفكرة” استشهادهم في الغارة صاحب المنزل محمد غصن وزوجته وفيقة القدور، وابنه علي (9 سنوات) وابنته لين (14 سنة)، وشقيقتاه النازحتان من ضاحية بيروت الجنوبية المصوّرة زينب غصن وابنتها ريان صبح (18 عامًا) وزهراء وزوجها محمود سبيتي وأطفالهما جود وجواد وأمير علي الرضا. كما استشهد ابن عمه أحمد وليد غصن وزوجته فرح كركي، والعاملة المنزلية من أثيوبيا آينا دولا، بالإضافة إلى الإعلامية سكينة وأمها فاطمة الشامي، وزوجها مصطفى سبيتي، وولديهما سارة (7 سنوات) ورضا (سنة وشهرين)، وأخيها حسين كوثراني (12 سنة)، وأختها رقية كوثراني وابنة أختها جود إبراهيم سبيتي (14 عامًا).
يقول إبراهيم الذي نزح مع عائلته إلى جون وكان يسكن في الحي نفسه الذي وقعت فيه المجزرة إنّ الغارة ليلة 12 تشرين الثاني كانت عنيفة جدًا وقد طالت الأضرار أبنية لمسافة شارعين من المبنى المستهدف. ونقل عن الأهالي أنّ الأشلاء انتشرت في محيط موقع الغارة وصولًا إلى الوديان القريبة، لذلك كان متعذّرًا إحصاء حصيلة الشهداء. ويلفت إلى أنّه وعائلته شعروا للحظات أنّهم يريدون الاعتذار من أهالي جون، “صرنا نلوم أنفسنا إذ شعرنا كأنّنا السبب وراء الغارات” يقول. ويؤكّد أنّ أهالي جون استقبلوا عشرات العائلات النازحة وأنّ عددًا منهم لم يكونوا على معرفة مسبقة.
ويذكر إبراهيم أنّ الأهالي عتبوا كثيرًا على الإعلام لأنّه تأخّر ليأتي إلى بلدتهم ويروي قصص الضحايا ولأنّ هؤلاء ظلّوا خبرًا سريعًا وأسماء بلا قصص في الإعلام لأيّام.
يقول عضو مجلس بلدية جون إبراهيم عيد إنّ الحي الذي استهدفته إسرائيل، تقطن في محيطه عائلات مسيحية منها عائلات ضومط ومارون ولْطيف، وقد تضرّر عدّد من منازلها من جرّاء الغارة. ويؤكّد أنّ صاحب المنزل المستهدف “شخص عادي لا ينتمي إلى أي حزب ولا يهتم سوى بعمله في صيانة المكيفات، مؤكّدًا أنّ هدف هذه المجزرة هو القتل والترويع وإثارة الفتنة.
وعلى إثر المجزرة صدرت الكثير من المواقف المتضامنة والداعية إلى الوحدة في مواجهة محاولات الفتنة منها بيان أصدرته رعية مار يوسف المارونية – جون، اعتبرت فيه أنّ “العدوان الاسرائيلي تخطّى حدود المنطق والأعمال الحربية، إذ لم يَعُد يميّز بين عسكري ومدني، بين مقاتل وطفل، بين الثكنات الحربية والمنازل العائلية”، ودعت إلى إعلان “رفضنا لهذا الإجرام بالتعاون والوحدة والتعاضد” والصلاة “على نية السلام والأمان لأرضنا ووطننا”.
عائلة محمد سليم غصن
“سكينة رحلت ومعها كلّ عائلتها”
بحرقة مكتومة، تقول إلهام نجيم زميلة سكينة في “إذاعة النور”: “رحيلها أوجعني كثيرًا وأوجع كلّ أسرة الإذاعة، نحن فارقنا صديقة وزميلة من دون أن نودّعها، الألم أكبر عندما لا نودّع الذين نحبّهم”. وتضيف في حديث مع “المفكرة”: “لكن رحيلها مع أهلها وعائلتها، كان بمثابة نجاة ورحمة لها. صحيح أنّ رحيلهم مع بعضهم البعض هو شعور مفجع لنا نحن الأحياء، لكن لا يمكنني أن أتخيّل لوهلة أنّ سكينة نجت واستشهد أولادها وعائلتها، فبالتأكيد لن يكون لديها قدرة على تحمّل هذا الفقد الجماعي”.
وتتابع كأنّها استدركت أمرًا ما: “كانت سكينة قريبة جدًا من عائلتها، يجتمعون باستمرار ويكادون لا يفترقون، وبالفعل لم يفترقوا حتى بالموت”.
