أصدرت جمعية المصارف بيانا في تاريخ 6/2/2023 أعلنت فيه إضرابا مفتوحا، وذلك في نهاية اجتماع عقدته جمعيتها العمومية. وإذ جاء هذا البيان ردا على تطورين قضائيين، فإنه خلا من أي ذكر صريح لهما. التطور الأول تمثل في القرار الصادر عن محكمة التمييز بتاريخ 1/2/2023 والذي اعتبر ضمنا أنّ تسديد الوديعة عبر شيك مصرفي لم يعدْ يحمل القوة الإبرائية مجيزا متابعة إجراءات الحجز على موجودات مصرف فرنسبنك. وقد اعتبرت الجمعية أنّ هذا الحل الفردي يأتي على حساب بقية المودعين وأنّ عدم الاعتراف بالشيك الذي يودع لدى كتّاب العدل من قبل المصارف سيؤدّي إلى التحوّل إلى التعامل النقدي حصرا، وهو ما يجعل مكافحة تبييض الأموال أمرا مستحيلا، إضافة إلى استحالة تأمين السيولة لذلك. وأضاف بيان الجمعية أنّ الحل لهذه الأزمة “النظامية” يتمثّل بإقرار قانوني الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة المصارف، من دون أن يكون هناك من داعٍ لربط مصيرهما ببعضهما البعض.
أما التطوّر القضائي الثاني فقد تمثل في ما أسماه البيان استدعاءات “تعسّفية” بحق المصارف بشبهة تبييض الأموال. وقد فُهم لاحقا بحسب ما تناقلته وسائل الإعلام، أنّ هذا التطوّر تمثّل تحديدا بإجراءات استكمال الملاحقة التي كانت باشرتها النائبة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان القاضية غادة عون ضدّ 7 مصارف منذ 2021 على خلفية حصولها على قروض من مصرف لبنان تزيد قيمتها على 8 مليارات د.أ بعد بدء أزمة 2019. وقد فهم أن الإجراءات التي تعترض عليها المصارف تتّصل بطلبات النيابة العامة بتسليمها معلومات عن الحسابات المصرفية العائدة لمدراء هذه المصارف على أساس القانون رقم 306/2022 والذي أسقط السرية المصرفية عن هؤلاء (المادة 2 منه). كما يشمل اعتراض المصارف في بيانها الادّعاء الجديد الذي بادرتْ إليه النيابة العامّة ضدّ عدد من مدرائها سندا للمادة 8 من القانون نفسه والتي تعاقب كلّ من يمتنع عن الاستجابة لطلبات رفع السرية من قبل القضاء بالعقوبة نفسها لتبييض الأموال (من 3 إلى 7 سنوات حبس بالإضافة إلى غرامة لا تزيد عن مثليْ المبلغ موضوع التبييض).
وفيما ادّعت المصارف في بيانها أن من شأن هذه الإجراءات أن تلزمها بمخالفة قانون السريّة المصرفيّة، يفهم من ذلك أنها تعتبر أن النيابة العامة تجاوزت في مطالبها ما يجيزه لها قانون 306/2022 المطالبة به، مما قد يعرضها في حال الإذعان لهذه المطالب لإفشاء السرية خلافا لهذا القانون. وقد اتّضح أن الخلاف بين النيابة العامة والمصارف يتمحور بالدرجة الأولى حول سريان رفع السرية المصرفية الحاصل بموجب القانون 306 على المعلومات المصرفية السابقة لوضعه. ففي حين ترى النيابة العامة أن القانون يطبّق حكما بصورة رجعية سندا لصراحة المادة 2 من القانون، تكرّر جمعية المصارف ادّعاءها أن القانون يطبق بصورة آنية على المعلومات اللاحقة لهذا القانون حصرا، تماما كما كانت حاولت تكريسه في نص القانون عند مناقشته في اللجان النيابية من دون أن تنجح في ذلك. ومن اللافت أن اعتراض المصارف على مطالبتها ببيانات مدرائها المصرفية قد اقترن مع توجّهين متناقضين: الأول، التحذير من أن من شأن إعطاء المعلومات عن هؤلاء أن يؤدي إلى إفشاء معلومات عن شرائح واسعة من المجتمع وفتح باب الاستغلال والابتزاز وذلك بهدف تظهير المشكلة على أنها مشكلة عامّة وليست مصرفية فقط، والثاني، المطالبة بقانون يرفع السرية المصرفية بشكل كامل وبمفعول رجعيّ وذلك في مزايدة تتناقض تماما مع تخوفها من مفاعيل رفعها ولا تفهم إلا على أنها مسعى لتوسيع دائرة الاعتراض ضد رفع السرية المصرفية لتشمل جميع القوى النافذة.
