لم تنم بشرّي وجُبّتها أمس الثلاثاء. كان دويّ خبر رحيل ابنها جورج جان المشط رحمة، عنصر الدفاع المدني في المركز الإقليمي في البلدة، ما زال يضجّ بين جنبات جبالها وتلالها، عابرًا غابة الأرز العتيقة إلى جبل المكمل الذي يحرسها، ليعود صداه إلى قلوب يعتصرها الألم، قلوب أهلها وعائلته وأبنائه الثلاثة. وحده جورج أغمض عينيه ربما مطمئنًا إلى تلك السيرة الجميلة التي تركها في منطقته، والتي نعاه بها المئات من بشري ومحيطها وحتى خارج قضائها، مطلقين عليه لقب “نسر بشرّي”.
“في حريقة.. مين حامل الخرطوم وبالأوّل؟ جورج المشط
حدا عالق بالتلج.. مين سحبك؟.. جورج المشط
مين جرفلك التلجات من قدام بابك؟.. جورج المشط
مين صلّحكن ببعضّكن؟.. ببيت جورج المشط
مين نزل ع الشير بالوادي وسحب الزلمة؟.. جورج المشط
مين بادر ت جاب مساعدات لكم عيلة فقيرة؟.. جورج المشط
قديش بدي عدّ؟ السما كبيرة وما رح تساعك يا جرجي الكبير…
منحبك”.
بهذه الكلمات نعى بول جبّور الراحل جورج ليختصر مسيرة تضحية يُجمع عليها كلّ أبناء منطقته وأصدقائه. هو الذي قضى أمس الثلاثاء في 13 آب 2024 “أثناء تأدية واجبه الوطني والإنساني، إبّان تنفيذ مهمة إنقاذ عمال إثر انهيار حائط في ورشة بناء في بشري”، كما نعته المديرية العامة للدفاع المدني. أنقذ جورج العامل، وهو من الجنسية السورية، من الانهيار الأوّل، لكن الانهيار الثاني للجدار كان أسرع منه، ودفع حياته فداء لإنسانيّته ونخوته وشجاعته وإقدامه.
يقول لـ “المفكرة القانونية” أندريه طوق، أحد عناصر الدفاع المدني الذي رافق جورج في سيارة المركز إلى مكان الحادثة: “تمّ الاتصال بالمركز عند الساعة الثالثة وثلاث دقائق، وصلنا عند الساعة الثالثة و12 دقيقة إلى المكان. قفز جورج من السيارة قبل إيقافها، وبلمح البصر أصبح في الحفرة لينقذ العامل، وفي اللحظة نفسها بدأ الانهيار الثاني فوقعت صخرة على رأس جورج وقتلته”.
يعترف أندريه بشدّة اندفاع جورج وحبّه لمساعدة الناس وثقته في قدراته عند حدوث أي طارئ، “دايمًا بيركض قبل الكلّ”، ليؤكّد أنّ التحقيقات مستمرّة لتحديد أسباب ما جرى.
عشرون عامًا قضاها جورج متطوّعًا في الدفاع المدني. صدر قرار تثبيته مع زملاء آخرين قبل ثلاثة أشهر فقط، “ما لحق يفرح بتثبيته، ليغادرنا باكرًا”، يقول أندريه، مؤكدًا أنّ “بشرّي لن تعود كما كانت قبل رحيله”.
اندفاع جورج وحماسته يخبر عنها “المفكرة” أيضًا ابن البلدة رئيس نادي قنوبين – بشرّي جو هيّاف فخري: “رغم كلّ التحذيرات من انهيارات أخرى في الجدار، أصرّ جورج على النزول لوحده إلى الحفرة حيث رأى الردم يغطي العامل وهي بعمق نحو ثلاثة أمتار، مخاطرًا بحياته. وما أن بدأ بإزالة الركام عن العامل الذي كان يصرخ من الألم والخوف حصل الانهيار الثاني، ليقع الردم بكامله على جورج فأصيب بعنقه ورأسه، وما لبث أن فارق الحياة”. أنقذ جورج العامل وحالته اليوم مستقرّة بعدما كُسرت إحدى ساقيه، وفارق هو الحياة.
لا يشبهه أحد
منير رحمة صديق جورج المقرّب، يصفه بغصّة وصوت متهدّج، بـ “قدوة النخوة، لا مثيل له، طافح بالحياة والفرح والمرح، محبّ لمساعدة الناس وكلّ من يقصده، كان يساعد المرضى ممّن يعجزون عن دفع تكاليف العمليات الجراحية عبر جمعها من المقتدرين، وكان الجميع يثقون فيه ولا يردّون له طلب”.
ويروي رحمة لـ “المفكرة” أنّ شابًا وقع قبل خمس سنوات عن “شير” مار جرجس بشرّي في وادي مار ليشع عن ارتفاع نحو 200 متر، توجّه جورج في منتصف الليل إلى مكان الحادث وربط جسمه بالحِّلال ونزل إلى عمق الوادي، ساحبًا جسده وأعاد جثته إلى عائلته. ومؤخّرًا، وقع شاب آخر من منطقة وعرة في وادي قنوبين يصعُب الوصول إليها، خاطر جورج بحياته وهبّ إلى نجدته ونجح في إنقاذه، ويضيف “لطالما أنقذ جورج أشخاصًا علِّقوا في أماكن صعبة بين الثلوج، وفتح طرقات لتسهيل حياة الناس”.
وجورج، كما وصفته تيا، ابنة بشرّي، على صفحتها على فيسبوك “كان منارة قريتنا بشرّي، وصخرة الكثيرين فيها، وصديق الجميع”، فيما قال له أحد أصدقائه “لمّا نكون سوا بكذا موقف صعب ما كنت اعتلّ هم ولا فكّر مرّتين، كنت أوثق إنّك بطل والبطل ما بينكسر… لمّن كون بالضيعة ويصير شي، قبل ما أركض اتّصل فيك لأنّي بعرف إنّك الشخص لي بيعمل كلّ شي من قلبه ومستحيل يقول لأ.. كان جوابك عطول ‘وين…يللا أنا واصل'”.
أما قزحيا ياسين فقد نظم له شعرًا عامّيًا يختصر بعض تضحياته وسيرته:
“بالكاد طَرحُو الصَوّت
زنودك يفتّو الصّخر.. ما يكنُّو
وقلبك عَرَق أحمر نِزِل منّو
ل جايه إنت تا تخلّصو من الموت
خِدت المَوت عنُّو”
ومع عشرات المنشورات التي ازدحمت بها صفحات وسائل التواصل الاجتماعي تحكي عن جورج وتشيّعه بحب عميق وحزن دفين، نشر أصدقاء كثر فيديوهات لجورج المقبل على الحياة، يخرج بأولاده جوردي وجايسين ولين إلى الطبيعة وأنشطتها، يتزلّج في جبل المكمل، يمارس الطيران الشراعي ويحلّق، ليعلّق أحد رفاقه “اليوم حلّق النسر ولن يعود”.
رحل جورج كما يحب، متمّمًا واجباته الإنسانية على أكمل وجه، لتشيّعه بشرّي، كلّ بشرّي ومحيطها، رافعة نعشه على الأكفّ بعد ظهر غد الخميس “جاء الوقت لنرفع جميعنا جورج كما كان يمدّ يديه ليرفع كلّ ضيّم عن ناس هذه البلاد”، يختم جو هيّاف.
تشييع تتصدره صورة رفعتها له بشري وعليها “الزّلم بتاخدُن النخّوة..ما بيموتُوا”.