هي لحظة تستيقظ فيها من كابوس حالماً أن هناك من يطاردك ويطارد أصدقاءك محاولاً قتلكم لإسكاتكم وإلغاء وجودكم من هذا المجتمع. هي لحظة يتحوّل فيها الشارع والفضاء العام في ذهنك – وفي الواقع – إلى ساحة عنف وحرب ضدّك، تطال أصدقاءك وبعض أفراد أسرتك وزملاءك. هي لحظة تعيد بها النظر بلباسك وبمظهرك لأنه قد يكون مستفزاً لهم. هي لحظة تعيد النظر وتردع فيها إيماءات وكلمات وعبارات وأفكار قبل خروجها منك كتابة أو قولاً أو فعلاً في العلن لتدفنها في أجوافك، تحسباً لما قد يسفر عنها من ردة فعل ضدك أو ضد أسرتك أو مؤسستك أو محيطك. هي لحظة تتحوّل فيها أنت الى عميل للرقابة، رقابة معتقداتك وأفكارك وحرياتك وإبداعك. وهي لحظة تجد فيها أن مواقفك ودفاعك عن الحقوق والحريّات، أن دفاعك عن حقوق المثليين والعابرين جنسياً والمرأة والإبداع الفنّي وحريّة الصحافة وغيرها، تجد أن أياً من هذه الأمور قد يؤدّي بخسارة لك، خسارة شخصية واجتماعية وتجارية ومهنية، فتبدأ بتلطيف الموقف وتلميعه قبل تفاديه نهائيا أو التراجع عنه. هذه اللحظة هي لحظة مأسسة الإرهاب، لحظة نجاح النظام المستجدّ ببسط سلطته عليك من خلال تعميمه لهذا الإرهاب على أفراد المجتمع وإرساء معادلة قوامها البلطجة والعنف لفرض القمع والحكم المطلق.
استخدام الهلع لفرض القمع
في مقالة سابقة، ذكّرت بكتاب ميشال فوكو “المراقبة والعقاب” حيث أورد أن هندسة ضبط الفضاء العام أمام تفشي الطّاعون، في مملكة فرنسا في القرن السابع عشر، شكّلت حجر الأساس لهندسة البانوبتيكون (Panopticon) لاحقاً، والذي صممه جيريمي بنثام في القرن الثامن عشر لبناء السجون. والهدف: السماح بمراقبة جميع السجناء من دون أن يكون هؤلاء قادرين على معرفة ما إذا كانوا فعلياً موضع مراقبة أم لا. وقد تطوّر تصميم بنثام ليتحوّل إلى أداة سلطة ومركز للقوة غير المرئية، فاعتمدته الأنظمة القمعية والديكتاتورية لمراقبة شعوبها والسيطرة عليها محوّلة أفراد مجتمعاتها إلى مُراقبين ومخبرين عن بعضهم البعض. هذا المشهد لا يزال أليفاً اليوم. وما حاولت السلطة الحاكمة في لبنان فرضه في ظل جائحة الكوفيد في اتجاه وضع حدّ للحراك الشعبي، ها هي تعيد تدويره اليوم من خلال استخدام الفزاعة والهلع من المثلية لهندسة “بانوبتيكون” مستجدّ لها، فيتحوّل الجار والصديق والأخ والزميل إلى مخبرين للنظام، لا بل يتحوّلون الى أدوات قمع له، يتكتلون أحياناً في عصابات مسلحة وجمعيات أشرار تترجم قمع هذا النظام الى إرهاب ممأسس في الشوارع، يمتدّ من صور مروراً بصيدا وبيروت وصولاً إلى طرابلس.
فهو كالسرطان، امتدّ بشكل خبيث قبل أن ينفجر في أجواف الدولة، ليحوّل ما تبقّى من فتاتها إلى جمهورية للبلطجة والعنف. ومشاهد البلطجة والعنف التي تشهدها البلاد منذ أشهر تتزايد لتتحوّل إلى مشاهد مألوفة تطبع البيئة اللبنانية وصورة لبنان، في صمت مفجع للمؤسسات العامة والخاصة في البلد، تؤدي رويداً رويداً إلى التطبيع معها. وآلية التطبيع بسيطة، فهي تبدأ مع الفئات الأكثر هشاشة وتهميشاً في المجتمع، مثل اللاجئين والعابرين جنسياً والمثليين، والذين يفترض أنهم غير قادرين عن الدفاع عن أنفسهم، لتمتدّ بعدها وتدريجياً إلى سائر أفراد المجتمع، فتطال على التوالي: الناشطات والفنانين والعمّال والصحافيات والأساتذة والأكاديميين، لتصل وتطال الجميع في نهاية المطاف، فيكون قد فات الأوان.
في الواقع، هذا السرطان ليس نابعاً عن جهل أو عن أصولية مفرطة أو عن تصادم مزعوم للثقافات، فلا نتوهّم. لهذا السرطان عوامل ودوافع متقاطعة، وراؤها من يفكّر ويحسب ويخطط ويموّل وبالتالي يستخدم الهلع والجهل ويفبرك عنوة الأخبار الكاذبة بالجملة للتحريض، تمهيداً لنهوض الجمهورية التي يطمح بها ليحكم فيها من دون أي حسيب أو رقيب، فيحوّل الإفلات من العقاب والفساد والجريمة إلى مؤسسات بنيوية لجمهورية أحلامه.
والواقع أيضاً أن هذا السرطان ليس مرضاً محلّياً معزولاً عن محيطه. وسرعان ما يتبيّن أنه هو الآخر جائحة عابرة للبلدان والقارات. فمن الولايات المتحدة، مروراً بأوغندا وصولاً إلى العراق ولبنان، تتوالى المواقف والقرارات الرّسمية والبلطجة في الشوارع، المعادية كلّها للعابرين جنسياً والمثليين والصحافيين والأساتذة إلخ. وذلك فقط في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية من هذه السنة، وكأنما هناك كلمة سرّ مفادها استخدام فئات اجتماعية هشة وتحويلها إلى كبش فداء يُحمّل فشل أنظمة هذه الدول، ويتمّ من خلاله تحوير النقاش العام عن مسائل أساسية أخرى (مثل الانهيار المالي والمصرفي وجرائم كبرى أو تفجير مرفأ بيروت أو الإجراءات المعادية للديمقراطية الخ.). أمّا القمع فهو متقاطع، لا يطال العابرين أو المثليين وحسب، بل يطال أيضاً حرية التعبير والصحافة (لبنان والعراق) وحقوق الأساتذة (أوغندا ولبنان والولايات الأميركية) وحقوق النساء (إيران أو الولايات الأميركية مؤخراً تبعاً لنقض الحكم القضائي في قضية “رو ضدّ وايد”) إلخ.
السرديات الرسمية متشابهة: أجندات أجنبية (تتحول الى أجندة “يسارية” – “woke culture” – في الولايات المتحدة) مرتبطة بتمويل مزعوم (وهنا تكرر أسماء “سوروس” أو “البنك الدولي” أو حتى “الولايات المتحدة” الخ.)، من دون حاجة طبعاً لإثبات المؤامرة. ففي بلد المؤامرات المفرطة للإفلات من المحاسبة، الشكّ وحده يكفي لتحوير انتباه الرأي العام من جرم النظام (الثابت) إلى “خطر داهم” منتج من مُخيّلة هذا النظام. أمّا التوصيات (أو الأوامر)، فهي أيضاً متشابهة: قمع وملاحقة ومعاقبة وصولاً إلى التلويح بعقوبة الإعدام أحياناً أو فرضها قانونا أو الإصرار على فرض مصطلح “الشذوذ الجنسي” البائد بدل من “المثلية الجنسية” (على غرار ما ذهب إليه خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله مؤخراً أو قرار هيئة الإعلام والاتصالات العراقية الآيل إلى حظر استخدام مصطلحات “المثلية الجنسية والجندر والنوع الاجتماعي” في جميع وسائل الإعلام وشركات التواصل الاجتماعي العاملة في الدولة العراقية). كل ذلك مقابل إفلات المسؤولين المفجع من المحاسبة والعقاب في الجرائم الكبرى. هذا فضلا عن استخدام ضوضاء محاربة المثلية من أجل التغطية على فضائح جنسية ظهرت في العلن مؤخراً، تتعلق بمسؤولين إيرانيين محافظين ورفيعي المراكز يقومون بعلاقات جنسية مثلية في السرّ فيما يمعنون بقمع الحقوق والحريات في العلن.
