
رسم رائد شرف
بعد غياب طويل باشر مجلس النواب في 25 شباط 2025 عقد جلساته من أجل مناقشة البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام من أجل منحها الثقة، علمًا أن آخر جلسة مناقشة لبيان وزاريّ كانت في 20 أيلول 2021 عقب تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي.
وإذا كانت عودة الحياة إلى المؤسسات الدستورية مؤشرًا إيجابيًا، إلا أن وقائع الجلسة لا سيما لدى افتتاحها تطرح تساؤلات حول كيفية تطبيق النظام الداخليّ لا بدّ من معالجتها من أجل التّركيز على الشوائب التي تعتري الحياة الديمقراطية في لبنان.
أولًا: افتقار الكتل النيابية للوجود الرسمي
أظهر النقاش الذي دار بين بعض النواب ورئيس المجلس حول الوقت الواجب تخصيصه لكل مداخلة حالة من الضياع في كيفية توزيع الوقت بشكل عادل على مختلف الكتل البرلمانية والنواب. فقد أعلن رئيس المجلس نبيه بري في مستهلّ الجلسة أنّه يقترح منح كلّ نائب يتكلّم باسم كتلته نصف ساعة في حال كان عدد نواب الكتلة يفوق عشرة أعضاء بينما يتمّ منح ربع ساعة للنائب كي يتحدّث باسم كتلته في حال كان عددها أقلّ من عشرة أعضاء.
ولا شكّ أنّ الوقت المخصّص للنّائب للتعبير عن مواقفه ومواقف مجموعته السياسيّة هو من صميم النظام البرلمانيّ القائم على التداول الحرّ والعلنيّ للآراء والأفكار. لكن النّظام الداخليّ الحالي لمجلس النّواب لا يتضمّن أحكامًا ترعى كيفيّة تشكيل الكتل النيابيّة وانضواء النّواب ضمن مجموعاتٍ ذات توجّه سياسيّ واحد. وعلى الرغم من أنّ هذه الفكرة طرحت أول مرّة في لبنان سنة 1953 عندما اقترح بعض النوّاب ضرورة تضمين النظام الداخلي نصا بحيث يصرّح كل نائب بموجب كتاب موجه إلى رئيس المجلس بانتمائه إلى كتلة برلمانية معينة أو بكونه مستقلا لكن غالبيّة النواب رفضت هذا الاقتراح.
ومن نتائج عدم وجود رسمي للكتل النيابية إفقار الطبيعة الديمقراطية للعمل البرلماني عبر تهميش المعارضة والحد من دورها في التشريع والرقابة على الحكومة. التوزيع الرسمي للنواب على مجموعات سياسية يستتبع أيضا وجود مجموعات معارضة للحكومة ما يحتّم تكريس حقوقها كي تتمكن من التعبير عن مواقفها بوجه الغالبية النيابية التي تساند الحكومة. ومن أبرز هذه الحقوق تخصيص وقت كافٍ للكتل المعارضة كي تتمكّن من إبداء ملاحظاتها على سياسة الحكومة لا بل أن النظام الداخلي مثلا للجمعية الوطنية الفرنسية يمنح وقتا أطول للمجموعات المعارضة خلال جلسات مساءلة الحكومة.
وقد شرحت المفكرة القانونية في ورقة بحثية حول النظام الداخلي هذه الإشكاليات بإسهاب، ولا شك أن الضياع في كيفية توزيع الوقت على الكتل والنواب، أو ادّعاء النائب جميل السيد بأنه حصل على تفويض من نواب آخرين كي يحصل على وقت إضافيّ، يؤدّي إلى عدم انتظام الحياة البرلمانية إذ تصبح القواعد التي تحكم مداخلات النواب غير ثابتة بحيث تتبدّل في كل جلسة وفقا للمصالح السياسيّة أو حتى مزاج رئيس المجلس المرتبط بحالته الصحية، أو مدى إنهاك النواب بعد نهار طويل بحيث يتم اختصار الوقت لبعض النواب الذين يتكلمون ليلا بينما يتمكن النواب الذين تكلموا في الفترة الصباحية من الاستفاضة في الكلام.
ثانيًا: مخالفة النظام الداخلي لجهة الوقت المخصص للكلام
من المفارقات المهمّة التي حصلت في الجلسة الصباحيّة، تسليم رئيس المجلس بأن اقتراحه بتخصيص نصف ساعة أو ربع ساعة لكل كتلة وعشر دقائق لكل نائب يشكل مخالفة صريحة للنظام الداخلي. فقد نصت المادة 73 من النظام الداخلي لمجلس النواب أن مدة الكلام هي ساعة لكل نائب في مناقشة الموازنة والبيان الوزاري. ولا شك أن هذه المساحة الزمنية الكبيرة تعكس أهمية الموازنة التي تتجسد فيها مختلف السياسات العامة للحكومة بينما يمثّل البيان الوزاري خطة الحكومة ورؤيتها في مختلف المجالات خلال توليها المسؤولية. لذلك يشكّل اختصار هذه المدة مخالفة للنظام الداخليّ وانتهاكا لحقوق النّائب الذي لن يتمكن ربما من الإحاطة بجميع هذه المواضيع في دقائق معدودة ما يُضعف من شرعيّة العمل البرلمانيّ ويحرم النّاخب من الوصول إلى أكبر قدرٍ ممكن من المعطيات والمعلومات التي تسمح له بتكوين صورة واضحة عن الإشكاليّات الكبرى المطروحة في الشأن العام.
وقد وجّهت النائبة بولا يعقوبيان سؤالًا وجيهًا إلى رئيس المجلس مذكّرة إياه بأنّ اقتراحه يشكّل مخالفة للنظام الداخلي لكن المفاجأة كانت بأن أجابها رئيس المجلس إجابةً صحيحة لناحية احترام الأصول البرلمانية إذ أقرّ بالمخالفة واعتبر أنّ وجودها هو ما دفعه إلى عرض اقتراحه على الهيئة العامة بغية الحصول على موافقتها. ولا شك أنّ موقف رئيس المجلس هذا يشكل التطبيق السليم لمبدأ “المجلس سيّد نفسه”. فالوقت المخصص للكلام هو شأنٌ يخضع بأكمله إلى النظام الداخلي الذي يستقلّ مجلس النواب بوضعه، ما يعني أن المجلس يحقّ له تعديل هذا النظام في أيّ وقت كان. وإذا كان خرق النظام الداخلي لا يجوز، لكن تعليق أي بند من بنوده لمرة واحدة يعتبر جائزا كونه يدخل تحت السلطة الحصرية والكاملة للبرلمان.
لكن رئيس المجلس لم يستكمل موقفه السليم هذا كونه أعلن من جهة أن مخالفة النظام الداخلي تحتاج إلى موافقة المجلس لكنه لم يطرح فعليّا الموضوع على المجلس كي يصوت على تعليق المادة 73 المذكورة سابقا والاستعاضة عنها ولمرة واحدة باقتراح رئيس المجلس. وهكذا يكون رئيس مجلس النواب قد أقر المبدأ لكنه خالفه في التطبيق: أعلن الفهم السليم لسيادة المجلس على نفسه ومن ثم طبّق سيادته الشخصية على المجلس، ففرض اختصار وقت المتكلمين من دون موافقة المجلس وكأن المداخلات هي مجرد إجراء شكلي، أو أن جلسة منح الثقة هي مسرحية يجب الانتهاء منها بسرعة وانعقادها “المزعج” يتم فقط لأن الدستور يفرض ذلك.
متوفر من خلال: