“
أرسى القانون عدد 77 لسنة 2016 المؤرخ في 6 -12- 2016 والذي يتعلّق بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي لأول مرة في تاريخ القضاء التونسي تجربة القضاء الجزائي المتخصص في مكافحة الفساد. وقد صدر هذا القانون بعد خمس سنوات أخرى غزت فيها ملفات فساد كبرى أروقة المحاكم. رغم ذلك، يبدو نتاج عمل القطب القضائي المتخصص غير معلوم للمتابعين كما عموم المواطنين لغياب إحصائيات رسمية صادرة عنه ولما يلاحظ من عدم نشر أحكام أو قرارات توثق عمل هذا القطب وتبرز ما تكوّن من فقه قضاء صلبه.
فرضت العتمة أن يكون عمل القضاء على ملف الفساد المالي غير ظاهر في المشهد العام. وأدى البطء في استرجاع الأموال المنهوبة والذي يبرر في جانب دول الملاذات بانتفاء الدليل القضائي على فسادها. كما أدى تفشي الفساد وغياب المحاسبة إلى أن بات ذات القضاء موضع اتهام بالتقصير في الحرب على الفساد.
في محاولة لفهم عمل القطب القضائي الاقتصادي والمالي برؤية من داخله، تُحاور المفكرة القانونية القاضي جمال سحابة الذي كان من القضاة المؤسسين له وهو يعدّ اليوم من أبرز قضاته بحكم شغله لمنصب رئيس دائرته الجنائية المتخصصة فتنقل له هاجس السؤال عن الأداء (المحرر).
المفكرة: تجربة القطب القضائي الاقتصادي والمالي، كيف تُعرّفها؟
سحابة: بداية سنة 2011 وتحديدا خلال الأيام الأولى من الثورة التونسية، انطلق التفكير فيما يمكن أن يعدّ تخصصا قضائيا في مجال مكافحة الفساد على مستوى قضاء التحقيق صلب المحكمة الابتدائية بتونس، تحت تأثير ما تم نشره من ملفات فساد وما برز من تشعب في تلك الملفات وصعوبات تحتاج خبرة خاصة. لم تؤتِ حينها التجربة أُكُلها المأمول اعتبارا لكون مكاتب التحقيق التي اعتبرت متخصصة بالفساد المالي ظلت مثقلة بقضايا الحق العام التي تعهدت بها سابقا وبالنظر لكون هذا الاجتهاد القضائي لم يعاضد برصد إمكانيات عمل خصوصية لمكاتب التحقيق تلك تيسر عملها.
لاحقا وبعد صدور القانون عدد 77 لسنة 2016 تم إحداث قطب متخصص في القضايا المالية المتشعبة والتي تم تعريفها باعتماد معايير موضوعية وباعتماد قائمة من جرائم محددة. وأُسنِد اختصاص حصري لوكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس في إثارة تلك الجرائم وممارسة التتبع فيها، ولقضاء التحقيق والحكم بمحاكم العاصمة باستقرائها والحكم فيها. وتم بموازاة هذا تكوين قضاة في هذا الاختصاص.
شمل التكوين في مرحلة أولى قضاة التحقيق الذين كان مطلوبا منهم تطوير معارفهم وقدراتهم فيما تعلق بالتعاون القضائي الدولي. لاحقا وتحديدا بداية من سنة 2018 واعتبارا لتقدم العمل القضائي على ملفات الفساد، تمّ إحداث الدوائر القضائية المتخصصة على مستوى الاستقراء أي دائرة الاتهام والحكم، أي الدوائر الجناحية والجنائية، الابتدائية والاستئنافية. وفي الوقت الراهن، فإن قضاء الفساد المالي قضاء متخصص متكامل ويصدر فعليا أحكاما في قضايا الفساد تعد أسبوعيا بالعشرات.
المفكرة: هل يعني هذا أنك تقيم إيجابيا أداء القطب القضائي المتخصص في قضايا الفساد في حين أننا نلاحظ اليوم أنه بات موضوع اتهام بالتقصير من جانب هام من المهتمين بملف الفساد ومنهم رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب الذي حمله في أكثر من تصريح إعلامي مسؤولية الفشل الحاصل في مكافحة الفساد؟
سحابة: هذا الاتهام متداول كثيرا في الإعلام. لكن أظن أنه لا يستند لمعطيات موضوعية. لتوضيح الإلتباس، هناك صنفان من قضايا الفساد المالي: أولهما قضايا فساد يمكن وصفها بقضايا الفساد العادية أي من قبيل الاستيلاءات والإرتشاء والتربح من الوظيف، وثانيهما قضايا الفساد المتشعبة ومنها الفساد الممنهج والفساد العابر للدول.
بالنسبة الصنف الأول، وخلافا لما يدعّى، يعدّ نظر القضاء فيها سريعا وتصدر فيها الأحكام في كل أطوار التقاضي. أما بالنسبة للقضايا المتشعبة فهي بالنظر لخصوصيتها تحتاج إنابات دولية واختبارات معقدة، بما يفسر بطء نظرها. ولكن رغم ذلك فصل عدد هام منها خلافا لما يدعى.
من المهم هنا أن يلتزم القضاء بضوابط المحاكمة العادلة واحترام حقوق المتهمين الشرعية ولا يخضع بالتالي لدعوات التسرع في الفصل. كما من المهم أن نفهم جميعا أن قضايا الفساد تحتاج لحسن فصلها أبحاثا معمقة: فهي من الجرائم الذكية التي يتهم فيها أشخاص على مستوى من الخبرة والذكاء بما يستدعي جهدا كبيرا في تفكيكها ومن ثمة تحديد المسؤوليات فيها والحكم في جرائمها.
المفكرة: في ذات السياق أي الاتهامات الموجهة للقطب بالتقصير، يُذكر أن دول الملاذ أي تلك الدول التي تم تهريب الأموال الفاسدة لها أو تلك التي يقيم بها متهمون مطلوبون للعدالة التونسية لم تسلّم حتى اليوم تونس أموالا ذات أهمية أو متهمين مطلوبين. يحصل هذا الأمر رغم ما تبديه هذه الدول من تعاون مع الدولة التونسية، من أبرز مظاهره تجميدها للأموال المشتبه في فسادها. ألا يمكن أن يُعتبر عدم النجاح في تكوين ملفات تسليم واسترجاع تقنع القضاء وبخاصة في دول الفضاء الأوروبي، بمشروعية إرجاع الأموال المشتبه بها، مؤشرا على ضعف أداء قضائي؟
سحابة: ألاحظ بداية أن كل الدول المعنية بمطالب تسليم المجرمين، وتلك المعنية بطلب استرجاع الأموال المهربة في الخارج، وخلافا لما ورد بالسؤال تثمّن من خلال تعامل ممثليها معنا حسن التزام القضاء التونسي بالمعايير الدولية في المجال وبالمعايير الخصوصية التي تفرضها كل منها. نحن كقضاء متخصص راكمنا تجربة هامة في مجال التعاون القضائي الدولي كان من ثمارها تطور الأبحاث في عدد هام من الملفات. ما تذكر من ضعف حصيلة لا يتحملها بالضرورة الطرف التونسي وقد يكون مردها في الواقع غياب الإرادة السياسية الحقيقية في دول الملاذات الآمنة للتسليم بحق تونس في استرجاع أموالها المنهوبة.
على مستوى ثان، وجب التنبّه لكون ما يمكن أن يُدعّى من تعثر في مسار الاسترجاع لا يتحمله القضاء لكونه ليس الطرف الوحيد المتداخل في هذا المسار. ويجب هنا التنبه لضرورة التفاعل الإيجابي بين كل الأطراف المتداخلة لحماية المصلحة الوطنية وتجاوز ما يبرز من حين لآخر من خلل في إدارة الملف. وهنا أريد أن أقول: “هناك مجهود قضائي كبير غير معلوم للأسف ولا يمكن عموما أن يُقاس بنتيجة الاسترجاع والتسليم كما أسلفت. ويمكن أن يلاحظ أثر هذا الجهد لمن يريد رصده فيما وفره العمل القضائي من معطيات دقيقة تتعلق بمنظومة الفساد وهندسته”.
المفكرة: المعطيات والحقائق التي اعتبرتها من أهم ثمار العمل القضائي اتهمتكم هيئة الحقيقة والكرامة في تقريرها الختامي بكونكم تعمدتم حجبها عنها، وكان ذاك من أسباب إعاقة عملها. فقد ورد في التقرير “أن الهيئة وجهت جملة من المراسلات إلى المحكمة الابتدائية بتونس لتمكينها من بعض الملفات القضائية المنشورة لدى القطب القضائي المالي. وقد جاء في ردود القطب ضرورة تمكينها بما يفيد وجود طلب تحكيم ومصالحة؟”
سحابة: نحن كجهة قضائية تواصلنا مع الهيئة كما هو واجب علينا قانونا وعرضنا على مجلسها تمكينه من كل المعطيات المتعلقة بالأشخاص الذي تقدموا للهيئة بطلب تحكيم ومصالحة. وهذا موثق بمكاتيب رسمية. لكن الهيئة تمسكت بأن تحال الملفات كاملة لها رغم أن تلك الملفات تتعلق في جوانب هامة منها بأشخاص لم تتعهد بملفاتهم. نحن كجهة قضائية التزمنا بمبدأ سرية التحقيق أولا وبحماية المعطيات الشخصية للأفراد ثانيا وبحسن تطبيق القانون ثالثا. وقد تحرّينا في هذا المضمار تنفيذ تشريعات العدالة الانتقالية ومنها تلك التي صدرت عن الهيئة في سياق ما لها من سلطة ترتيبية ومنها أدلة إجراءاتها التي تنص صراحة على كون ما يحق لها التوصل به من القضاء هو المعطيات التي تخص الملفات التي تتعهد ببحثها دون غيرها.
في هذا الإطار أقول لكم أن ما ينسب لنا – كجهة قضائية- من عدم تعاون غير صحيح ومحرف للوقائع لكون الهيئة هي من قصرت في الالتزام. فدليل الإجراءات الخاص بالتحكيم والمصالحة والصادر عن الهيئة[1] كان يفرض في تاريخ النقاش بيننا وبين الهيئة في الفصل 11 منه على رئيس الهيئة بمجرد إبرام اتفاقية مبدئية على المصالحة أن يوجه “مكتوبا للقاضي المتعهد بالملف بتلقي مطلب التحكيم والمصالحة مع نسخة من المطلب ومن مؤيداته”. ولما طالبنا بتنفيذ هذا النص القانوني الصادر عن الهيئة، رفض طلبنا وأعلمتنا لاحقا رئاسة الهيئة أنها وإثر طلبنا عدلت نظامها الداخلي لتتحلل من التزامها القانوني، هذا الالتزام الذي كان يرسي تكاملا بين عمل الهيئة والقضاء والذي نُلام اليوم على كوننا تمسكنا به [2]
المفكرة: هل كان لقانون المصالحة الإدارية تأثير سلبي على عمل القضاء المتخصص في قضايا الفساد المالي التي باشرها؟
سحابة: هذا القانون صدر بعدما وصلت أغلب القضايا التي كان من بين المتهمين فيها من يمكن أن يشملهم، للطور الحكمي وبالتالي لم يكن له أي تأثير على أعمال الاستقراء والبحث أي على كشف منظومة الفساد وتفكيكه. إضافة لما ذكر، فإن قاضي التحقيق أو المحكمة لا يطبق هذا القانون إلا متى تأكد من توفر شروطه، وهي أن يكون المستفيد منه موظفا عموميا ومحالا على معنى الفصل 96 من المجلة الجزائية وأن تكون الاستقراءات قد أثبتت أنه لم يحقق منفعة خاصة. التطبيق للعفو التشريعي الذي مكن منه هذا القانون الموظفين العموميين وأشباههم كان وفق الشروط التي وضعها المشرع. وأقدّر أن جانبا هاما ممن استفادوا من هذا القانون لم يكونوا ضالعين في الفساد ولكنهم نفذوا تعليمات إدارية. وهنا أفيدكم أن المحاكم حريصة على تطبيق القانون وفق نصه وهي حريصة على تحري الشروط القانونية لإنفاذه.
المفكرة: صدر خلال المدة الفائتة قرار عن المجلس الأعلى للقضاء العدلي أعلن الشغور بكل الخطط القضائية بالأقطاب القضائية ومنها القطب المالي وطلب من عموم القضاة الراغبين في العمل بها بتقديم مطالب في الغرض. هل تقدر أن هذا القرار الذي قد يؤول لتجديد كبير بالأقطاب القضائية المتخصصة يمكن أن يستشف منه تقييم من المجلس لأداء قضاة الأقطاب المتخصصة؟
سحابة: من واجب المجلس ومن صميم دوره أن يقيّم دوريا أداء القضاة وله الصلاحيات في تعيين القضاة وتغييرهم. وأنا شخصيا لا اعتقد أن قرار إعلان الشغور الذي تذكر مؤشر يستشف منه تقيم سلبيّ لأداء القضاة العاملين بالقطب القضائي المالي أو بالقطب القضائي المتخصص في القضايا الإرهابية والذين يبذلون جهدا هاما في عملهم اليومي الصعب.
أقدر أن القضاء المتخصص مهم وعلينا تدعيم هذا التخصص بتوفير مزيد من إمكانيات التكوين العلمي والإمكانيات المادية لقضاته. وفي هذا الإطار يجب علينا ضمان حد أدنى من استقرار في إدارة المسار المهني القضاة للاستفادة من خبرتهم.
- نشر هذا المقال في العدد | 15 | سبتمبر 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
نكره الفساد الذي يكبر فينا
[1] قــــــــــرار مجلس هيئة الحقيقة والكرامة عدد 03 لسنة 2015 بتاريخ 13 جويلية 2015 يتعلق بالمصادقة على دليل إجراءات التحكيم والمصالحة للجنة التحكيم والمصالحة.
[2] بعد أن نقح مجلس الهيئة سنة 2016 دليل الإجراءات استحدث الفصل 12 جديد عنوانه : إعلام الجهة القضائية المتعهدة بتلقي مطلب التحكيم والمصالحة ورد بنصه ” بقبول مطلب التحكيم والمصالحة واستيفاء جميع الشروط القانونية المنصوص عليها بالفصل 46 من قانون العدالة الانتقالية، وبعد إبرام اتفاقية التحكيم والمصالحة يوجه رئيس هيئة الحقيقة والكرامة مكتوبا الى الجهات القضائية المتعهدة بقضايا ضدّ المنسوب إليه الانتهاك لإعلامه بقبول المطلب وتعهد اللجنة به.وتتوقف نظر الهيئات القضائية في النزاعات المنشورة أمامها وتتخذ الإجراءات والتدابير اللازمة لضمان عدم الإفلات من العقاب طيلة فترة تنفيذ الصلح وفق ما جاء في الفصل 48.”
“