عقدت هيئة الحقيقة والكرامة نهاية سنة 2016 أربع جلسات إستماع علنية لضحايا الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عن الفترة موضوع عملها. شكّلت الجلسات حدثاً هاماً باعتبار أنها المرة الأولى التي يتحدث فيها ضحايا الفترة الاستبدادية في تونس عن معاناتهم بشكل علني. وقد رتبت الهيئة جلسات الإستماع على نحو شمل ضحايا من مختلف ألوان الطيف السياسي التونسي وأحداثاً تمتد من النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين إلى حدود أحداث الثورة. وتبعا لذلك، نحجت شهاداتهم القليلة في الإضاءة على أهم أشكال الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي تنسب للمنظومة الاستبدادية والتي تحقق الهيئة في وقائعها[1].
بيّن التفاعل مع جلسات الإستماع العلنية أن مسار العدالة الانتقالية يحظى بتأييد شعبي داخل تونس. كما انه يعد في نظر المهتمين بالشأن التونسي خارجها من شروط نجاح الثورة التونسية. وبدا هذا الأثر اختراقا هاما تحققه هيئة الحقيقة والكرامة في مواجهة من أعلنوا معارضتهم لها وهو أثر يؤشر على قدرتها على المضي قدما في عملها رغم ما تواجهه من عراقيل خارجية ومشاكل داخلية. ومن دون التقليل من أهمية الإحتفاء بهذه الخطوة، فإن ضمان استمرارها وتحسينها يتطلبان في الآن نفسه مراقبة نقدية لتفاصيلها، تصويباً لمكامن الإرتباك فيها، فلا تكون المنفذ الذي يقوض مسار العدالة الانتقالية. ونرصد في إطار هذا المسعى مؤشرين إثنين:
المؤشر الأول: أين البحث عن الحقيقة في خطاب تقديم الشهادات؟
أدارت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السيدة سهام بن سدرين جلسات الإستماع. وقد عمدت في بداية كل جلسة إلى إعطاء الكلمة بداية لمفوض الهيئة ليعرض تقديما لملف الضحية. كانت كلمات المفوضين حماسية في أسلوب إلقائها. وانطلقت جميعها من مسلم مفاده أن الضحية بريء مما نسب إليه وأن السلطة تعمدت تلفيق تهم له. غاب الحس الاستقصائي النقدي عن خطاب من كان يفترض أنهم يبحثون عن الحقيقة. وكشف هذا الخطاب عن قراءة أحادية لأعضاء هيئة الحقيقة والكرامة لتاريخ المجتمع السياسي التونسي قبل الثورة، قراءة تؤسس لتصور يختزل العنف والإستبداد في نظام الحكم ويسند لكل من يعارضه صفة المناضل السياسي الديموقراطي. ويبدو هذا التصور مجافيا للقراءة الموضوعية لهذه الفترة التاريخية ولأدبيات الأطراف السياسية التي نشطت فيها[2]. وهذا ما أكده “سامي براهم” عندما تحدث وبصفته من ضحايا انتهاكات حقوق الانسان عن إمكانية ضلوع بعض من تعرضوا للإنتهاكات في أعمال مجرمة قانونا. وانتهى ليؤكد مبدأ هاما مفاده أن خطأ الضحية إن كان ثابتا جزائيا لا يبرر حرمانه من حقه في المحاكمة العادلة والمعاملة التي تحترم حقوقه الأساسية. ويؤمل تالياً أن تتجاوز الهيئة في مستقبل جلساتها الخطاب هذه النظرة التبسيطية، خصوصا وأنها تتحمل بحكم قانونها الأساسي مسؤولية إعادة كتابة تاريخ تونس.
المؤشر الثاني: احتشام التطرق للفساد المالي، هل كان إختيارا؟
أدلى بتاريخ 22-11-2016 عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي بتصريح إعلامي أوضح فيه أن مرتكبي الإنتهاكات الذين سيتم الإستماع إلى شهاداتهم هم طالبي التحكيم والمصالحة، مشيراً إلى أن “الحضور الإجباري لمرتكبي الإنتهاكات هو شرط جوهري لقبول مطلب التحكيم. وفي حال تراجع مرتكب الانتهاك عن الحضور، فإن الهيئة تقوم بتعليق إجراءات التحكيم والمصالحة.”[3].
بتاريخ الجلسة المذكورة (18 ديسمبر 2016)، لم يحضر أيّ من مرتكبي جرائم الفساد المالي واختُصر الحديث عن هذا الصنف من الإنتهاكات بشهادة وحيدة لشخص وصف بضحية للفساد المالي. كانت الضحية دبلوماسيا سابقا شغل خطة سفير لتونس بدولة الإمارات العربية المتحدة بداية الألفية الثانية. ادّعت الضحية أنها تعرضت لتبعات عدلية بتهمة الإستيلاء على أموال عمومية جراء فساد عائلة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. وأفاد في روايته للأحداث التي قدمها أن فريقاً رقابياً تولى التدقيق في محاسبة السفارة التي يشرف عليها واستمع للأعوان المحليين الذين يشتغلون بها وانتهى لإتهامه بالإستيلاء على جانب من الموازنة المخصصة لخلاص هذا الصنف من الأجراء. وأردف الدبلوماسي السابق أن وزارة الخارجية التونسية أنهت مهمته في الخارج وأن وزير الشؤون الخارجية أعلمه حينها أن رئيس الجمهورية يخيره بين الإستقالة والخروج في صمت أو التتبعات العدلية، فكان أن اختار عدم الإستقالة. وبهدف ربط التتبعات التي تعرض لها بالفساد، ذكر الديبلوماسي أنه وعند اضطلاعه بمهامه، كان يتم إعلامه مسبقاً بزيارات أفراد عائلة زين العابدين بن علي لدولة الإمارات ليؤمن لهم تشريفات خاصة تتمثل في استقبال ديبلوماسي يضمن لهم المرور من القاعة الشرفية للمطار دون الخضوع لإجراءات تدقيق وتفتيش جمركي، وأن تتبعه جاء على خلفية تعذّر تحقيق ذلك في إحدى زيارات “جليلة الطرابلسي” أخت زوجة بن علي وزوجها لإمارة دبي، بسبب وصول خبر الزيارة له بشكل متأخر. وكان لافتا أن من وصف بضحية التصدي للفساد ذكر أنه تفطن بتلك المناسبة لكون الزائرين كانا يهرّبان أموالا هامة من تونس خلافا لقوانين البلاد التي تحجر ذلك وأن تفطنه لهذا الأمر لم يدفعه لاتخاذ موقف رافض أو لإعلام الوزارة التي ينتمي لها بالأمر. كشفت الشهادة في دلالتها كيف تحوّلت مؤسسات الدولة التونسية وسامي مسؤوليها إلى أدوات تخدم عائلة الرئيس. ولكن وفيما عدا ذلك، بقيت الشهادة غير كافية بحد ذاتها لإقناع أنه فعليا ضحية ذلك الفساد، وإن ذكر أن حكما قضائيا قد صدر قبل الثورة وآخر بعدها قد أكدا براءته من التهمة التي نسبت إليه.
وبذلك، بدا عمل الهيئة منكفئاً فيما يتصل بالفساد بالمقارنة مع انتهاكات حقوق الإنسان. فهي فشلت في تحقيق ما وعدت به لجهة إرغام الضالعين في الفساد المالي على تسجيل إعترافات علنية، من دون ان يصدر عنها أي موقف بشأن طلبات المصالحة والتحكيم المقدمة من هؤلاء. كما فشلت في تقديم روايات قوية ومتعددة تبرز الفساد المالي لنظام عرف بشيوع فساده. وهذا الأمر يطرح السؤال حول أسباب ذلك. فهل يعزى إلى فشل الهيئة في تجميع شهادات وأدلة كافية على الفساد أو إقناع الضحايا بالإدلاء بشهاداتهم علناً أم أنه يندرج ضمن نفس المساعي الحاصلة على أكثر من صعيد للتساهل إزاء أصحاب النفوذ المالي الذين هم أبرز المتورطين بالفساد؟
تؤكد التفاصيل التي تعلقت بالسماعات وتلك التي تعلقت بخطاب الهيئة التاريخي حاجة مسار العدالة الإنتقالية لقراءة نقدية إصلاحية بعيداً عن خطابات الإصطفاف التي فرضها ربما صراع السلطة السياسية مع هيئة الحقيقة والكرامة. بالطبع، هذه الخلاصة لا تخفف أبداً من أهمية ما حققته جلسات الإستماع العلني على صعيد التذكّر.
[1] اعتقال تعسفي –تعذيب –انتهاك الحق في حرية التنقل – الحق في العمل – الحق في الزواج –الطلاق القسري –انتهاك حرية اللباس – الحق في السفر – الحق في التظاهر * الحق في النشاط السياسي- الاختفاء القسري – المنع من العمل – الاعتداء الجنسي – القتل خارج القانون – الفساد المالي . [2] وكمثال على هذا الخطاب، أكّد عضو الهيئة السيد محمد بن سالم في تقديمه لشهادة السيد عبد الله بن صالح أن كل ما صدر عن الشاهد ورفاقه تمثل في مسكهم لمناشير. ما جزم به عضو الهيئة كشفت فحوى الشهادة محدودية عمقه في قراءة اللحظة التاريخية للمحاكمة، إذ بين الشاهد أنه كان على علاقة بتنظيم ينشط بالتراب الليبي تحت تسمية الجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس وليبيا. [3] تصريح عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي برنامج ستيديو شمس -إذاعة شمس أف أم بتاريخ 22-11-2016
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.