جمعية القضاة التونسيين لدى هيئة الحقيقة والكرامة: هل يفتح ملف الحقبة السوداء؟


2016-06-15    |   

جمعية القضاة التونسيين لدى هيئة الحقيقة والكرامة: هل يفتح ملف الحقبة السوداء؟

أعلم المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين أن الجمعية قد تقدمت يوم 14-06- 2016 بملف لهيئة الحقيقة والكرامة للمطالبة بأن تشمل العدالة الانتقالية طبق القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 الانتهاكات التي طالت جمعية القضاة التونسيين كهيكل ممثل للقضاة مدافع عن استقلال القضاء والانتهاكات التي طالت مسؤوليها سواء بالمكتب التنفيذي أو بالهيئة الشرعية والهيئة الإدارية وتلك التي طالت نشطاءها وأعضاءها القاعديين على خلفية رفضهم لانقلاب سلطة الاستبداد سنة 2005 على الهياكل الشرعية للجمعية وبسبب دفاعهم عن استقلال الجمعية واستقلال القضاء كركيزة من ركائز دولة القانون والمؤسسات والنظام الديمقراطي.

كما طالبت الجمعية بأن تشمل مسارات العدالة الانتقالية الانتهاكات التي سلّطت على جمعية القضاة الشبان المحدثة بتاريخ 12/11/1971 والتي تم حّلها بقرار من وزير الداخلية زمن الاستبداد في 15/04/1985 وكذلك الانتهاكات التي طالت مسؤوليها والقضاة الذين ساندوا مواقفها اثر الإضراب الذي دعت له يومي 10 و 11 أفريل 1985 للنهوض بأوضاع القضاء والدفاع عن استقلاله.
 
هل يفتح ملف الانقلاب في جمعية القضاة؟
 
إن الأزمة التي عاشتها جمعية القضاة التونسيين على ما يقارب الست سنوات تمثل واحدة من أخطر الانقلابات التي تعرضت لها جمعية مستقلة في تونس. فلقد بدأ مسلسل مناوءة الجمعية الذي أسفر لاحقا عن تخريب هياكلها والاستيلاء عليها تماما منذ انتخاب المكتب المنبثق عن المؤتمر العاشر يوم 12 -12- 2004. فلقد رفضت وزارة العدل وقتها التعامل مع المكتب الجديد المنتخب لأن الاقتراع جرى في أجواء ديمقراطية وأسفر عن صعود مكتب مستقل، غير موال وخاصة غير قابل للعمل وفق املاءاتها. وربما تكون الذريعة التي وجدتها الوزارة للانقضاض على الجمعية وإخماد صوت التيار المستقل الذي تشكل داخلها منذ سنة 2000 والذي أصبح يطرح بجدية مسألة استقلال القضاء هي وقائع 2- 3- 2005. فقد أصدر القضاة حينها وإبان مثول المحامي محمد عبو أمام التحقيق وفي إثر أحداث العنف التي جدّت بقصر العدالة بتونس بيانا قويا يتهمون فيه السلطة بالاعتداء المباشر على الحرمة المعنوية للمحكمة والمساس باعتبار السلطة القضائية. وعلى إثر هذا البيان، انتشرت عرائض يرى القضاة أن وزارة العدل تقف وراءها تشكّك في تمثيلية الجمعية كما نظمت اجتماعات موازية لعملها بداية من يوم 3 -3-2005 أي صبيحة صدور البيان المذكور. ثم بدأ منذ 23 من نفس الشهر في بعض الصحف اليومية والأسبوعية الرسمية الترويج لوجود خلافات بين القضاة وهي العلة المستعملة عادة من قبل السلطة التونسية وقتها للانقضاض على الجمعيات غير الموالية. وراج الحديث منذ الاجتماعات الأولى التي لاشك أنها كانت موضبة عن إمكانية سحب الثقة من المكتب المنتخب وعقد مؤتمر قبل انتهاء المدة الانتخابية وهي الخطة التي بدأ فعلا تنفيذها منذ شهر جويلية 2005. إذ وبمناسبة انعقاد جلسة عامة خارقة للعادة دعا إليها المكتب التنفيذي المنتخب تحت ضغط الأحداث، وقع تنفيذ جملة من الأعمال السرية تمثلت في دعوة القضاة خارج إطار الجلسة العامة وحتى قبل الانتهاء من أعمالها إلى الإمضاء على أوراق بيضاء وإلحاق جملة الإمضاءات التي وقع جمعها بطريق التحّيل (اعتقد القضاة الموقّعون أنهم يمضون على الحضور) بنص تمت صياغته باسم القضاة التونسيين تضمن تغييرا لوقائع الجلسة وتهجما على هياكلها الشرعية واختلاقا لمقررات تمت نسبتها لمجموعة من القضاة تتعلق بسحب الثقة من المكتب التنفيذي وتعيين مؤتمر استثنائي يوم 4- 12- 2005 وهو ذات النص الذي اعتمد لتكوين لجنة سميت بالمؤقتة وضع على رأسها الرئيس الأسبق للجمعية القاضي خالد عباس. ولتمكين هذا الأخير من الحلول محل القضاة المنتخبين تم الاستيلاء على مقر الجمعية بكسر الأبواب وإبدال الأقفال في واقعة قلما تحدث في مثل هذه الأوساط. ثم فتح باب المقر للّجنة المحدثة من قبل السلطة ووقع الإعلان عن مؤتمر استثنائي يوم 04-12-2005.

