في 5 كانون الأوّل 2024، عقدت محكمة الجنايات في الشمال جلسة المحاكمة الثالثة في قضية مقتل الشيخ أحمد الرفاعي في عكار في شباط 2023، واستجوبت خلالها المتّهم علي يحيى الرفاعي، وهو ابن المتّهم الشيخ يحيى الرفاعي، الرئيس السابق لبلدية القرقف الذي سبق أن استجوبته المحكمة خلال الجلسة الأولى. وفيما كان الوالد قد تراجع خلال استجوابه من قبل المحكمة عن إفادته الأوّلية التي أدلى بها في مرحلة التحقيق والتي تضمّنت اعترافه بالتخطيط والمشاركة في تنفيذ الجريمة، اعترف الابن بإقدامه على قتل الشيخ أحمد نافيًا التخطيط لذلك مسبقًا.
انعقدت الجلسة برئاسة القاضي داني شبلي، وعضوية المستشارين طارق صادق ولطيف نصر، وبحضور ممثلة النيابة العامّة الاستئنافية في الشمال، المحامية العامة ماتيلدا توما. ومثل أمام هيئة المحكمة المتهمون الخمسة الموقوفون، وهم الشيخ يحيى الرفاعي، وابنه علي، وأبناء شقيقته الثلاثة أحمد ويحيى وعبد الكريم محمد الرفاعي، بالإضافة إلى الوكلاء القانونيين لفريقي الإدعاء (المحامي عبد الرحمن الحسن ممثلًا ورثة الضحية) والدفاع (المحامين فادي الجميل، وشربل بو شعيا، و كارين أبو شعيا وإيلي عقل). كما جلس على مقاعد قاعة المحكمة أعضاء من عائلة الشيخ أحمد الرفاعي التي لم تغادر المقاعد طوال الجلسات السابقة. وكان القرار الاتهامي الذي صدر في 25 كانون الثاني 2024 عن الهيئة الاتهامية في الشمال قد اتهم هؤلاء الخمسة بجنايات الخطف والقتل وفقًا للمادتين 569 و549 من قانون العقوبات، وحيازة السلاح غير المرخّص وفقًا للمادة 72 من قانون الأسلحة والذخائر.
خلال ساعة وربع الساعة، أعادت جلسة الاستجواب رسم مسرح الجريمة في ظلّ حضور أمني لافت داخل القاعة. وبعد انتهاء الجلسة، أرجأت المحكمة المحاكمة إلى 23 كانون الثاني 2025 لاستكمال استجواب باقي المتهمين، وتحديدًا الأشقاء الثلاثة أحمد وعبد الكريم ويحيى محمد الرفاعي.
وقد اعترض الأخير على التأخير في عملية سوقهم إلى المحكمة إذ تجاوزت المدّة بين الجلسة والأخرى خمسة أشهر، علمًا أنّ المحكمة كانت قد أرجأت الجلسة الثانية في تموز 2024 بسبب عدم سوق الموقوفين. فما كان من هيئة المحكمة إلّا أن أكدت أنّ لا علاقة لها بعمليات السوق التي تناقش مع النيابة العامّة، فيما هي تلتزم بتأمين شروط المحاكمة العادلة والشفافة. في المقابل، رحبّت عائلة الشيخ أحمد الرفاعي بإجراءات المحكمة، متوقعةً بأنّ “العقاب سيطال المجرمين”، فيما التزم فريق الدفاع عن المتّهمين بالصمت، رافضًا التصريح للإعلام. وتجدر الإشارة إلى أنّ القانون يفرض على محاكم الجنايات أن تتابع جلساتها يومًا تلو الآخر إلّا في حالات استثنائية حيث تُرجأ الجلسة إلى موعد قريب (المادّة 249 من قانون أصول المحاكمات الجزائية)، لكنّ محاكم الجنايات في مختلف المحافظات اللبنانية تمتنع عن تطبيق هذه القاعدة.
“لم أكن متوجّهًا لقتله، ولكن حصل ما حصل”
عند الساعة الثانية إلّا عشر دقائق، بدأت الجلسة بسؤال رئيس المحكمة القاضي داني شبلي المتهم علي يحيى الرفاعي عن صحّة إفاداته أمام الضابطة العدلية وقضاء التحقيق، وما تضمّنته من اعترافات. فبادر علي بالنفي، مدّعيًا أنّها “جاءت تحت الضغط واستخدام العنف الجسدي والمعنوي”، وقال: “لم يسمحوا لي بالتحدّث بحرّية أمام قاضي التحقيق”، وأردف أنّ “هناك تسييس للملف واستهداف لوالدي الشيخ يحيى الرفاعي”.
