بات معلوماً أنّ أحد أكبر “أسرار الدولة” يكمن في التّحويلات المصرفية الحاصلة في السنوات الثلاث الماضية، وهي تحويلات من مَلَكَ معلومات واضحة بأنّ القارب يغرق فعاجل إلى إرسال كنوزه إلى الخارج وذلك على حساب سائر المُودعين. فمن هُم هؤلاء؟ وهل استثمروا معلومات خاصّة حصلوا عليها قبل غرق القارب؟ وما هو النفوذ الذي تمتّعوا به لإرغام المصارف على إجراء التّحويلات إلى الخارج بما يميّزهم عن سائر المودعين الذين فقدوا إمكانية سحب ودائعهم بدرجات مختلفة منذ 17 تشرين الأول 2019؟
تحت وطأة هذه الأسئلة، تحرّكت النيابة العامة التمييزية في أواخر 2019 (30/12/2019) طالبةً من هيئة التحقيق الخاصّة لدى مصرف لبنان (وهي الهيئة المختصة برفع السرية عن الحسابات المصرفية في حال وجود شبهة تبييض أموال) تزويدها بأسماء الزبائن من فئة الأشخاص المعرّضين سياسياً PEP والذين أجرُوا تحويلات إلى الخارج وذلك عن الفترة الممتدة من 17 تشرين الأول 2019 حتى آخر 2019. وإذ تمّ إهمال هذا الطلب، عادت النيابة العامة التمييزية لتوجّه في 19/3/2020 كتابا ثانيا للهيئة. إلا أن هذا الكتاب أيضا بقي من دون أية نتيجة حيث أجابتْ هذه الأخيرة في 8 نيسان 2020 بأن المصارف التي “أجرت عمليات تحويل في الفترة ذاتها أفادت بعدم وجود أي شبهة بالعمليات أو بمصدر الأموال المودعة في الحسابات وبالتالي أن الأسماء التي أجرتْ التحاويل غير موجودة لدى الهيئة”. لم تكتفِ الهيئة بنقل رسالة المصارف إلى النيابة العامّة إنّما سارعتْ إلى التّسليم بصحّة مضمونها من دون إجراء أيّ تحقيق خلافا لما تفرضه عليها المادة 6-2 من قانون تبييض الأموال التي تفرض عليها إجراء التحقيقات في العمليّات التي يُشتبه أنّها تشكّل جرائم تبييض أموال والتحقّق من قيام المصارف بالتقيّد بالموجبات المترتّبة عليها لجهة إبلاغها بالعمليات المشبوهة. وهذا ما نستشفّه من تتمّة كتابها بأنّه “يتعذّر عليها قانونا أن تتّخذ أيّ قرار بخصوص هذه الحسابات أو الطّلب من المصارف تزويدها بالأسماء لعدم وجود شبهات عليها”. فإذا تمّ ذلك، انتقلَتْ الهيئة من إعلان عدم استجابتها للطلب إلى حدّ إدانته من خلال التلميح إلى أنه مبني على اعتبارات سياسية (نفهم غير قانونية)، حيث جاء حرفيا في متن جوابها أنّه “في حال تمّ تجاوز القانون في هذه القضية، فإنّ ذلك سيفسّر بأن الهيئة تقوم بتنفيذ قرار سياسي مما يضرب الاستقلالية التشغيلية للهيئة والتي يفترض أن لا تتأثر بقرارات طابعها سياسي وفق المعايير الدولية التي ترعى عمل وحدات الإخبار المالي”. وبذلك تمّ ردّ طلب رفع السرية المصرفية عن هذه التحويلات.
في الأشهر الأخيرة، عادتْ النيابة العامة التمييزيّة إلى مسألة التّحويلات إلى الخارج لأسبابٍ تبقى غير معلومة، وقد تكون متّصلة بانتهاء مدة تصريح الموظفين العموميين عن ذممهم المالية أو بالتّحقيق الذي باشرتْه هذه الأخيرة بشخص القاضي المكلّف المحامي العام المالي جان طنوس في قضية حاكم مصرف لبنان ريّاض سلامة وشقيقه رجا سلامة. وعليه، عادتْ هذه النيابة العامة لتوجّه في 24 حزيران 2021 كتابا آخرا إلى هيئة التحقيق الخاصّة في شأن التحويلات طلبتْ بموجبه تزويدها بمعلومات كافية عن التحويلات الحاصلة في سنوات 2019 و2020 و2021 بطلب أحد الموظّفين العموميّين وفق التعريف الواسع والوارد في قانون الإثراء غير المشروع والذي يشمل عموما كل من يقوم بخدمة عامّة أو يستفيد من موارد عامّة. ورغم وضوح هذا الطّلب، فإنّ جمعية المصارف لم تجِدْ حرَجاً في إصدار تعميم لجميع أعضائها يدعوهم لتوحيد جوابهم بقصد عدم الاستجابة له. واللافت أن هذا التعميم استغلّ سلسلةً من الأخطاء المقصودة أو غير المقصودة، والتي نستشفّ منها توزيعاً للأدوار وصولا إلى تسهيل الالتفاف على الطلب القضائي وقانون الإثراء غير المشروع الذي انبنى عليه. وهذا ما سنحاول إبرازه أدناه.
النيابة العامة توجّه طلبها إلى العنوان الخطأ
تفاديّا لما واجهتْه من ردّ سابق لطلبها، عمدَتْ النّيابة العامة التمييزية هذه المرّة إلى مطالبة هيئة التّحقيق الخاصة بالمعلومات ليس على أساس قانون تبييض الأموال، ولكن على أساس قانون الإثراء غير المشروع. ويكتسي تغيير النيابة سندها القانوني أهميّة كبيرة طالما أنّه يقرن طلبها بطابع ملزم ليس لهيئة التحقيق الخاصة أو المصارف أيّ سلطة تقديرية في الاستجابة أو رفض الاستجابة له. ففيما يتطلّب رفع السريّة عن التّحويلات المصرفيّة في قضايا تبييض الأموال موافقة هيئة التحقيق الخاصة، فإنّه لا يجوز التذرع بالسرّية المصرفية لرفض إعطاء المعلومات في قضايا الإثراء غير المشروع وذلك عملاً بالمادة 7 من قانون السرية المصرفية. ورغم أهميّة هذا التّغيير، فإنّ النيابة العامة التمييزية عادتْ وارتكبًتْ خطأ جسيما حين وجّهت طلبها إلى هيئة التحقيق الخاصّة طالبةً منها تزويدها بالمعلومات المطلوبة، في حين أنّه كان لها وعليها أن توجّه الطلب مباشرة إلى المصارف. وهذا الخطأ يتحصّل ليس فقط عن عدم وجود أي ضرورة للمرور من خلال هيئة التحقيق الخاصة لرفع السرية المصرفية في قضايا الإثراء غير المشروع، إنما أيضا من سوابق هذه الهيئة التي غالبا ما تركت للمصارف حق تقدير وجود شبهات من دون إجراء أي تحقيق بما يعكس تماهيا معها كما سبق بيانه. وقد بدتْ النيابة العامة من خلال ذلك وكأنّها تستحضر وسيطا غير ضروري بينها وبين جمعية المصارف، وهو وسيط ثمة مخاوف مشروعة أن يتماهى مع هذه الأخيرة لحجب المعلومات كما فعل من قبل.
هيئة التحقيق الخاصة تفخّخ طلب النيابة العامة بالإبهام
أول دليل على عدم جديّة هيئة التحقيق الخاصّة في التعامل مع كتاب النيابة العامة يكمن أولاً في تأخّرها في اتخاذ أيّ إجراء على أساسه. وهذا ما نستشفّه بوضوح من صدور كتابها الموجّه إلى المصارف بعد 70 يوما من تلقّيها كتاب النيابة العامة. فكأنها استنسبَتْ أنّ الطلب غير مستعجل وأنّ بإمكانها المماطلة والتسويف أو التعامل معه على سجيّتها. والأهمّ من ذلك، استغلّت الهيئة توسيطها في نقل الطلب لتسبغه بالإبهام، ولتمدّ من خلاله للمصارف خشبة للتملّص من إلزامية الطلب وإخضاعه مجددا لتقديرها.
فبعدما لخّصت في متن كتابها طلب النيابة العامة كما أوردناه أعلاه، عادتْ لتطالب المصارف في خاتمة كتابها بالتفضل بتزويد الهيئة بالمعلومات المطلوبة وذلك ضمن القوانين المرعية الإجراء لا سيّما القانون رقم 44/2015 (قانون تبييض الأموال). وبذلك، تكون الهيئة استولدتْ إبْهاما في مضمون الطلب من خلال الإحالة مجدّدا إلى قانون تبييض الأموال، وهو القانون الذي لا تُرفع السرية المصرفية بموجبه إلا بقرار منها، وهو قرار خلا كتابها منه. وقد وجّهت “الهيئة” نسخةً من هذا الكتاب إلى جميع المصارف ونسخةً إلى النائب العام التمييزي الذي لم يبدِ أيّ اعتراض على مضمونه.
جمعية المصارف تحثّ أعضاءها على التعاضد لمخالفة القانون
ما أن أرسل الكتاب إلى المصارف، حتى سارعتْ جمعية المصارف إلى وضع اليد عليه، لتنتهي بعد 20 يوما إلى دعوة المصارف إلى تبنّي موقف مُوحّد وإرسال “أجوبة متناسقة” مفادها رفض إعطاء أي معلومات إضافية، وذلك عملا بالاستشارة الصادرة عن المستشار القانوني للجمعية.
وقد أمكن هذا الأخير الوصول إلى هذه النتيجة من خلال إجراء قراءة ملتوية لكتاب الهيئة، وبخاصة من خلال استغلال الإحالة الحاصلة فيه إلى قانون تبييض الأموال. وهذا ما نستشفّه من بداية الاستشارة حيث أورد صاحبها أنه في صدد إبداء الرأي ليس في طلب النيابة العامة إنما في قرار هيئة التحقيق الخاصة والذي تصمّن “بشكل واضح وصريح تزويد الهيئة بالمعلومات المطلوبة من النيابة العامة ضمن القوانين المرعية الإجراء لا سيما القانون 44/2015″. ويلحظ أن المستشار القانوني بدا وكأنه يسارع إلى استغلال الخشبة الممدودة للمصارف للتنصل من الطلب من خلال تركيز الأضواء إلى قانون تبييض الأموال الوارد في كتاب الهيئة مقابل تغييب متعمّد لأيّ إشارة إلى قانون الإثراء غير المشروع الوارد في طلب النيابة العامة وما قد يرتّبه من نتائج ملزمة ومسؤوليات. وقد انتهى المستشار القانونية إلى إسداء النُصح للمصارف بأن لا تعطي أية معلومات إضافية بحجة أنها أبلغت “سابقا جميع أسماء المشتبه بهم بالقيام بأعمال تبييض أموال بمن فيهم الموظفين الذين أجروا عمليات تحويل أموال في حال تمّ الاشتباه بهم”.
وعليه، بدا المستشار القانونيّ للجمعيّة في استشارته وكأنّه يعطي فتوى أو غطاء للمصارف للالتفاف حول طلب النيابة العامّة في موازاة منحها سلطة تقديريّة واسعة في تعاملها مع هيئة التحقيق الخاصة في كلّ ما يتعلق بطلبات المعلومات، سلطة تتعارض مع قانون الإثراء غير المشروع حيث تكون المصارف ملزمة بتنفيذ الأوامر من دون أن يكون لها أي رأي في هذا الخصوص وأيضا قانون تبييض الأموال الذي يضع عليها واجب التدقيق بالمعاملات الجارية لديها على أن يتمّ ذلك تحت رقابة هيئة التحقيق الخاصة.
وقد بدتْ جمعيّة المصارف في كلّ ذلك وكأنها تنظّم خروجا منسّقا عن القانون، تحت غطاء حجج واهية ما ما كان بإمكانها إثارتها لولا تماهي هيئة التحقيق الخاصة معها وخشبة الخلاص التي مدّتها إليها. وبذلك، تكون جمعيّة المصارف قد انخرطت في عرقلة تحقيق قضائي لتؤدي مجدّدا دور “جمعية الأشرار” التي يتفق ضمنها على سبل الخروج عن القانون والنّيل من سلطة الدولة والتعرض لمؤسساتها المالية والاقتصادية.
خلاصة:
بالخلاصة، أمكن القول أننا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام مسعى للتستّر على هويّة الأشخاص الذين أجروا تحويلات مصرفيّة خلال الفترة المشبوهة على حساب جميع المودعين باسم السرية المصرفية، هذه السريّة التي غالبا ما استخدمت وتُستخدم لإخفاء جرائم الفساد الحاصلة طوال 3 عقود. فهل ستتابع النيابة العامة مسارها أم تكتفي عند هذا الحدّ؟ فلنتابع.