هذا البيان بما أعلنه وتضمنه، إنما يستدعي الملاحظات الآتية:
الكابيتال كونترول بالقانون كبديل عن نظام الشكّ المصرفي
لم تُخفِ جمعية المصارف أنّ أحد أسباب غضبها (وتاليا إضرابها) هو التوجّه القضائيّ بعدم الاعتراف بالشيك المصرفي على مصرف لبنان كوسيلة إبراء، وهو التوجّه الذي اعتمدتْه محكمة التمييز في قرارها المذكور أعلاه. ويتأتّى ذلك من كون سحب الشيكات على مصرف لبنان شكّل منذ تشرين الأول 2019 الوسيلة الفُضلى للمصارف، للتذرّع بأنها توفي ديونها من دون أن توفيها فعليا، وتاليا للتصدّي وبناء دفاعها ضد مطالب المودعين بتسديد ودائعهم أو الدعاوى بإعلان إفلاسها. وتحديدا، كانت المصارف قد عمدت إلى مواجهة أيّ مطلب يردها من أيّ مودع بإغلاق حسابه وإيداع شيك مصرفي بقيمة وديعته مسحوب على مصرف لبنان لدى الكاتب العدل بموجب عرض وإيداع فعلي، معتبرة أنها بذلك أوفت دينها. وفي حال قبول هذا العرض الفعلي، كان المودع يجد نفسه عاجزا عن قبض الشيك من مصرف لبنان، بل جلّ ما بإمكانه فعله هو إعادة وضع الشيك المذكور في حساب مصرف آخر لقيد قيمته فيه من دون إمكانية سحب وديعته نقدا (هذا إذا تمكن من فتح حساب مصرفي جديد) الأمر الذي يدخله “في دوامة لا تنتهي من القيود على حقه بتحريك أمواله والتصرّف بها” (وقد ورد هذا التوصيف في القرار الصادر بتاريخ 17/12/2021 عن قاضية الأمور المستعجلة كارلا شواح). وقد أضافت القاضية شواح في قرارها المذكور أن إلزام المودع بقبول الشيك المصرفي هو “تقييد للحرية وإكراه على التعاقد مع مؤسسة مصرفية، وإلغاء للحق في الاستغناء عنها وعن غيرها، وإنهاء لمبدأ حرية التعاقد”.
وفي حين رفضت العديد من المحاكم اعتماد الشيك كوسيلة إبرائية لتنتهي إلى إبطال العروض الفعلية أو قبول طلبات مستعجلة بإجراء تحويلات إلى الخارج، فإن جديد القضية التي انتهت بقرار لمصلحة المودع أمام محكمة التمييز، أنها فتحت الباب أمام استخدام الشيك كسند تنفيذي ضد المصارف، مع ما يستتبع ذلك من إمكانية إلقاء الحجز على موجوداتها، من دون أن يكون بإمكان المصارف استخدام أيّ من تعاميم مصرف لبنان أو النصوص القانونية المعمول بها لدفع الدعاوى عنها. فبذلك، تصبح المصارف أمام خطر فعلي بإعلان إفلاسها، وبخاصة بعد انتهاء اعتكاف القضاة، ما لم يتدخّل المشرّع صراحة لإعفائِها من مسؤولية تسديد قيمة الودائع. وهذا ما دفعها للمطالبة بإقرار اقتراح الكابيتال كونترول كخيار ضروري بعدما كانت عارضتْه من قبل حين كانت تتوسّل الحلول لتوقفها عن الدفع من نظام الشيك المصرفي.
ممانعة رفع السرية المصرفية
يتضمن البيان أيضا احتجاجا واضحا على الاستدعاءات القضائية الأولى لتطبيق القانون 306/2022 الصادر في تاريخ 28/10/2022، وهي الاستدعاءات الصادرة عن النيابة العامة في جبل لبنان والمذكورة أعلاه. وقد عكس مضمون البيان ممانعة واضحة لتنفيذ هذا القانون. ونستشفّ هذه الممانعة ليس فقط في سوء النية الواضحة في تفسير القانون وإنما أيضا في تهديد المسؤولين السياسيين بصورة واضحة بأنهم لن يكونوا بمنأى عن الأضرار التي قد تنجم عن تنفيذه. فكأنّما المصارف تجهد لبناء تحالف سياسيّ ومصرفيّ لتقويض مفاعيل هذا القانون الذي أقرّ في ظرف ضاغط والحؤول دون تنفيذه.