منطلقًا من سياق حديث علي، سأله رئيس المحكمة: “هل أنت مهدّد الآن؟” فبادر علي بالنفي. وأضاف القاضي: “هل أنت مرتاح الآن”، فجاء جواب المتهم بالإيجاب. ليأتي السؤال الصريح من هيئة المحكمة: “هل أنت من قتل الشيخ أحمد الرفاعي؟” فما كان منه إلّا أن اعترف اعترافًا مشروطًا: “نعم، لقد قتلته ولكن من دون أن تكون لديّ النيّة. ولم أكن متوجّهًا لقتله، ولكن حصل ما حصل”.
تطرّق المتّهم علي إلى الأجواء المحيطة بالجريمة التي جاءت بعد خلاف استمرّ أكثر من 10 سنوات مع الشيخ أحمد الرفاعي، لافتًا إلى أنّ الضحية كان ينتقدهم باستمرار على مواقع التواصل الاجتماعي، ويصل به الأمر إلى حد التشهير.
استفزّ كلام علي والدة المغدور الشيخ أحمد التي كانت تتّكئ على عكّازها، وتجلس في الصف الثاني. رفعت صوتها في وسط القاعة، متّهمةً علي ووالده بالإجرام والظلم. فما كان من رئيس المحكمة إلّا أن أمر بإخراجها من القاعة لمخالفتها الانتظام داخل الجلسة، وتوجّه إلى الوكيل القانوني للعائلة بضرورة منع تكرار ما حدث. من جهته، تعهّد المحامي عبد الكريم حسن بعدم تكرار المخالفة، وقال إنّه أبلغ الأهل سابقًا بضرورة ضبط النفس.
الاستدراج عبر “واتساب”
تحدّث المتّهم علي عن أسلوب استدراجه للشيخ أحمد والهدف هو بحسبه: تهديده للكفّ عن استهداف يحيى الرفاعي وعائلته، وتسليمه للقوى الأمنية التي زعم المتّهم أنّ علاقة وثيقة تربطه بها. وروى أنّه اشترى خط هاتفي أجنبي وشغّل عليه تطبيق واتساب، وبدأ بالتواصل معه على أنّه فتاة، وأفاد أنّ تواصله مع الشيخ استمرّ لأيام استخدم خلاله أسلوب الإغواء، وصولًا إلى استدراجه إلى خلف الجامعة العربية في الميناء (طرابلس).
هنا سأله القاضي: “هل أبلغت أحدًا بخططك لاستدراج المغدور؟” فأجاب أنّه أخبر أولاد عمّته الثلاثة بأنّه “رح يعملّو فركة إدن” وطلب منهم مرافقته. وأضاف: “حدّدت موعد اللقاء عند الرابعة خلف الجامعة العربية (…) وعندما وصلنا حاصرنا السيارة من الأمام والخلف بواسطة سيارتين أملكهما من نوعية ألتيما وكِيا، ترجّلنا واتجهنا نحو الشيخ وكنا نرتدي أقنعة”. وتابع: “تعرّف عليّ الشيخ أحمد من خلال صوتي، وأدرك أننّي انتحلت صفة فتاة لاستدراجه”، وتطوّر الأمر إلى التلاسن، فقام المتهم علي بضرب المغدور على رأسه بكعب مسدّس كان يحمله، معترفًا بأنّه “كان يحوز في السيارتين أسلحة كلاشينكوف ومسدسات، وأصفاد”.
“أطلقت رصاصتين نحو الصندوق”
“بعد ضرب الشيخ أحمد، وتكبيل يديه بالأصفاد، وربط رجليه بالحبال”، بحسب رواية علي، وضعه داخل صندوق سيارة الـ “كِيا سيراتو” سوداء اللون ذات زجاج داكن، وقادها بنفسه، فيما قاد سيارة الشيخ ابن عمّته المتّهم أحمد. وتوجه الشبّان المتهمون إلى حديقة عامة في منطقة أنفة (قضاء الكورة)، وعلى الطريق كان المغدور يصرخ، ويضرب الصندوق. وعند الوصول إلى المكان، طلب علي من المتهمين يحيى وعبد الكريم المغادرة، فيما بقي المتهم أحمد برفقته.
ادّعى علي بأنّهم كانوا يبحثون عن مكان “للتفاهم مع الشيخ أحمد”، فتوجّه الشابان إلى رأس مسقا (قضاء الكورة)، وركنا السيارة في مكان قريب من مستشفى الهيكلية، عندها ترك أحمد سيارة الشيخ على طرف الطريق، وركب إلى جانب علي الرفاعي، وواصلا الطريق. استمرّ الشيخ بالمقاومة والصراخ، فترجّل المتهم علي من السيارة واتّجه نحو الصندوق، وقال في إفادته إنّه فتح الصندوق فوجد الشيخ وقد تمكّن من تحرير رجليه، حينها بدأ الشيخ بركله فما كان منه إلّا أنْ أطلق رصاصتين نحو الصندوق وأدخل رجلي الشيخ وأغلق الصندوق. وتابع أنّه أكمل مسيره لنحو 200 متر ولكن “لم أعد أسمع صراخًا وضربًا داخل السيارة، فقلت لأحمد ربّما أصبته، وعليّ التأكّد من ذلك فركنت السيّارة وفتحت الصندوق ورأيت دماءً”. وتابع: “أقفلت الصندوق فورًا وقلت لأحمد بأنّي سأحاول إدخاله المستشفى. واستدرت حول المستشفى مرتين إلى ثلاث مرّات لكن خفت أن ينكشف أمرنا”، على حد زعمه.
المراوغة لإخفاء الجريمة
وفقًا لعلي، عاد هو وأحمد إلى مكان ركن سيارة الشيخ المغدور قرب مستشفى الهيكلية، وأضاف: “نزلنا أنا وأحمد من السيارة لنقله إلى سيارته فوجدناه ميتًا وبدأنا رحلة البحث عن مكان لدفنه”.
وقال إنّه نزع لوحات سيارة الشيخ ورمى المفاتيح لكي لا تُكتشف. وأشار إلى أنّهما عادا إلى خلف الجامعة العربية، ولكن “ما مشي الحال لأن كان في عجقة ناس”، من ثم اتجه نحو البداوي، فلم يجد مكانًا أيضًا، حينها خطرت بباله فكرة رميه في مكب النفايات الواقع في منطقة نهر البارد – بحيرة عيون السمك.
نفى المتهم علي الكشوف التي تؤكّد أنّ الحفرة التي وجدت فيها جثّة الشيخ، أعدّت مسبقًا بواسطة جرّافة، وأضاف أنّه وضع الجثة في جلّ، بالتعاون مع أحمد وغطّاها بالتراب وبعض أكياس النفايات. ومن ثمّ توجّه كلّ من المتهمين علي وأحمد إلى منزله من دون إخبار أحد بما حصل، نافيًا اتّصاله بالمتهمين الآخرين.
عن العلاقة مع الأجهزة الأمنية
خلال الاستجواب، اعترف المتّهم علي بأنّه كان يلبس زيّ أحد الأجهزة الأمنية ويحمل أصفادًا، زاعمًا وجود علاقة تربطه بالأجهزة الأمنية (الدرك) التي كانت تلجأ إليه لاستعارة سيارات (بسبب امتلاكه معرضًا) للقيام بالمداهمات، كما أنّ أحد الأجهزة هو من كافأه بتزويده بالأصفاد، وسترة عليها شعار الجهاز.
في المقابل، تحدث علي عن “فبركة ملف ضدّه وضد والده الشيخ يحيى لأسباب سياسية”، وهو ما دفع هيئة المحكمة للسؤال عن التناقض في كلامه، فهو من جهة يتّهم الأجهزة باستهدافهم، ومن جهة يؤكّد على وجود علاقة وثيقة تربطه بها. وقد تمسّك فريق الدفاع عن المتهمين بوجود تدخّل سياسي في الملف، وهو ما كان واضحًا من خلال الأسئلة التي طرحها خلال الجلسة، والإشارة إلى زيارة أحد العمداء للمتهم علي في نظارة شعبة المعلومات لدى قوى الأمن الداخلي بعد توقيفه، وعلى حسب قوله “سمعت أحد العناصر المقنعين يقول أثناء توقيفي “نحن من أعطينا العمامة لوالدك ونحن من سننزعها”.