وكان المجلس الأعلى للقضاء وهو المجلس المسؤول دستوريا في تونس عن نقلة القضاة قد قرر في وقت سابق نقلة عضوين من المكتب التنفيذي من العاصمة إلى مناطق بعيدة عنها قصد تشتيت أعضائه كما وقع نقلة 15 عضوا من الهيئة الإدارية وهو الهيكل الأوسط الذي يضم ممثلي المحاكم. مع العلم أن نقلتهم فقدانهم لعضويتهم بمجلس إدارة الجمعية.
وأخيرا انتهى المسلسل المثير بعقد المؤتمر الاستثنائي فعلا في اليوم المعين أي 04-12-2005. وقد حضره أغلب القضاة كتب البعض منهم على أوراق الانتخاب شعارات تندد "بالانقلاب". وقد استغل حضورهم المكثف في ما بعد من قبل وزير العدل للتأكيد على أن أزمة الجمعية مشكل داخلي وقع حسمه من قبل القضاة أنفسهم عبر المؤتمرالاستثنائي.
 
الاعتداء على القانون بواسطة القانون
 
ولكن الانقلاب لم يقف عند هذا الحد. فقد عمد المكتب المنصّب إلى تحوير القانون الأساسي للجمعية بشكل مثير للانتباه. فقد شابته إخلالات خطيرة حسب ما ورد في تقارير محامي الجمعية والتي نشرت بالصحافة الالكترونية ويتمثل هذا التحوير في التقليص من عدد أعضاء المكتب التنفيذي وجعله سبعة عوض تسعة. ثم حصر الترشح في دوائر استئناف تونس ونابل وبنزرت بعدما نقل كل أعضاء المكتب الشرعي خارج هذه الدوائر. وقد جاء هذا التحوير في مخالفة صريحة لقانون الجمعيات بل لقانون جمعية القضاة نفسها.

لقد تم تنقيح قانون الجمعية في ظروف مريبة مع نية واضحة في تغييب القضاة المعنيين بالتنقيح وهم قضاة داخل الجمهورية عن الحضور بالجلسة العامة أو حتى العلم بموضوع التنقيح. فكيف يتم التداول في شأن تنقيح فصل هام بمثل أهمية الفصل 13 من قانون جمعية القضاة التونسيين في بنده المتعلق بتمثيلية قضاة الداخل في أعلى وأهم هيكل من هياكل الجمعية وهو المكتب التنفيذي في آخر يوم من السنة القضائية (الجلسة العامة الأولى يوم السبت 15 جويلية 2006 مساء) وهو تاريخ حال دون حضور أغلب القضاة وخاصة منهم قضاة الداخل المرتبطين بالعمل بمحاكمهم في ذلك اليوم. ثم كيف تعقد جلسة ثانية خلال العطلة القضائية بعدما كان جلّ القضاة قد غادروا المحاكم للتمتع برخصهم السنوية.
إن تمثيل قضاة الداخل في المكتب التنفيذي للجمعية هو مكسب كان موضوع مطالبة قاعدية لسنين وضمّن تكرارا بلوائح مؤتمرات الجمعية باعتباره يمثل مطمحا من مطامح القضاة في ترسيخ أعمق للممارسة الديمقراطية داخل الجمعية وتحقيقا لإشعاعها على مستوى المحاكم الداخلية التي تضم أكثر من نصف عدد القضاة.