ففضاء السياسة لا يتفق والصدف، وسرعان ما تظهر الأجندات الخفية إلى العلن. لكن غالباً ما تكون لتلك الأجندات، تداعيات اجتماعية خطيرة ومدمّرة للأكثر هشاشة وتهميشاً في المجتمع، بعيداً عن أهداف الأجندات المستترة. للتذكير، بين 30 حزيران و2 تموز 1934، نفذ أدولف هتلر سلسلة من عمليات الإعدام لأجل تعزيز قبضته على السلطة وقضم دور إرنست روم (Ernst Röhm) وكتيبة العاصفة (SA)، شبه العسكرية التابعة للحزب النازي، وتالياً الحدّ من نفوذها في ألمانيا النازية. وإذ اعتبر النظام النازي آنذاك عمليات الإعدام (التي عُرفت لاحقاً بـ “ليلة السكاكين الطويلة”) بمثابة إجراء وقائيّ ضدّ انقلاب وشيك مزعوم من قبل (SA) تحت قيادة روم، فإنه استخدم مثلية روم الجنسية كذريعة لتأجيج معاداته اجتماعياً، الأمر الذي أسفر تباعاً عن تشدّد غير مسبوق في ملاحقة وقمع واضطهاد المثليين في ألمانيا آنذاك بفعل تطبيق الفصل 175 من قانون العقوبات الألماني الشهير (وقد تمّ تصديره لاحقاً إلى لبنان أيّام الانتداب الفرنسي وحكومة فيشي (Vichy) المقربة من النازيين، فأصبح المادة 534 من قانون العقوبات). واليوم، يبدو أننا لسنا بعدين عن ليلة سكاكين طويلة محليّة تُلوّح في الأفق لتُستخدم سياسياً، هي الأخرى، لصالح أجندات مستترة، تضرب بعرض الحائط كلّ التطوّر العلمي والاجتماعي والحقوقي والنضالي الذي شهدته السنوات الماضية، وتعيدنا الى زمن أشبه بزمن ألمانيا النازية وأنظمة القمع والقتل التي مثلتها.
ثقافة مُستوردة من “الغرب”
على عكس ما توحي به السردية الرسمية، الدفاع عن حقوق المثليين لا يتأتّى عن ثقافة “مستوردة من الغرب”، بل هو انعكاس طبيعي لتطوّر المقاربة الحقوقية تبعاً للثورة الفرنسية ومن بعدها الحرب العالمية الثانية، وهي مقاربة باتت بالمناسبة جزءاً لا يتجزأ من التزامات الدولة اللبنانية الدولية. والواقع أن تجريم المثلية، هي الثقافة التي فُرضت علينا من ذاك “الغرب” أيام الانتداب الفرنسي. وفي حين تحرر لبنان من الاستعمار سياسياً وعسكرياً سنة 1943، فهو لم يتحرر كلياً من رواسب هذا الاستعمار، لا سيما في قسم من قوانينه. وهذا ما اثارته مراراً حركات حقوقية معتبرة أن إسقاط المادة 534 من قانون العقوبات إنما أمر تحتّمه المقاومة المستمرّة لرواسب الاستعمار في لبنان.
وما تمّ استيراده من “الغرب” أيضاً اليوم، هو خطاب الكراهية المستجدّ ضدّ المثليين والعابرين وبخاصة في عدد من الولايات الأميركية والتي تسيطر عليها أحزاب سياسية محافظة. ففي ولاية فلوريده مثلاً، تمّ مؤخراً تقديم اقتراح تشريع معادٍ للمثلية يتيح حتّى للأطباء رفض إعطاء العناية الصحية للمثليين، إن كان هذا الأمر لا يتّفق مع معتقداتهم. لا بل أن هناك قوى أميركية تنشط عالمياً للترويج لكراهية المثليين. ففي أوغندا مثلاً نجحت البعثات الإنجيلية الأميركية في التأثير على المشرّع المحلي الذي أصدر قوانين في 2023 تجرّم المثلية و”الترويج لها”، والتي قد تصل عقوبتها إلى الإعدام.
بالمقابل، فمن الملفت أنه على عكس موجة الكراهية المتفشيّة، ظهر موقف بابا روما (البابا فرنسيس) مؤخراً كموقف متقدم ومعاكس لتيّار الكراهية باعتباره أن المثلية لا يجب أن تكون مجرّمة، بمعزل عن المعتقدات الدينية منها، ذاهباً حتى الى حد فتح الباب أمام إمكانية مباركة الكهنة الكاثوليك للأزواج المثليين، وهو موقف مهّم جداً نظراً لتأثير روما على الكنيسة والسياسة في لبنان، لا سيما في بعض أوساط الأحزاب السياسية اللبنانية.
المس بركائز العيش المشترك
بالإضافة إلى المخاطر التي سبق لي أن أسلفتها إزاء إرساء خطاب الكراهية هذا لنظام مستجدّ للقمع، فإنه يهدّد أيضاً بشكل مباشر وخطير العيش المشترك في مجتمع متعدد مثل المجتمع اللبناني. فهذا الخطاب يحرّض عملياً ضدّ إحدى الفئات الاجتماعيّة، وهي فئة منتشرة في المجتمع وعابرة لطوائفه، نجدها بين الأصدقاء والزملاء وداخل الأسر. وفيما ليس من شأن أدوات القمع أن تلغي وجود هذه الفئة، فإن من شأنها تخويف أفرادها أو تهجيرهم مما يضعف إرادتهم في العيش المشترك الذي يشكل إحدى أهم ركائز سلامة المجتمع.
أما المسؤولون عن خطاب الكراهية هذا وتداعياته فنجد أسماءهم على لائحة تطول تبدأ من وزير الداخلية بسام مولوي ووزير الثقافة محمد مرتضى ومن اقترح مشاريع قوانين معادية لإنجاز مكاسب سياسية وصولاً إلى بعض المراجع الدينية وبعض القضاة وحتى بعض النقابات المهنية، فيتحملون هم أيضاً مسؤولية تداعيات هذا الخطاب التي بدأت تتبلور بارتكاب جرائم عدة أهمها تكوين مجموعات “الجنود” الأشرار (جمعيات الأشرار المعاقب عليها بالمادة 336 من قانون العقوبات) ومنع اللبنانيين من ممارسة حقوقهم المدنية (المادة 329 و330 من قانون العقوبات) والحضّ على النزاع بين مختلف عناصر الأمة (المعاقب عليها بالمادة 317 من قانون العقوبات) والتحريض على اقتراف جرائم ضدها (المواد 217 و218 من قانون العقوبات). فالسلطة مسؤولية وليست موقع للتسلّط والبطش.
ما العمل؟
اليوم، بفعل اضمحلال مؤسسات الدولة وأجهزتها وعجزها المزمن عن انقاذ المجتمع والدفاع عنه وحمايته، يقتضي التفكير بدور مختلف عناصر المجتمع المدني، من مؤسسات خاصة وجامعات ونقابات مهنية وعمّالية ومؤسسات تجارية وحتى مؤسسات دينية، لمواجهة هذا الخطاب ومقاومة نظام القمع الذي يحاول فرضه علينا. فما هي سبل التكافل والتضامن المجتمعي الواجبة والممكنة لإنقاذ ما تبقى من الدولة وإعادة إرساء ثقافية حقوقية فيها، تطمح إلى بناء جمهورية حاضنة للجميع هدفها الإنتاج والنمو وليس القمع والتدمير؟ لا يعقل أن نخضع للإرهاب، ولا يعقل أن نفقد الأمل في استعادة البلد… بلد لنا جميعاً، مهما اختلفنا.