سوء النية في تفسير قانون رفع السرية المصرفية
أسقط قانون رفع السرية المصرفية صراحة السرية المصرفية عن مدراء المصارف الحاليين والسابقين منذ 23/9/1988 وحتى تاريخه، ما ينفي بشكل بيّن ما تتذرّع به المصارف لجهة عدم الرجعية للامتناع عن إعطاء معلومات عن قيود مصرفية سابقة لإقرار القانون في 28/10/2022. وما يدلّل أكثر فأكثر على سوء نية المصارف في تفسير القانون هو أن مبدأ عدم رجعية القوانين لا ينطبق أصلا على هذا القانون من دون حاجة لاستبعاده صراحة، طالما أن هذا المبدأ ينحصر في الحالات التي تنشئ جرائم جديدة أو تشدّد عقوبات على جرائم سابقة، ولا ينطبق بالمقابل على القوانين الآيلة إلى إلغاء جرم أو تضييق حالاته (جرم إفشاء السرية) أو المتصلة بوسائل الإثبات أو الاطلاع على مستندات كما هي حال هذا القانون أو الحدّ منها. فمثلا، إذا نص قانون جديد على أصول لتفتيش المنازل من دون ورود نصّ صريح على رجعيته، لا يتخيّل أنه يطبّق فقط على تفتيش المنازل التي يتمّ تشييدها بعد صدوره بل يطبّق فور نفاذه على جميع المنازل بمعزل عن تاريخ إنشائها ويكون أي قول معاكس مجرّد عبث. وهذا تحديدًا ما ذهب إليه الرأي القانونيّ الصادر عن صندوق النقد الدولي الذي ذكر أن القانون يكون من حيث المبدأ قابلا للتطبيق على الحسابات والقيود السابقة أيضا طالما أنه لا يرتّب أي التزامات عن الماضي، حتى ولو لم يتضمن نصّا صريحا بهذا الشأن.
بناء تحالف سياسي مصرفي لتقويض تطبيق قانون السرية المصرفية
فضلا عما تقدم، نستشفّ من البيان مسعى لجمعية المصارف لبناء تحالف سياسي مصرفي لتقويض مفاعيل قانون رفع السرية المصرفية. وهذا ما نقرأه فيه حيث ورد أنّ طلب رفع السرية المصرفية الحاصل سيكشف “معلومات مصرفية بصورة رجعية عن شرائح كاملة من المجتمع لا تقتصر أبدا على إدارة المصارف، حيث أُعلمت الأخيرة شفهيا أنها ستمتدّ إلى شرائح الموظفين أي إلى كلّ من تعاطى ويتعاطى بالقطاع العام وذلك كله دون أي تبرير أو تحديد واصطيادا لما يرشح عن هذه المعلومات من مواد يمكن استغلالها”. ويتبدّى من ذلك أنّ جمعية المصارف توجّه رسالة واضحة إلى المسؤولين السياسيين بأنّ طلبات رفع السرية المصرفية تطال العديد منهم وأن الاستجابة لها لا يضرّ فقط بالمصارف إنما بهم أيضا وأن ثمة مصلحة لهم إذًا بالتعاضد مع المصارف لكبح نفاذ هذا القانون قبل وقوع الضرر. فكأنما المصارف تذكّر وتقرّ ضمنا بالترابط بين حسابات المصرفيين وحسابات كبار المسؤولين، وبخاصة في العمليات المالية الحاصلة غداة الأزمة. وهذا ما كان أشار إليه الصحافي المتخصص محمد زبيب لجهة “أن بعض المصارف عمدت إلى اقتراض مليارات الدولارات من احتياطي مصرف لبنان، وقام المصرفيون بتهريبها إلى الخارج لحسابهم ولحساب حفنة من النافذين والأصحاب وكبار المودعين”.
أما أن تنهي جمعية المصارف بيانها بالدعوة إلى إقرار قانون برفع السرية المصرفية بشكل كامل وبمفعول رجعي، فإن صدوره عنها (هي التي جهدت دائما خلال المناقشات النيابية لمنع أي مس بالسرية المصرفية) لا يفهم إلا في السياق نفسه. أي بمعنى أنها تتوعّد بأن انكشاف المصرفيين لا يحصل من دون انكشاف الجميع وأن الخيار المطروح هو إذا إما التمتع بالسرية للجميع وإما الفضيحة وربما المحاسبة.. للجميع أيضا.
المجتمع كرهينة حتى تحرير المصارف من القضاء
الملاحظة الأخيرة التي يجدر التوقّف عندها هو لجوء جمعية المصارف مجددا إلى استخدام الإضراب كوسيلة للضغط على السلطات العامة من أجل تحقيق مآربها، والتي هي هنا إقرار تقييد حقوق المودعين (المسمى خطأ الكابيتال كونترول) بنتيجة الضغط على المشرّع إضافة إلى تعطيل تنفيذ قانون رفع السرية المصرفية بنتيجة الضغط على القضاء. ومن المهمّ بمكان التأكيد على أن الوسيلة المستخدمة من جمعية المصارف هي وسيلة غير مشروعة طالما أنها تقوم على استغلال احتكارها لتراخيص العمل المصرفي تمهيدا لحرمان المجتمع برمته من هذه الخدمة الحيوية، فكأنها بذلك تتّخذ المجتمع رهينة إلى حين تحقيق مآربها.