وإنّ التراجع عن هذا المكسب الذي ناضلت أجيال القضاة من أجل تحقيقه إنما ينزل في إطار إتمام عملية تصفية العناصر المستقلة من ناشطي الجمعية ومسؤوليها بعد تفكيك هياكلها الشرعية على إثر حركة نقل أوت 2005.
ومن الواضح أن التحوير جاء وقتها لاستبعاد أعضاء المكتب الشرعي والهيئة الإدارية ومنعهم من الترشح مرة أخرى لعضوية المكتب بعدما نقلوا كلهم بدون استثناء إلى داخل الجمهورية. وهكذا أخذ الانقلاب معنى مركبا. فقد كان ذا أثر ظرفي مباشر من جهة الاستيلاء على الهيكل باستبعاد مكتبه القانوني بواسطة انتخابات لا انتخاب فيها وهو ذو أثر هيكلي من جهة إيجاد موانع "قانونية" دائمة تستثني أولئك الذين نقلوا خارج الدائرة الانتخابية وظلوا هناك حتى قيام الثورة تحسبا لأي رجوع ممكن لهم، وهو احتمال صار هوسا يؤرق وزارة العدل.
هذه في خلاصة شديدة الاقتضاب بعض أطوار هذه القضية الخطيرة التي لم تحظَ قبل الثورة في نظرنا بالأهمية التي تستحقها من المجتمع المدني و من الرأي العام في تونس أولا.
 
حدث يتجاوز القضاء والقضاة

إن مسالة الانقلاب على جمعية القضاة تتجاوز بكثير المعطى الشخصي والجمعياتي مباشرة لتمس طبيعة النظام الاستبدادي الذي عرفته تونس في صلة بالقانون الأساسي المتخلف للقضاة والذي جعلهم تحت رحمة الإدارة تشردهم وتهينهم وتقودهم حيث تشاء وتستفرد بمن رفض الانصياع منهم إلى أوامرها في ظل صمت شبه كامل من قبل مجتمع مدني مغلوب على أمره في حين واجه القضاة الأحرار وحدهم الآلة الجهنمية التي عصرتهم. قادتهم الى مؤتمرات الانقلابيين في ما يشبه الملهاة المأساة التي كانت تتجدد كل سنتين، تبتزهم وتؤلب بعضهم على بعض. لم يجد القضاة من حل وقتها غير عرض هذا الملف الخطير على أنظار العالم المتحضر حتى يقف قضاة العالم على حجم المأساة التي كان يعانيها مجموعة من رجال القضاء ونسائه، كان كل ذنبهم أنهم طالبوا بانضباط جدير بالقضاة بما يقره دستور البلاد وقوانينها وما تؤكد عليه الأعراف والمواثيق الدولية. ولكن لا أذن كانت تصغي لصوت الحق والواجب مما أجبر القضاة ضحايا الانقلاب على أن يبحثوا عن الإنصاف لدى الهيئات الدولية المتخصصة .وهو مثال آخر يجسد بكل المعاني الحرفية والرمزية عمق الشرخ الذي عاشته تونس قبل الثورة من خلال سلطة الحاكم القائمة على فصام الخطاب الرسمي المتبجح بأرقى صور الحداثة المعلبة والموجّهة للتصدير والذي عجز عن ستر سلوك سياسي يستعيض عن سلطة القانون بقانون سلطة لا تتحرج أن تنشر ضمن القضاة أنفسهم، حماة القانون، منطق الافتكاك والغصب والانقلاب. وهكذا انقلبت الأدوار في ما يشبه التراجيديا المفزعة فأصبح القاضي ضحية في بلاده لا يجد من يحميه في حين كان يتعيّن أن يكون هو ملاذ كل ضحية، له يشتكي الجميع، وبه يقام العدل وتسترد الحقوق المغتصبة. اليوم يفتح هذا الملف بكل أوجاعه في تونس لا في بلاد أخرى . تلك بعض ثمرات الثورة التي لولاها لظلت الحقيقة مقبورة إلى الأبد.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، استقلال القضاء ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني