على غرار جلسة انتخاب رئيس المجلس النيابي ونائبه وهيئة مكتب المجلس، شهدتْ الجلسة البرلمانية الثانية لهذه الولاية والمخصصة لانتخاب اللجان النيابية انتخابات فعلية. وهي حالة كرّسها وجود نوّاب (تغييريّين) من خارج الكتل التقليديّة داخل المجلس النيابي، الأمر الذي عطّل التسويات أو التوافقات التي عادة ما كانت تنتهي بتقاسم الأحزاب الكبرى لعضوية اللجان ورئاساتها من دون إجراء انتخابات. وكما الجلسة الأولى، ترافقت الانتخابات مع كثير من البلبلة والفوضى نتيجة عدم اعتياد إجرائها والتململ منها. وعليه، لم يتمكّن المجلس من إنهاء العملية الانتخابية في اليوم نفسه، فأُرجئ انتخاب أعضاء لجنتيْ الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية والتربية والتعليم العالي إلى يوم الجمعة، حيث سيتزامَن ذلك مع جلسات انتخاب أعضاء اللجان المنتخبين لرؤساء ومقرّري اللجان. أمّا حالة التوتّر التي فرضها الانتخاب، فقد ظهرتْ جليّاً في العديد من المناوشات التي حصلت خلال الجلسة وفق ما نبيّنه في هذا المقال.
برّي يجتهد ويناقض نفسه مجدداً بانتظار المبعوث الأميركي
بداية الجلسة كانت مع طلب النائبة بولا يعقوبيان الكلام بالنظام حيث اعتبرتْ موضوع ترسيم الحدود البحرية أمراً لا يحتمل التأجيل. وعليه، طلبت وضع اقتراح القانون المعجل المكرّر بهذا الشأن على جدول أعمال الجلسة (وهو على الأرجح اقتراح القانون المقدّم منها في تاريخ الجلسة علماً أن النائب حسن مراد كان قدم قبل يوم من الجلسة اقتراحاً آخر بهذا الشأن). إلّا أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه برّي رفض وضع الاقتراح على جدول الأعمال قائلاً ليعقوبيان: “إنت بتعرفي إنّو هيدا ما بيقطع”، ليعود ويستخدم ذريعة عدم “اكتمال المطبخ التشريعي”، حيث اعتبر أنّ “ألف باء” التشريع هو عدم إمكانية حصوله من دون تأليف اللجان. ولكن برّي عاد وناقض نفسه حين برر موقفه بواقعة لا علاقة لها بأصول التشريع وهو أنّ كبير مستشاري الولايات المتحدة لأمن الطاقة آموس هوكشتاين سيزور لبنان مطلع الأسبوع المقبل ما ينفي ضرورة العجلة على حدّ قوله. والملفت أن النائب جورج عدوان سارع إلى التأكيد على صحة ما قاله بري. وهو الأمر الذي عادت وأكدت عليه النائبة عناية عز الدين في تغريدة نشرتها خلال استراحة ما بين الجلستيْن الصباحية والمسائية.
إلّا أنه خلافاً لما أعلن عنه هؤلاء، يسجّل أمور أربعة:
- أولاً، أنّ النظام الداخلي وعلى عكس ما صرّح به برّي وعدوان وعزّ الدين، لا يمنع بأي شكل القيام بعمل تشريعي قبل انتخاب اللجان النيابية.
- ثانياً، أنّ الاقتراحين المُقدّمين من يعقوبيان ومراد هما اقتراحان معجّلان مكرّران، بمعنى أنّه يتوجّب عرضهما على الهيئة العامة لمجلس النواب لبحث صفة العجلة قبل عرضهما على أي لجنة نيابية، وهو أمر لا يحصل إلّا في حال قررت الهيئة إسقاط العجلة. بمعنى أنّه خلافاً لما صرّح به بري، فإن المسار الطبيعي لبحث هذا الاقتراح هو عرضه على الهيئة العامّة من دون أن يستتبع ذلك بالضرورة إحالته إلى اللجان النيابية.
- ثالثاً، أنّ صلاحية رئيس المجلس النيابي التي طالما عمل برّي على توسيعها، تمنحه حقّ طرح الاقتراح المعجل المكرر على الجلسة الأولى التي يعقدها بعد تقديمه حتى ولو لم يدرج في جدول أعمالها (المادة 109 من النظام الداخلي للمجلس النيابي). وبالتالي، إنّ الخيار يعود تماماً لاستنسابية رئيس المجلس في حال وجد ضرورة لوضع الاقتراح المعجل على جدول الأعمال أم لا، تبعاً لرؤيته إذا ما كان مستعجلاً. وبالفعل، صرح برّي أنّ “لا شيء يدعو للعجلة” في درس هذا الاقتراح، معلّلاً ذلك بزيارة الموفد الأميركي الأسبوع المقبل.
- رابعاً، أنّ برّي كان حاول فتح جلسة تشريعية في إثر انتخاب اللجان في العام 2020 لتمرير قانون العفو العام من دون إعلان مسبق عن هذه الجلسة، إلّا أنّ فقدان النصاب على خلفية الاختلاف بشأن هذا القانون لم يُسعفه. وعقب جريمة تفجير المرفأ، حوّل بري جلسة للنظر في حالة الطوارئ وبشكل مفاجئ إلى جلسة تشريعية صُدّق فيها على 3 اقتراحات قُدّمت بالصيغة نفسها لصيغة اقتراح مراد أي بصيغة المعجل المكرر، ما ينفي ما قاله برّي عن عدم إمكانية فتح جلسة تشريعية في ظلّ جلسة غير مخصّصة لذلك. وفي حين يبقى تحويل جلسات كهذه إلى جلسات تشريعية غير معلن عنها مسبقاً ممارسة غير مستحبة لتعارضها مع مبدأ الشفافية التشريعية، فإنّه يبقى ضرورياً في حالة الضرورة الاستثنائية. كما يلحظ أنه دُعي في 2021 إلى جلسة تشريعية في أعقاب جلسة لانتخابات أعضاء اللجان.
نواب “التغيير” فرضوا الانتخاب وردود الأفعال عليهم
كان واضحاً أنّ كتل الأحزاب الكبرى لم تستسِغ قط فرض انتخاب أعضاء اللجان لأوّل مرّة منذ عشرات السنوات. وقد تجلّت ردّة فعلها بمُعطييْن، الأول هو الامتناع عن التصويت للنواب الجدد (التغيريين) مع تصويت كتل يُفترض أنّها على خصومة شرسة لبعضها البعض، والثاني هو إبداء الامتعاض من العملية الانتخابية والهجوم على هؤلاء النواب الذي وصل إلى حدّ التهجّم الشخصي تحت قبّة البرلمان.
الموقف الأول الممتعض كان من رئيس المجلس النيابي الذي اعتبر أنّه كان يُفضّل حصول توافق وقد عمل على ذلك خلال الأسبوع الماضي، إلّا أنّ ذلك لم يحصل. فاعتبر أنّ العملية الانتخابية إذا حصلت لكلّ اللجان قد تستغرق أكثر من أسبوع. وفي حين أنّ المقاربة الزمنية لبرّي صحيحة حيث استغرق انتخاب كلّ لجنة أكثر من ساعتيْن، فإنّ سبب ذلك يعود حصراً لمشاكل جمّة في النظام الداخلي وغموض آلياته وتعقيدها، وهو النظام نفسه الذي رفض برّي تعديله خصيصاً في موضوع التصويت الإلكتروني الذي كان سيُنهي كل العملية الانتخابية التي ستمتد حتى نهار الجمعة في غضون ساعات قليلة. وقد ختم بري امتعاضه معتبراً أنّ التزاحم على العمل أمر إيجابي، إلّا أنّه بعد فترة ستصبح اللجان فارغة ولا أحد يعمل فيها. ويلحظ هنا أنّ المرصد البرلماني لـ “المفكرة القانونية” تثبّت من أن نسبة التزام نواب الولاية السابقة بحضور أعمال اللجان بلغ 60.08% رغم أن الحضور إلزامي وفق النظام الداخلي للمجلس.
تصويت ضدّ نواب التغيير
بدا التململ أيضاً واضحاً في نتائج انتخابات اللجان وأرقامها. فقد آثرت كتل الأحزاب الكبرى تجاوز صراعاتها لينتخب نوابها بعضهم البعض في موازاة إقصاء نواب “التغيير”. وهذا ما تؤكده الأرقام العالية التي حصدها نواب هذه الكتل. وعليه، لم يُنتخب أيّ من نواب “التغيير” المرشحون في لجنة الإدارة والعدل وهم حليمة قعقور وملحم خلف وفراس حمدان. وبشكل عام، وباستثناء إبراهيم منيمنة الذي نجح في لجنتيْ المال والأشغال العامة بنيله 66 و48 صوتاً على التوالي، لم يتمّ انتخاب أيّ من هؤلاء. وعليه، انحصرتْ عضوية هؤلاء بمنيْمنة وبمن فازوا بعضوية لجان أخرى أقل أهمية بالتزكية. ويلحظ في المقابل نجاح النائب أسامة سعد في لجنة الإدارة والعدل، مما يسمح له بفرض مناقشة اقتراحي قانون استقلال القضاء اللذين تقدم بهما في الولاية السابقة.
ويناقض إقصاء نواب “التغيير” عن لجنة الإدارة والعدل مبادئ العمل البرلماني السليم، حيث يُفترض أن تشترك جميع الكتل في عملية الإعداد التشريعي في اللجان على أن يكون الحسم في الهيئة العامة.
المزايدة في احترام أصول غير موجودة
في حين فرض نواب “التغيير” العودة إلى بعض أصول العمل النيابي، بدأتْ وعلى غير العادة حملة من نواب كتل الأحزاب الكبرى وبخاصة نواب حركة أمل للمزايدة في احترام الأصول والنظام الداخلي (وغالباً من دون أي أساس قانوني)، وذلك في محاولة لـ “إفهام” نواب “التغيير” أنّ الالتزام بالأصول وعدم الدخول في التسويات المعتادة ستؤدّي حكماً إلى تضييع ما يطلبونه من المجلس طالما أن تطبيق الأصول ليس في مصلحتهم.
بدا ذلك أولاً عند مطالبة وضّاح الصادق قبل بدء العملية الانتخابية بإنشاء لجنتيْن نيابيتيْن جديدتيْن، الأولى عملاً بالدستور وهدفها العمل على إلغاء الطائفية السياسية (وهو أمر لطالما نادى به برّي)، والثانية لجنة لتحديث النظام الداخلي (يلحظ أنّ “لجنة النظام الداخلي” كانت موجودة في النسخة السابقة للنظام الداخلي الصادر في 1953 وتم إلغاؤها في النظام الداخلي الجديد الذي وُضع في العام 1994). ردّ بري كان بسيطاً مع امتعاض واضح وهو أنّ لطلب الصادق أصول دستورية عليه أن يسلكها. وهذا القول لا يصمد أمام أي تحليل جدي طالما أنّ اللّجان النيابية موجودة في النظام الداخلي وليست مذكورة في الدستور. وبذلك افتتح برّي حملة المزايدة في اتّباع الأصول عبر اجتراح أصول لا وجود فعلي لها، بعدما رفعها إلى مصاف الأصول الدستورية. أكثر من ذلك، سبق لرئيس المجلس النيابي أن أخذ قراراً بتشكيل لجنة خاصة ad hoc لمتابعة تنفيذ القوانين في العام 2014. وبالاطّلاع على ظروف تشكيلها بحسب موقع المجلس النيابي، فقد نشأت باقتراح من قبل بعض النواب وافق عليه برّي ليتّخذ قراراً بإنشائها، أي أنّه ليس من “أصول دستورية” لتأليف اللجان المؤقتة أو الخاصة، بحسب ما حاول بري الإيحاء به، بل يستلزم الأمر مجرّد قرار من رئيس المجلس عملاً بقراره السابق، وذلك لغياب آلية واضحة في النظام الداخلي.
انسحب الارتباك الذي سبّبه وجود انتخابات فعلية في المجلس النيابي أيضاً على الأمور التنظيمية، فقد استغرقت العملية الانتخابية ما بين الساعة والنصف والساعتيْن لكلّ لجنة. وهو ما دفع البعض إلى التفكير بحلول تنظيمية تسرّع العملية. في هذا الإطار، طلب سامي الجميل بناء على اقتراح من وضاح الصادق أن يتم البدء بعملية الاقتراع لأعضاء لجنة الأشغال بدل انتظار اكتمال عملية فرز لجنة الدفاع والداخلية والبلديات حتى لا ينتظر النواب ذلك من دون القيام بأي عمل. عندها تكفّل علي حسن خليل بالرد عن رئيس المجلس، حيث أكمل مسلسل المزايدة بالأصول واختراع أصول لا وجود لها، فاعتبر أنّ “الأصول” تفرض الانتظار، و”بما أنّكم تطالبون بالأصول فعلينا السير بها”. وهنا مجدداً، لا يوجد أيّ نصّ قانوني أو نصّ في النظام الداخلي لمجلس النواب يفرض الأصول التي تحدّث عنها خليل.
هجوم بالشخصي، استهزاء، وذكورية
لم تكن المزايدة في اتّباع الأصول وحجب الأصوات الطريقة الوحيدة للردّ على النواب الجدد، بل وصلت العملية إلى هجوم شخصي ضدّهم. عملياً، حصلت العديد من الإشكاليات في آلية الترشح والأوراق التي توزّع على النواب. قانونياً، لا يوجد آلية واضحة للترشح في النظام الداخلي، ولذلك تقرّر أن يكون الترشح عبر التواصل مع الأمانة العامة للمجلس النيابي، من دون أن يكون هناك مهل للترشّح أو الانسحاب. وقد كُلّفت الأمانة العامة للمجلس للتواصل مع النواب في عدد من الحالات لتنسيق الترشيحات حيث كان دورها أشبه بإدارة المفاوضات بين الكتل.
جرّاء ذلك، حضّرت الأمانة العامة أوراقاً مطبوعة سلفاً للمرشّحين الذين أبلغوها طلبات ترشيحهم والتي كانت تتواصل معهم. وعند بدء توزيع أوراق انتخاب لجنة المال والموازنة، اعترض النائب فراس حمدان على عدم ورود اسمه على الورقة المطبوعة، طالباً من رئيس المجلس إعلان ترشّحه رسمياً أمام الهيئة العامة ليتسنّى لهم انتخابه. وقد أكّد النائب ملحم خلف على الطلب عملاً بمبدأ المساواة بين المرشحين. وفي حين وافق برّي على الطلب وأعلن ترشح حمدان، انتقد علي حسن خليل (والذي كان جالساً من دون صفة في المقعد المخصص لأمين سرّ المجلس) حمدان بنبرة مرتفعة، حيث أكّد أنّه كان بإمكانه الترشح لدى الأمانة العامة، ليردّ حمدان بنبرة أعلى مؤكداً ألّا آلية واضحة للترشيحات وأنّ الأوراق مطبوعة سلفاً في حين أنّه يُمكن لأي نائب الترشح في أي وقت. عندها، ردّ خليل بغضب عارم محاولاً إسكات حمدان والاستهزاء به قائلاً “سماع يا إبني ما تقاطعني”، فرفض حمدان ذلك قائلاً “أنا زميلك مش إبنك”.
في السياق نفسه، وبعد تصريح النائبة بولا يعقوبيان بأنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري رفض فتح جلسة تشريعية لطرح مسألة حماية الثروة النفطية، ردّ بري: “وين كانت من 10 سنين وقت كنت عم دافع عن الثروة النفطية؟ ما كانت مجوّزة يمكن. على كل حال مش حنحكي، جوزها صاحبنا”. وأكمل بري: “ألف باء التشريع نحن بجلسة انتخابات ما فينا نشرّع بلا المطبخ التشريعي، يبدو في ناس جايي لهون لتتشاوف”. وفي حين كان يُنتظر أن تحاول النائبة عناية عز الدين بصفتها رئيسة لجنة المرأة إبداء اعتراض على كلام برّي المفعم بالذكورية أو طلب شطب عباراته الذكورية من المحضر، بادرتْ عز الدين إلى الدفاع عن برّي عبر ترديد أقواله حول التشريع وحول الدفاع عن حقوق لبنان النفطية، لا بل ذهبت في سياق المزايدة نفسه في الأصول من خلال مباشرة تغريدتها بجملة مفادها “من المعيب أن تكون الزميلة لم تقرأ النظام الداخلي حيث لا تشريع قبل اكتمال اللجان، وهو آخر الزمان أن يزايد على الرئيس بري بموضوع حقوق لبنان وهو صاحب شعار “لن أسمح بالتخلّي عن كوب ماء واحد من ثروتنا” وكفى شعبوية”.