” الحقيقة فقط ثوريّة…“ جيلبار نقاش،
شهادة في جلسة الاستماع العلنية ليوم 17 نوفمبر 2016
انطلقت جلسات الإستماع العلنية التي تنظمها هيئة الحقيقة والكرامة يومي 17 و 18 نوفمبر 2016 وتتواصل لمدة سنة بمعدّل يومي استماع شهريا. وبانطلاق جلسات الإستماع العلنية والتي نقلتها عديد القنوات التلفزية التونسية والأجنبية، عاد الحديث من جديد عن مسار العدالة الإنتقالية في تونس، هذا المسار الذي يمر بفترة حاسمة. فمنذ أكتوبر الماضي، لم تعد الهيئة تعمل إلا بتسعة أعضاء بما فيهم رئيسة الهيئة من مجموع الستة عشر عضواً. وقد انخفض عدد الأعضاء على هذا الوجه تبعا لاستقالة4 أعضاء وطرد 3 منهم بعد إحالتهم على مجلس التأديب[1]. هذه التطورات أعطت صورة سلبية عن الهيئة لدى المواطنين ولدى متابعي شأن العدالة الإنتقالية، رغم قبول الهيئة لمجموع 62340 ملفا ورغم قيامها ب 14828 جلسة استماع سرية مع الضحايا وتركيز الهيئة لمكاتبها الجهوية واعتمادها على مكتب متنقل بالنسبة للمناطق البعيدة والأشخاص الذين لا يمكنهم التنقل إلى المكتب المركزي أو المكاتب الجهوية.
هذه الجلسات والتي تضمنت شهادات وآراء هامة للضحايا ولعائلاتهم جعلتنا نتساءل عن مدى تحقيقها للأهداف المنشودة منها وفق الضوابط التي أرساها قانون 2013 المتعلق بالعدالة الإنتقالية، وخاصة الفصل الثاني منه والذي ينصّ على أن: “كشف حقيقة الانتهاكات حق يكفله القانون لكلّ المواطنين مع مراعاة مصلحة الضحايا وكرامتهم ودون المساس بحماية المعطيات الشخصية”.
جلسات الإستماع والحق في الحقيقة
مكّنت جلسات الإستماع الرأي العام من التعرّف على مجموعة هامة من الأحداث التي انطوت على عينات من انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة والممنهجة التي عرفتها تونس في فترات مختلفة من تاريخها من 1955 إلى أحداث الثورة التونسية في 2011. هذه الشهادات الهامة والتي أطلعت الرأي العام على ما حدث في فترات الإستبداد تطرح مسألة علاقة حقيقة الضحايا بالحقيقة القضائية والحقيقة التاريخية.
في الحقيقة كما “عاشها” الضحايا
عملت جلسات الإستماع الأولى ليومي 17 و18 نوفمبر 2016 على كشف حقائق ذهب ضحيتها النساء والأطفال والرضع والشباب والكهول … وشملت شهادات الإنتهاكات أهم الإنتهاكات الجسيمة التي نص عليها قانون العدالة الانتقالية: القتل العمد وخاصة فيما يتعلق بشهداء ثورة 17 ديسمبر 2010، 14 جانفي 2011 وأشكال العنف الجنسي، التعذيب، الإختفاء القسري. كما قدمت نتائج عن الإنتهاكات التي شملت كل الفترات من نهاية الإستعمار وفظاعات أحداث تازركة التي ارتكبها المستعمر الفرنسي إلى الايقافات والسجن والتعذيب في فترة الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة في الستينيات والسبعينيات ثم الإنتهاكات والقتل والتعذيب والإختفاء في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات ثم فترة الألفينيات مع أحداث الحوض المنجمي ووصولا إلى أحداث الثورة التونسية. كما حاولت أولى الشهادات أن تبين أن الانتهاكات شملت كلّ الأعمار والتوجهات السياسية والنضالية في تونس من المعارضة اليسارية والحركة النقابية والطلابية والإسلامية.
وإلى جانب هذه العائلات السياسية والنضالية، كان لجلسات الإستماع الأولى أهمية على مستوى التأكيد على فئة هامة من الضحايا والتي يتم عادة تناسيها في الأطر التقليدية (القضائية خاصة) عند تحديد المسؤوليات وهم الضحايا “غير المباشرين” أو “أفراد الأسرة الذين لحقهم ضرر لقرابتهم بالضحية على معنى قواعد القانون العام…” ( الفصل 10 من قانون 24 ديسمبر 2013). ويشار إلى أن عدد الملفات المقدمة من قبل النساء أمام هيئة العدالة الانتقالية يقارب 20% من الملفات الجملية.
إن سرد الضحايا لما عاشوه وعانوا منه من انتهاكات طالتهم مباشرة أو طالت أفراد عائلتهم يعكس جانبا هاما من الحقيقة والذي يجب ألا يؤخذ على أنه “الحقيقة التاريخية أو الحقيقة القضائية الثابتة”. فما يرويه الضحايا يعود إلى ذاكرتهم الفردية والتي تتأثر بعوامل عديدة نفسيّة اجتماعية صحية… إلخ. إلا أن هذه الخاصية للحقيقة كما يسردها الضحايا لا يجب أن تقلّل من قيمتها أو أن تجعل منها مجرّد رواية فردية شخصية غير موضوعية وبذلك لا يعتد بها، وذلك للأسباب التالية على الأقل:
- أن تواتر روايات الضحايا من شأنه أن يؤكد الطبيعة الجسيمة وخاصة الممنهجة للإنتهاك بتكرّره في فترات مختلفة وأماكن متعددة ولفئات اجتماعية وفكرية وسياسية متنوعة.
- حقيقة الضحايا يمكن، وفي عديد الحالات (القتل العمد، الإختفاء القسري، التعذيب، الإنتهاك الجنسي) يتوجب أن تؤدي إلى تحريك الدعاوى العمومية. وتكون عندها منطلقا للكشف عن الحقائق قضائيا، ومن شأنها أن تساعد المؤرخين على التوثيق وفحص الأحداث وإمكانية صياغة الأحداث التاريخية.
- من شأن حقيقة الضحايا أيضا أن تشكل متنفساً لهم لسرد ما عاشوه من ناحية وتقاسمه مع الجميع لإعلامهم بمدى الألم والمعاناة التي عاشوها والتي لم يكن متاحا لهم الكشف عنها أو البوح بها.
حقيقة الضحايا هي أيضا من الحقيقة التي يودون فهمها
فرواية الضحايا ليست بحقيقة تاريخية بل هي جزء منها ومؤثر فيها. ولذا فإننا نرى أغلب الضحايا الذين تحدثوا وأدلوا بشهادتهم في جلسات الإستماع العلنية، كانوا هم أيضا يطالبون بمعرفة الحقيقة. لماذا حصل لهم ذلك؟ لماذا عاشوا ما عاشوه؟ ولذا يكون جزء آخر من الحقيقة موجوداً عند المسؤولين عن هذه الإنتهاكات والذين يمكنهم أيضا الإجابة عن بعض هذه الأسئلة والمساهمة في تشكيل “الحقيقة”.
جلسات الإستماع ومراعاة كرامة الضحايا
في شهاداتهم، يتجرّد الضحايا كثيرا من عديد من الضغوطات الإجتماعية والعائلية، ويتحدّثون كثيرا عن خصوصياتهم وحميميتهم بما في ذلك الآلام بأنواعها الجسدية والنفسية، في مجتمعات يبقى فيها الحديث عن الخصوصيات الجسدية والجنسية مسألة مسكوتاً عنها ولا يتم الحديث فيها إلا في السرّ وفي إطار الخصوصية والحميمية.
فمنظومة العدالة الإنتقالية تنبني بالأساس على مفهوم الكرامة. فهي منظومة تهدف لردّ الإعتبار للضحايا وإنصافهم، ليس فقط بالنظر إلى كلّ ما تعرّضوا له من أضرار مادية وحرمان من حقوق وإعتداء على الأملاك بل وخاصة من أجل الإنتهاكات الحاطة من الكرامة. ويصرّح العديد من الضحايا أنهم لا يتحدثون عما تعرضوا له، ليس فقط لصيانة صورتهم و”كرامتهم” بالنسبة للمحيطين بهم من العائلة والأصدقاء بل أيضا حماية لمشاعر العائلة والأبناء خاصة. وهو ما يجعل العديد من الضحايا لا يقبلون بالشهادة العلنية ويكتفون بالشهادة في إطار الجلسات السرية والتي عقدت الهيئة قرابة 15 ألف جلسة. فكيف يمكن صيانة كرامة هؤلاء عند الإدلاء بشهاداتهم العلنية، فلا تتحول هذه الجلسات إلى مناسبة جديدة للمس بكرامتهم؟
من المؤكد أن كل الضحايا الذين قبلوا الإدلاء بالشهادة العلنية كانوا قد وافقوا كتابيا على ذلك. ومن المؤكد أنه تم إعلامهم بأن الشهادة ستبث ليراها الملايين من الأشخاص من بينهم أفراد عائلاتهم ومعارفهم وأصدقاؤهم وزملاؤهم ورفاقهم.. فهل تكفي موافقة الضحية؟
على المستوى الشكل، تكون الموافقة شرطا كافيا. ولكن على المستوى الأخلاقي، تتدخل إعتبارات أخرى من شأنها أن تؤثر من جديد في الضحايا وأن تعيد لهم مشاهد الإنتهاكات وأن تؤثر في كرامتهم. فكيف يمكن حمايتهم من حملات التشكيك والتشهير والتي تبلغ أحيانا درجات الشتم والسب والإهانة؟ فجلسات الإستماع العلنية لم تعد، كما كانت في السبعينات والثمانينات، جلسات خشوع واستماع “طقوسي” للضحايا واحترام للآلام والموتى والمفقودين وذويهم والثكلى واليتامى . هذه الصورة التي طبعت جلسات الإستماع بما في ذلك الجلسات القريبة زمنيا وجغرافيا منا… “جلسات المغرب” نراها تصطدم اليوم بهذا المشهد الإعلامي الذي يمكّن الجميع من التفاعل والتعبير والتعليق بما قد يجرّح الضحايا في أقوالهم وأشخاصهم. ومن المهم في هذا الإطار حفظا لنجاعة المسار أن يؤدي الإعلاميون والإعلاميات مع المنظمات المدنية دورا هاما في التوعية بالمبادئ التي تحكم جلسات الإستماع.
في حماية المعطيات الشخصية:
لقد اشترط الفصل 2 من قانون 24 ديسمبر 2013 وجوب حماية المعطيات الشخصية في إطار الجهد لكشف الحقيقة. فما هي هذه المعطيات الشخصية التي يتوجب حمايتها؟ وما هي الآليات الكفيلة بذلك؟
يعرّف القانون التونسي المعطيات الشخصية بأنها: “كل البيانات مهما كان مصدرها أو شكلها والتي تجعل شخصا طبيعياً معرفاً أو قابلاً للتعريف بطريقة مباشرة أو غير مباشرة باستثناء المعلومات المتصلة بالحياة العامة أو المعتبرة كذلك قانونيا”. (الفصل 4 من القانون الأساسي عدد 63 لسنة 2004 والمؤرخ في 27 جويلية 2004، المتعلق بحماية المعطيات الشخصية). وبالنظر في الشهادات التي يقدمها الضحايا، نلاحظ أنها مليئة بالمعطيات الشخصية المباشرة.
في المعطيات الشخصية لضحايا آخرين
يذكر الضحايا في شهاداتهم أسماء ضحايا آخرين وأحداثا متعلقة بهم فيها معطيات عنهم وعما حدث لهم من انتهاكات، مما قد يمسهم في كرامتهم وخاصة لدى الأشخاص الذين يعرفونهم أو أفراد عائلاتهم. وعادة ما تكتشف الضحية كغيرها من المتابعين لجلسة الإستماع العلنية ذكر إسمها أو أحداث متعلقة بها ولا تكون حتما موافقة على ذلك مسبقا. وهنا يكون دور هيئة الحقيقة والكرامة هاما جدا في توعية الشهود بوجوب احترام الأشخاص الآخرين من الضحايا وخاصة أولئك الذين رفضوا صراحة الإدلاء بشهادتهم العلنية.
في المعطيات الشخصية للمسؤولين على الإنتهاك
تكمن أهمية شهادة الضحايا في الكشف عن أسماء وأحداث ومعطيات من شأنها أن تدل على المسؤولين عن الانتهاكات، هذه الأهمية لا يجب أن تخفي عنا أيضا خطورة هذه الشهادات على الأشخاص المعنيين بها وعلى وضعياتهم وصورتهم وكرامتهم أيضا خاصة إذا كانت الضحية غير متأكدة من المعطيات التي ستذكرها أو قد تعرض لاحقا لمؤاخذات أو في بعض الأحيان لأعمال انتقامية.
ولذا وإن كانت هذه الشهادات هامة لأنها تحفز الأشخاص الذين تم ذكرهم واعتبارهم مسؤولين عن الإنتهاكات من الحضور أمام الهيئة وتقديم شهاداتهم أيضا وفي أقصى الحالات رفع دعاوى ضد الشهود أو الهيئة، يبقى أن ثمة مخاوف مشروعة من تعرض الضحايا لأعمال انتقامية مباشرة أو غير مباشرة. وتكون مسألة حماية الضحايا والشهود وعائلاتهم من المسائل الهامة جدا. وهذا ما أكد عليه قانون العدالة الإنتقالية (الفصل 40 قانون 24 ديسمبر 2013) إلا أننا نتساءل عن الإمكانيات والوسائل المتاحة للهيئة للقيام بهذه الأعمال والتدابير الحمائية. ولذا من المهم توعية الشهود بكافة هذه المسائل ليكونوا على بينة منها.
نشر هذا المقال في العدد 7 من مجلة المفكرة القانونية في تونس
[1] ويسجل أن الهيئة ترفض تنفيذ قرارات للمحكمة الإدارية بإيقاف تنفيذ عزل نائب رئيس الهيئة.