وللتذكير، كانت جمعية المصارف قد لجأت إلى هذه الوسيلة سابقا مرتين: (1) في آذار 2022 حيث استمرّ الإضراب يومين اعتراضا على قرار قضائي بالتنفيذ على موجودات مصرف فرنسبنك وعلى إصدار قرارات منع سفر بحق رؤساء مجالس إدارة مصارف في قضية الثماني مليار دولار المذكورة أعلاه، و(2) في آب من السنة نفسها، أعلنت أيضا إضرابا على استجواب وتوقيف عدد من رؤساء مجالس إدارات المصارف.
وبذلك، تبدو المصارف وكأنها تضع المجتمع في كل مرة تلجأ إلى الإضراب فيها أمام خيار: إما التمتع بالخدمة المصرفية (بما فيها من سيئات وانتقاص لحقوق المودعين) وإما العدالة. وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه:
الضغط من أجل وضع تشريعات تحرّر المصارف من مسؤولياتها تجاه المودعين
أول الأهداف المعلنة للإضراب هو إقرار مشروع قانون تقييد حقوق المودعين (الكابيتال كونترول)، علما أن من شأن حصول ذلك أن يحصّن المصارف إزاء أي ملاحقة قضائية وبصورة رجعية، وعمليا أن يهربها من تحمّل أيّ مسؤولية مدنية تجاه المودعين لديها فيما عدا النذر النذير من السحوبات. وهذا ما نستشفه بشكل خاص من المادة 10 من هذا المشروع كما عدّلتها اللجان المشتركة والتي تنصّ صراحة على أن القانون “يُعلّق تنفيذ جميع الأحكام والقرارت القابلة للتنفيذ في لبنان والخارج والتي صدرت قبل صدور هذا القانون والتي لم تنفّذ بعد وتلك التي ستصدر بعد دخوله حيّز التنفيذ والمتعلّقة بمطالبة أو بتدابير مخالفة لأحكامه، يبقى هذا التعليق ساريا لغاية انتهاء مهلة تطبيق هذا القانون”.
وما يزيد من تعسّف جمعية المصارف لهذه الجهة وفق ما ورد في بيانها، هو أنها تطالب بالفصل بين مشروع قانون الكابيتال كونترول وقانون إعادة هيكلة المصارف، متذرّعة أن ربط القانونيْن “يُخالف العقل والمنطق”. فكأنّها بذلك تطالب بإعفائها من تبعات توقفها عن الدفع وحصر موجباتها تجاه المودعين بمبالغ مالية زهيدة ومن دون أن تلتزم بأي موجب لإعادة تكوين رساميلها بما يضمن إعادة الودائع جزئيا أو كليا.
الضغط من أجل لجم مساعي القضاء لرفع السرية المصرفية
فضلا عن الضغط على المشرّع لإقرار مشروع قانون الكابيتال كونترول، هدف البيان كما سبق بيانه إلى لجم مساعي القضاء وتحديدا النيابة العامة في جبل لبنان لتطبيق قانون رفع السرية المصرفية. وقد فهم من بعض التقارير الإعلامية أن هذا الضغط يستهدف بشكل خاص النيابة العامة التمييزية بهدف دفعها إلى ممارسة سلطتها الهرمية في هذا الخصوص، على غرار ما كانت فعلته سابقا عندما كفّت يد النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون في قضية شركة ميشال مكتّف أو ما فعلته لمنع جان طنوس من مواصلة إجراءات مداهمة مصارف للحصول على معلومات مصرفية في قضية الأخوين سلامة.
وهذا ما نستشفّه بشكل واضح من التقرير الذي نشرته قناة MTV بعنوان “فك إضراب المصارف بيد القاضي عويدات“، بحيث اعتبر أنّ “أبواب المصارف لن تُفتح إلّا عند كف يد القاضية غادة عون عن القضايا المالية أو التوصل إلى تسوية تُرضي الطرفيْن”.
كما ورد في التقرير نفسه حصول اجتماع جمعية المصارف مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي وعد بمتابعة الملف أمام المراجع المختصة، بما يذكر بتدخّل ميقاتي في آذار 2022 تبعا لإضراب المصارف آنذاك لاتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حدّ لما أسماه “الفوضى القضائية”.
فلنتابع.
لقراءة البيان، إضغط/ي هنا