عقد مجلس النواب جلسة تشريعية[1] امتدت على يومين في 14 و15 كانون الأول شهدت إقرار قانون ما بات يعرف بالتمديد لقائد الجيش في ظلّ مناورات سياسيّة بين مختلف الكتل النيابية المسيطرة على البرلمان لتحقيق مكاسب شخصية وتسجيل نقاط على الخصوم. لكن اللافت أيضا كان بلوغ حالة الاعتباطية في عمل المجلس مستويات غير معهودة من قبل لدرجة التصديق على قوانين من دون التصويت عليها فعليا، أو اتّباع ممارسات لا مثيل لها في سائر برلمانات العالم ولا ذكر لها في أهم كتب القانون الدستوري والبرلماني أو أكثرها تفصيلا.
لذلك كان لا بد من مناقشة هذه السوابق الخطيرة والتحذير منها لأنها تعني بكل بساطة نهاية النظام البرلماني واندثاره إذ لن يظل منه سوى الاسم من دون أي معنى حقيقي.
الامتناع الجماعي عن المناقشة والتصويت
شارك نواب كتلة “الجمهورية القوية” في الجلسة من أجل تأمين النصاب وتحقيق مرادهم بالتمديد لقائد الجيش على الرغم من إصرارهم بأن التشريع في ظلّ شغور رئاسة الجمهورية يشكل مخالفة دستورية. وهذا ما دفع بهم إلى الامتناع كليّا عن التصويت أو حتى المشاركة في النقاش، لا بل أن رئيس الكتلة جورج عدوان طلب من النائب غياث يزبك عدم الإجابة على سؤال وجّهه له رئيس المجلس.
ولا شك في المبدأ أن واجب النائب البديهي هو التصويت إذ أن الشعب يمنح هذا الأخير وكالة كي يعبر عن رأيه لا أن يلتزم الصمت، لكن لا شيء يمنع النائب من الامتناع عن التصويت لا سيما إذا كان هذا الأمر نتيجة موقف شخصي عندما يكون الموضوع المطروح للمناقشة يؤدي إلى تضارب بين مصلحة النائب الشخصية والمصلحة العامة. كذلك يمتنع رئيس المجلس عن التصويت بغية الحفاظ على حياديته عملا بالتقاليد البرلمانية المتبعة في بعض البرلمانات.
لكن الامتناع عن التصويت يجب أن يكون فرديا، أي أن ينبع من قناعات النائب الشخصية ولا يجب أن يكون بأي حال من الأحوال امتناعا جماعيا منظما بحيث يتلقى النواب توجيهات بهذا الشأن. فالامتناع الجماعي يؤدي إلى حرمان النائب من ممارسة وكالته الشعبية، ويحدّ من حريته في التعبير عن رأيه. وهذا ما يذهب اليه العلامة “أوجين بيار” بقوله أن الامتناع يجب أن يكون فرديا[1] إذ حتى لو امتنع عن التصويت أكثر من نائب يكون ذلك بشكل عفوي وغير منظّم[2]. لا بل أن المادة 59 من النظام الداخلي لمجلس النواب الفرنسي لسنة 1915 أنزلتْ عقوبة اللوم بحقّ النائب الذي يعطي إشارة بالامتناع الجماعي عن المشاركة في أعمال المجلس التشريعية، وهو الحكم نفسه الذي استعادته في لبنان حرفيا الفقرة “ب” من المادة 98 من النظام الداخلي القديم لعام 1930 التي نصّت على إنزال عقوبة اللوم المجرد “بكل عضو يدعو الى إحداث ضجة ضوضاء أو إلى الامتناع عن الاشتراك في المناقشة أو في أخذ الرأي”.
إن التوجيهات التي أطلقها النائب جورج عدوان بالامتناع عن التصويت تشكّل مخالفة خطيرة جدا للنظام البرلماني وهي في حقيقتها تؤدّي إلى ضرب وكالة نواب “الجمهورية القوية” وتصادر صلاحياتهم علما أنّ النظام الداخلي للمجلس النيابي في لبنان لم يعد ينصّ على عقوبات في حالة الدعوة إلى الامتناع الجماعي عن التصويت.
احتساب الغالبية
أثناء مناقشة قانون الصندوق السياديّ في الجلسة المسائية ليوم 14 كانون الأول، تراجع الرئيس نبيه بري عن طلبه التصويت على إحدى مواد هذا القانون بطلب من نائبه الياس أبو صعب، الذي نبّهه أن امتناع نواب كتلة “القوات اللبنانية” عن التصويت كما عن الكلام يهدد برفض المادة المطروحة.
والحقيقة أنّ هذا الموقف ينطوي على فهم مغلوط لكيفية احتساب الأكثرية كون هذه الأخيرة تحتسب انطلاقا من الذين صوّتوا فعليا بينما الممتنعين لا يعتدّ بهم. وهذا ما كانت المادة الخامسة من النظام الداخلي لعام 1930 نصت عليه لجهة أنّ “الأعضاء الممتنعين عن الاشتراك في التصويت لا يدخلون في حساب الأكثرية”. وهذا ما ذهب إليه أيضا أنور الخطيب الذي يقول التالي:”لا تدخل في حسبان الأغلبية في التصويت العلني أصوات الممتنعين”[3]. وعلى الرغم من أن النظام الداخلي الحالي لم يعد ينص صراحة على ذلك لكنه احتفظ بهذا المبدأ عند التصويت على الثقة إذ تعلن المادة 85 منه أن التالي: “لا يدخل عدد الممتنعين في حساب الأغلبية”.
ويستهجن “أوجين بيار” الامتناع عن التصويت المنظّم لأن قد يؤدي أيضا إلى نتائج مستغربة كصدور قانون حصل على عدد من الأصوات أقلّ من عدد الذين امتنعوا عن التصويت[4]. فالامتناع عن التصويت المتعمّد الذي قام به بعض النواب يضعف جدا من شرعية القانون الذي حصل ليس فقط على غالبية هزيلة، لكن أيضا لم تتمّ مناقشته كما يجب ولم يخضع للتباحث العلني والشفاف كما يفرضه منطق النظام البرلماني.
وما فاقم من خطورة هذه المخالفة للأصول البرلمانية، النتيجة التي رتّبها بري عليها. فبدل أن يذكّر بهذه الخطورة كما يفترض بأيّ رئيس مجلس أن يفعل، تماهى معها من خلال التراجع عن طرح المادة المذكورة أو أي مادة خلافية على تصويت الهيئة العامة، بمعنى أن منع نواب القوات من التصويت أدى إلى نتيجة لا تقل سوءا وهي منع جميع النواب من ذلك خوفا من انقلاب الغالبية، ما يشكل انتهاكا ليس فقط لحرية المجلس لكن أيضا تأكيدا على الطابع الصوري للجلسة التي نتيجتها تكون معروفة مسبقا، من دون وجود أي مداولة حقيقية بين النواب. وهكذا يكون مبدأ صدقية التصويت الذي يعتبر حجر الزاوية في المجالس التشريعية قد تم خرقه من دون أن يثير أدنى اعتراض من باقي النواب الحاضرين.
نوّاب على الشرفات
من السوابق العجيبة التي شهدتها الجلسة التشريعية حضور بعض النواب لكن ليس في قاعة الاجتماع بل على الشرفات ما ولّد حالة من البلبلة بهدف معرفة إذا ما كان هذا الحضور يحتسب من ضمن النصاب.
ولا شكّ أن هذه القضية غير مألوفة ولم نتمكّن من إيجاد سوابق تخصّها نظرا لطابعها الغريب حيث النائب إما يقاطع الجلسة أو يشارك فيها سواء قرر التصويت أو الامتناع، لكن مشاركته تكون كافية لتأمين النصاب. فالمبدأ في احتساب النصاب هو حضور النائب وليس مشاركته في التصويت[5] ما يعني أن القانون قد يحصل أحيانا على عدد من الأصوات مؤيدة ورافضة له أقل من عدد النواب المشاركين في الجلسة، وهو ما يتوافق مع النقطة التي تم شرحها أعلاه.