الصحافية في إذاعة النور سكينة كوثراني وعائلتها
انضمّت سكينة إلى الإذاعة في العام 2013، بداية في إعداد البرامج، وأخيرًا استقرّت في قسم الإعلام الرقمي كمحرّرة. تصفها زميلتها إلهام بـ “المثابرة والجدّية والمتابعة لأدق التفاصيل”.
وتتابع: “سكينة كانت تضجّ طاقةً وحياة، مرحة وكلّها فرح، كان لها علاقة خاصّة بالضاحية والجنوب”. وسكينة من بلدة تفاحتا، لكنها عاشت وتربّت في قرية والدتها في كفرصير، تقول إلهام إنّ سكينة “لم تكن تستطيع الابتعاد كثيرًا عن الضيعة، كانت تزورها باستمرار، ولم يمنعها من ذلك حتى العدوان في فتراته الأولى”.
“من سيسجّل ذكرياتنا يا زينب؟”
“لن نراك بعد الآن يا زينب، لن تكون هناك زينب لتصوّر الطلّاب، من سيصوّر لنا حفل عيد الاستقلال وعيد الأم، من سيكون معنا في حفل التخرّج ليسجّل ذكرياتنا في تلك الكاميرا”، هكذا رثى الأستاذ في مدرسة Beirut International school إبراهيم بزّي المصوّرة الشهيدة زينبغصن.
يقول رفيق طفولتها حمزة عيد: “ربيت أنا وزينب، كبرنا سوا، من الروضة الأولى كنّا بنفس المدرسة، بنروح بنفس الباص وبنرجع مع بعض. زينب إنسانة بتحبّ الحياة، وهي مؤمنة جدًا. لما خلّصنا البريفيه ونزلنا ع بيروت، كمّلت دراستها، تعلّمت فن التصوير واختارت هذا المجال لتمتهنه. تزوجت زينب وبقينا على تواصل، نحن صديقان منذ الطفولة مثل الأخ وأخته، لا شيء كان قادرًا على تفريقنا ولكن إسرائيل تكفّلت بذلك”.
ويضيف: “كان كلّ همّ زينب هو العمل وتكوين مسيرة مهنية لها، كنت أنتقدها في الفترة الأولى وأقول لها ‘شو بدك بهالشغلة ما بتطعمي خبز’، لكنّها أقنعتني بأنّ التصوير كان شغفها”.
امتهنت زينب تصوير الحفلات من أعياد ميلاد إلى حفلات تخرّج إلى أعراس، وافتتحت استوديو تصوير أسمته Studio for memories في حارة حريك. واستمرت بهذا العمل حتى بعد إنجابها لطفلتها، إذ صارت أمًّا عاملة، كبرت هي وابنتها سويًا، “كل ما تطلع ع جون تتواصل معي ومع صديقاتها، وعندما نطلب منها قضاء بعض الوقت كانت تعتذر لتبقى مع أخوتها وعبارتها التي ترددها ‘بدي عبّي حنية’..” يقول حمزة بصوت يرتجف.
ويكمل حمزة: “عند توسّع العدوان ليطال الضاحية الجنوبية، نزحت عند أخيها محمد في جون، كانت تقول لي إنّه يقدم لها كل ما تحتاجه، لكنها مع ذلك، أصرّت أن تعمل أثناء فترة نزوحها، وبدأت قبل أسبوع من استشهادها بصناعة علب هدايا لعيد الميلاد، لتخفّف عن كاهل أخيها عبء المصاريف. وطلبت مني أن أضع صور العلب على غروب الضيعة على واتساب، لتسويقها هناك. هذه الحادثة قبل الغارة بيومين، جهّزت لها العلب لتمزّقها الغارة”.
المصوّرة زينب وابنتها ريان
والدي ضحية إسرائيل وعمّي ضحية 4 آب
ومن الشهداء رمزي شمس الدين، وهو ابن شقيق الفنان الراحل نصري شمس الدين وهو جار محمد غصن، وكان بدوره يستقبل بناته وأحفاده الهاربين من الغارات ويستضيف عائلات نازحة من بلدة العديسة. استشهد جرّاء انهيار جزء من منزله عليه بفعل الغارة، وأصيبت عائلته وضيوفه بجروح طفيفة.
يروي حسين شمس الدين ابن الشهيد رمزي لـ “المفكرة” اللحظات الأخيرة لوالده: “خلّصنا الغدا وحضر نارجيلته، كانت كلّ العيلة بالبيت أمي وأخواتي ومعنا عائلتين نازحتين من العديسة، كنّا مستضيفينهم في منزلنا. كان يتواجد في المنزل 4 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين وخمسة أعوام”.
ويتابع: “كنّا قاعدين بالصالون وتوجّه الوالد إلى الممر الذي يؤدّي إلى غرف النوم حين حصلت الغارة، طار عمود من البيت ووقع على والدي ما أدى إلى استشهاده”.
يتحسّر حسين لأنّ “والده لطالما كان بعيدًا عن العائلة إذ أمضى سنوات عمره بالعمل في السعودية، وبعد تقاعده، عاد إلى لبنان، وبنى لنا هذا المنزل، نحن نسكنه منذ عامين فقط، ما لحقنا ننبسط بوجوده معنا ونرتاح في منزلنا”. ويضيف: “كان والدي رجلًا حنونًا ومتفهّمًا، لا أذكر أنّه أنّبني أو عصّب عليي ولا مرّة. كلّ همّه كان أن نتعلّم ونكبر وننجح في حياتنا. تقاعد قبل 5 سنوات وأراد أن يرتاح ويكون قربنا بعد سنوات عمله الطويلة في الغربة، لكن إسرائيل قتلته قبل أن يحقق حلمه برؤية أحفاده يكبرون بجانبه”.
الشهيد رمزي شمس الدين
“جون بلدي جون، بلد الحبايب، أهلا يا جون، ربينا بفيّاتك، قطفنا زيتوناتك، هالله يا جون” يردّد حسين كلمات مقطع من أغنية للفنان الراحل نصري (غنّاها في مسرحية “ناس من ورق”) كان والده دائمًا يرددها في السهرات العائلية. ويضيف: “كان صوت والدي جميلًا وقويًا أيضًا، وفي سهراتنا العائلية كان يردد أغاني عمّه نصري وبخاصّة المقطع الذي غنّاه لـ جون”.
ولا ينسى حسين أن يخبرنا أنّ عمّه كاظم أيضًا شهيد، سقط في انفجار 4 آب، حين كان يزور ابنته في الأشرفية.
وبصوت مخنوق يتابع حسين: “قتلت إسرائيل والدي وقتلت معه الأمان والفرح، هناك أحلام كثيرة كان يحب أن يحقّقها من خلالي أنا وأخوتي”.
أريج وطفلاها النازحون من معلولا لم يستحقّوا أن تذكر أسماؤهم
الغارة الثانية التي وقعت في جون في 25 أيلول الماضي، استهدفت مبنى سكنيًا مؤلّفًا من 3 طبقات كان يحتضن عائلتين لبنانية نازحة من جبشيت وأخرى سورية من معلولا. كما أسلفنا، استشهد في الغارة الأمّ السورية أريج بتوز وطفلاها قصيوريتال بتوز، والأمّ اللبنانية إيمان جفال وطفليها من آل خضرا وأمّ ثالثة هي زينب طلال قطايا وابنهما حسن، مع زوجها خضر رعد صاحب المبنى المستهدف.
كان الجميع نائمين بأمان عند وقوع الغارة، غير عارفين أنّ تلك الليلة ستكون الأخيرة، وأنّ جدران بيتهم الصغير لن تقف أمام عصف الصواريخ الإسرائيلية التي أطاحت بحياتهم وأسكتت ضحكاتهم إلى الأبد.
يقول ع. غ. إنّه “بعد الغارة عاد زوج أريج رمزي بتوز من عمله ليجد بيته قد هدم، وأسرته التي كان ينتظر لقاءها قد غابت عن الوجود. الطفولة التي ملأت البيت حياة لم تعد موجودة، والابتسامة التي كانت تزيّن وجه زوجته أصبحت مجرد ذكرى. أحلامهم التي كانت تكبر يومًا بعد يوم انهارت مع سقف منزلهم الذي لم يستطع حمايتهم”.
ويضيف أنّ “الإعلام اختصر أريج وطفليها بعبارة ‘عائلة سوريّة’. لا أسماء تذكر، لا قصص تُروى، لا وجوه تخلّد، قصيّ وريتال، طفلان كانا يتعلّمان في مدرسة دير المخلّص في البلدة. يجيدان العربية والفرنسية، ويتحدثان الآرامية، لغة السيد المسيح، في بيتهم. لغة لا يتقنها إلّا أبناء معلولا، البلدة التاريخية التي ينحدرون منها، والتي تحتفظ بتراث لا يقدّر بثمن”. ويسأل “كيف يمكن للإعلام أن يمحو هذه التفاصيل الإنسانية؟ لماذا يختزلهم بـ “عائلة سورية” وكأنّهم لا يستحقّون أن تذكر أسماؤهم؟”
نقلت جثامين الأم أريج وطفليها إلى بلدهم الأم، حيث ووروا ثرى معلولا، وهناك في ترابها، انتهت غربتهم، فالأرض لا تنسى أبناءها.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.