لكن الإشكالية تكمن في تفسير المقصود بحضور النائب كون هذا الأخير في حال كان متواجدا على الشرفة يكون حاضرا من الناحية الشخصية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه حاضر أيضا من الناحية الدستورية. فالمادة 55 من النظام الداخلي الحالي تنص صراحة على أن “لا تفتح جلسة المجلس إلا بحضور الأغلبية من عدد أعضائه، ولا يجوز التصويت إلا عند توافر النصاب في قاعة الاجتماع”، ما يعني أن الحضور الذي يسمح للنائب بممارسة صلاحياته الدستورية يرتبط بوجوده الشخصي في قاعة الاجتماع مع سائر النواب، وليس بشكل منفصل عنهم من على الشرفة.
فالنائب الذي يتواجد على الشرفة يكون في اختلاط مع الجمهور الذي يشاهد مجريات الجلسة عملا بمبدأ العلنية. لكن هذا الجمهور لا يحق له إطلاقا بأي شكل من الأشكال الكلام أو التعبير عن موقف ما عبر إصدار أصوات يفهم منها التأييد أو الامتعاض أو الحثّ والتشجيع على اتّخاذ موقف معيّن. فحضور النائب مع الآخرين بهذه الطريقة من على الشرفة قد يؤدّي إلى تهديد حريته أو الضغط عليه للتصويت بطريقة معينة هذا فضلا عن صعوبة تعداد الأصوات في حال توزع النواب بشكل عشوائي بين القاعة الرسمية وبين الشرفة. ويصبح الأمر أكثر خطورة في حال كان المجلس في معرض عملية انتخابية إذ يشكل وجود النائب على الشرفة خرقا لسرية الاقتراع في حال كان بمرافقة النائب من يريد مشاهدة ورقة الاقتراع للتأكد من انتخابه لجهة محددة.
ومن المؤشّرات التي تصب في الاتجاه نفسه ما ينقله “أوجين بيار” بأن رئيس المجلس عندما يتلقى طلبا للتأكد من توافر النصاب يحق له تعليق الجلسة لدقائق معدودة من أجل السماح للنواب الذين يتواجدون في بهو المجلس وقاعات اللجان من الرجوع إلى مقاعدهم، ما يفهم منه أن النصاب يتأمن ليس من تواجد النواب داخل مبنى البرلمان بل في قاعة الاجتماعات مع سائر النواب[6] حيث يمكنهم التصويت والتعبير عن رأيهم.
خلاصة القول، إن الجلسة التشريعية الأخيرة التي عقدها مجلس النواب انطوت على ممارسات لا تمت للنظام البرلماني بصلة، لا بل هي تؤدي إلى تدمير هذا الأخير بشكل كامل كونها تهدد حرية النائب وتنزع عن القوانين شرعيتها وتجعل من مجلس النواب مكانا لممارسة السلطة التعسفيّة بدل أن يؤدي وظيفته الحقيقية كمؤسسة تقوم على التداول العلني والديمقراطي للدفاع عن مصالح المجتمع. فلو أضيف إلى كل هذه الاعتبارات عدم حصول تصويت من الأساس فهذا يعني أن هذه الجلسة تكون باطلة بطلانا مطلقا لمخالفتها بديهيات الدستور إذ فقط عبر التصويت العلني والواضح يمكن لمجلس النواب أن يعبر عن إرادته التشريعية.
نشر هذا المقال في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لقراءة العدد بصيغة PDF
[1] “Les membres de chaque Chambre ont le droit de s’abstenir individuellement” (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, 1924, p. 1168).
[2] “Les règlements de chacune des deux Chambers interdisent les manœuvres ayant pour but d’amener des abstentions collectives, mais il résulte des divers précédents que l’abstention collective, lorsqu’elle est spontanée, n’est passible d’aucune peine disciplinaire ”. (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 1169).
[3] أنور الخطيب، الأصول البرلمانية في لبنان وسائر البلاد العربية، دار العلم للملايين، بيروت، 1961، ص. 241).
[4] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 1169.
[5] « En France, il est formellement établie depuis 1878 que la présence et non la participation au vote de la moitié plus un du nombre légal des membres est nécessaire pour la validité des votes de la Chambre des députés ». (Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, p. 1128).
[6] Eugène Pierre, Traité de droit politique, électoral et parlementaire, Supplément, Librairies-Imprimeries réunies, Paris, 1919, p.1346.