شمل الهدم الشامل المساجد والمراكز الدينية في القرى التي وصل إليها الغزو (الصورة لبقايا مئذنة في ساحة الحسينية في شمع)
تقف سلوى على أطراف الطريق العام في قرية الضهيرة الحدودية، تلوّح بيديها المرتجفتين لركام منزلها البعيد في الضهيرة الفوقا، ممنوعة من الوصول. ليست الضهيرة الفوقا ضمن النقاط الخمس التي أعلن الجيش الإسرائيلي “الاحتفاظ بها” بعد انسحابه في 18 شباط 2025. ومع ذلك باتت بمعظمها محرّمة على أهلها، تفصلهم عنها سواتر ترابية، وخطر إطلاق النار في حال التجاوز.
مشهد سلوى، وهي تلوّح لركام ذكرياتها من بعيد، لا يحكي فقط قصة ضيعة صغيرة عالقة بين حدودين، بل يفتح السؤال الجوهري لهذا التحقيق: هل انتهى الاحتلال بانسحاب معلن؟ أم أنّ الانسحاب كان إعادة تشكيلٍ لجغرافيا السيطرة، عبر أدوات جديدة ومن دون إعلان رسمي؟
تكشف الوقائع الميدانية أنّ الاحتلال الإسرائيلي لم ينحصر بخمس نقاط، كما يُختزل في الخطاب الرسمي والإعلامي اللبناني، بل هو يستخدم تلك النقاط كرافعة لإعادة إنتاج سيطرته ويوسّع من نطاق احتلاله الفعليّ عبر ثلاث آليات مترابطة: أوّلًا، مواقع عسكرية ثابتة أنشئت أو ثُبّتت خلال مهلة الانسحاب، وأخرى نشأت لاحقًا بحكم الأمر الواقع؛ ثانيًا، منطقة عازلة غير مرئية، تحدّد بالسواتر الترابية في أماكن معيّنة، لكن يُرسم نطاقها بالدم والنار، وبعمق كيلومترين، على طول الحدود الجنوبية. وثالثًا، استهداف ممنهج لأي إعادة إعمار أو تثبيت للحياة.
وكان الاحتلال الإسرائيلي مهّد لهذا الواقع عبر الهدم الممنهج للقرى وجرف بعضها خلال الغزو ولا سيّما بعد وقف إطلاق النار، ليفرض اليوم احتلالًا متوسّعًا وتهجيرًا قسريًا غير معلن، في ما يمثّل شكلًا متقدّمًا من الاحتلال الزاحف الذي يصبّ في إطار إحداث تغيير جغرافي و ديموغرافي دائم للمنطقة الحدودية.
وقد توصّلنا إلى رسم الخريطة الجديدة للاحتلال المستتر من خلال عمل ميداني في القرى الحدوديّة خلال شهري آذار ونيسان 2025، شمل توثيقًا مباشرًا في 17 بلدة من مختلف القطاعات (الغربي، الأوسط، الشرقي)، لرصد أنماط السيطرة الإسرائيليّة، والهجمات على البنية المدنية، ومحاولات العودة. واستند التحقيق إلى جمع شهادات وإجراء مقابلات معمّقة مع الأهالي، ممثلين بلديين، ومصادر محلية، إضافة إلى مراجعة البيانات الرسمية، ومقاطعة المعلومات مع مصادر عسكرية ومحلية في الحالات التي تعذّر توثيقها ميدانيًا بسبب التهديد الإسرائيلي. كما اعتمد التحقيق على تحليل بصري ومكاني لتغيرات الواقع الميداني، لتقديم صورة شاملة عن تطوّر الاحتلال الزاحف والمنطقة العازلة.
لافتة كأنّها تدل على الدمار في العديسة وشقراء
خريطة السيطرة: خمس نقاط تتوسّع… وتؤسّس للعزل
من الناقورة غربًا حتى شبعا شرقًا، أعلنت إسرائيل بالفعل احتفاظها بخمس نقاط عسكرية داخل الأراضي اللبنانية، في خرق صريح لقرار مجلس الأمن 1701 وإعلان تطبيقه المتمثّل بإعلان وقف الأعمال العدائيّة. ورغم أنّ هذه النقاط تُقدّم غالبًا بوصفها “استثناءات محدودة”، إلّا أنّها في الميدان تشكّل منصات توسّع، تُستخدم لفرض منطقة أمنية غير معلنة، تتجاوز وظيفتها العسكرية لتكرّس احتلالًا.
في القطاع الغربي، ثبّت الاحتلال الموقع الأوّل له على تلّة اللبونة بين علما الشعب ورأس الناقورة، ليطلّ على الساحل والطريق الدولية. صعودًا شرقًا، يسيطر جيش الاحتلال الإسرائيليّ على موقع ثانٍ في مرتفعات جبل بلاط، بين راميا ومروحين. ومن هنا، يخترق الاحتلال الأراضي اللبنانية بعمق يقارب الكيلومتر، ويفصل بين القطاعين الغربي والأوسط، متمركزًا على نقطة تشرف على البلدات الجنوبية في كلا القطاعين، وساحل صور، وتصادر خلفها أودية حدوديّة.
عند أطراف بلدة عيترون، ينتصب على تلّتي جبل الباط وجل الدير المتصلتين موقع إسرائيليّ ثالث داخل الأراضي اللبنانيّة، بعمق 1.5 كلم، ليرسم هيمنة بصرية على عيترون ومارون الراس وبنت جبيل، وكذلك أراضي سهل الحولة وبلدة صالحة، على الجهة الأخرى من الحدود.
بينما يرتفع الموقع فوق رؤوس السكان، تقول أم علي، وهي أم لشهيد من بلدة عيترون، قضى خلال مقاومة الغزو الإسرائيليّ: “هنّي فوق روسنا، بس نحنا بعدنا هون.. الأرض إلنا، ولو تحت عيونن، ما رح نتركها ولا ننكسر”.
وفي قلب القطاع الأوسط، يتمركز الاحتلال في موقع رابع جنوب شرق بلدة مركبا. وعلى تخوم الخيام، تبرز تلّة الحمامص، وهي الموقع الخامس التي توغل الاحتلال أكثر من كيلومتر داخل الأراضي اللبنانية للوصول إليها. من تلة الحمامص، يواصل الجيش الإسرائيلي توسّعه اليومي نحو تلة يعقوصة المجاورة، رافعًا سواتر ترابية جديدة، ومقتطعًا أجزاء إضافية من الأرض المحررة. من على سفح مقابل، يقول حسن عبد الله، العشريني ابن الخيام، وهو يشير إلى خطوط التراب المتقدمة نحو قريته: “كل يوم بفيق، بشوف الأرض عم يبتلعها الاحتلال”.
خزان المياه الرئيسي في مركبا بعد تدميره
المواقع الخمسة التي يتمركز فيها الجيش الإسرائيلي في تلال اللبونة، وجبل بلاط، وجبل الباط وجل الدير، والدواوير والحمامص ويعقوصة، أنشئت خلال مهلة الانسحاب، وبعد أيّام منه، ظهر موقع غير عسكريّ، بل دينيّ هذه المرّة.
فبحلول نهاية شباط، اتّضح وجه أكثر خطورة للاحتلال: في بلدة حولا، أُزيح السياج الحدودي شمالًا، وصودر “قبر العبّاد” التاريخي، بعد ترميمه وتحويله إلى مزار ديني يهودي بحماية جيش الاحتلال.
والمواقع العسكريّة لا تزال تتزايد داخل الأراضي اللبنانية بعد أشهر من الانسحاب. في الأسبوع الأخير من شهر نيسان، رُصد استحداث الاحتلال موقعًا عسكريًّا في منطقة “خلة المحافر” في بلدة العديسة. تعمل آليات الاحتلال على تسوية الأراضي بين السياج الإلكتروني والخط الأزرق المتحفَّظ عليه، مستقدمة دشمًا إسمنتية ضخمة، تحت حماية دبابات الميركافا.
وتمثّل هذه النقاط السبعة مواقع احتلال محصّنة. وما بين هذه النقاط، لا فراغ، بل خيوط نار تصلها، وتشكّل معًا الخط الأوّل لجغرافيا الاحتلال: الوجود العسكريّ المباشر.
حين توجّهت سلوى إلى قريتها الضهيرة في القطاع الغربيّ، كان في بالها أنّ عامًا ونصف العام من التهجير القسري، سينتهي فور وصولها. كانت تقف أمام الساتر الترابي، وتمتد أمامها الضهيرة الفوقا والضهيرة التحتا، وقد تحوّلتا إلى أطلال: منازل مهدّمة بالكامل، مقابر جُرِفت، وأشجار معمّرة اقتُلعت على مد البصر.
والضهيرة على الحافة الحدودية مع فلسطين المحتلة هنا ليست استثناءً: كلّ قرى الجنوب الحدودية هدّمت. ولم يكن ذلك بفعل المعارك المباشرة، بل عبر سياسات منظمة للنسف والتجريف وإشعال الحرائق، واقتلاع الأشجار وتدمير البنى التحتية والخدميّة. عمليات تمّت بعد السيطرة على الأرض، وهي تمّت بمعظمها خلال فترة وقف إطلاق النار ومهلة الانسحاب، وما زالت مستمرة.
وقبل الانسحاب، أقدمت قوّات الاحتلال الإسرائيلي على تغيير معالم الضهيرة. حفرت الطرقات المؤدية إلى الأحياء السكنية والأراضي الزراعية، وأغلقت الممرّات الفرعية في محلة البطيشية وتل إسماعيل بالسواتر الترابية. كما قطعت أوصال البلدة وفصلتها عن محيطها، فأقفلت طرق الربط مع بلدة يارين شرقًا، وصادرت معظم أراضي القرية وحاصرتها ضمن شريط ضيّق من البيوت المهدّمة المحاذية للطريق العام.
يوم حاولت سلوى العودة، وجدت جنود الجيش اللبناني منتشرين عند السواتر الترابية. أحد الجنود، أنهكته شمس الجنوب، يرفع يده بحذر ليؤكّد على الأهالي عدم التقدّم: “من أجل سلامتكم”، يؤكّد بصوت عالٍ. لكن سلوى تتمتم بصوت مخنوق: “هَي بيوتنا، مش مناطق عسكرية”.
في الأثناء، تلوح أبراج المراقبة الإسرائيلية في موقع الجرداح الإسرائيلي المقابل. من خلف نظارات القناصة وفوهات البنادق، يراقب الجنود الإسرائيليون الطرقات، متأهبين للانقضاض على أي حركة تظهر فوق الركام.
في القطاع الشرقيّ، عاد الناس فور انتهاء مهلة الانسحاب ليجدوا بدورهم منطقة عازلة مشابهة بين العديسة وكفركلا. هنا أيضًا، أغلقت الردميات الطرقات الزراعية والممرات السكنية، وقضمت مساحات شاسعة من الأراضي والبلدات.
وفي آذار، برز وجه آخر لهذا القضم: في بلدة حولا، وبعد أيّام قليلة من مصادرة قبر العبّاد وفتحه أمام زيارات الحسيديم، أُقيم خندق جديد يفصل كامل جبل العبّاد عن بلدة حولا، مما صادر ليس فقط المعلم التاريخي، بل كل السفح الزراعي والحي السكني فيه. لم تعد السيطرة هنا مجرّد احتلال عسكري، بل امتدت إلى قضم ثقافي ومحاولة فرض استيطان ديني مقنّع.
لاحقًا، وعلى مدى الايّام التالية للانسحاب، سيفرض الجيش الإسرائيلي من المواقع السبعة التي يتمركز فيها منطقة عازلة غير معلنة على كامل الحدود الجنوبيّة البالغ طولها 105 كلم، تمتد من الناقورة غربًا حتى مزارع شبعا شرقًا، وبعمق يتراوح بين كيلومتر وكيلومترين داخل الأراضي اللبنانية.
وتحت هذه الإجراءات، تتكشّف صورة أخطر من إقامة المواقع العسكرية والمناطق العازلة بالردميّات، أي الإجراءات الميدانية التي أنجزت قبل الانسحاب: منطقة عازلة تُرسم حدودها بالنار والدم على طول الشريط الحدوديعبر إطلاق النار المباشر، والقنص، وغارات المسيّرات، وأحيانًا مروحيات الآباتشي. لم توضع فيها أسلاك جديدة أو علامات مرئية لتحديدها، بل اكتشف السكان حدودها بدمهم: كلما اقترب مزارع أو راعٍ أو نازح عائد إلى أرضه، واجهه الرصاص، فسقط شهيدًا أو جريحًا، أو نجى واضطر للتراجع دون عودة.
سقط جرحى وشهداء على امتداد الخط الأزرق، بينما كان أهل القرى يفقدون القدرة على الوصول إلى أراضيهم وأحيائهم تدريجيًا، عبر الخوف المنظّم والموت المتنقل.
حي مهدّم بالكامل في كفركلا
شهادات من خطوط العزل
يقول حسين قطيش، عضو مجلس بلدية حولا، الذي أصيب واعتُقل خلال حراك شعبي للعودة إلى القرية وفرض تحريرها قبل يومين من انتهاء مهلة الانسحاب: “قال لي المحقق الإسرائيلي: بيتك بجبل العبّاد؟ وبكل ثقة جاي؟ حتى لو رجعت كلّ الناس على حولا، مش رح توصلوا على العبّاد. حولا ما رح تبنوها وجبل العباد ما رح تفوتوا عليه”.
أبو وسام الحاج من مروحين، يصف من مكان نزوحه في صور – معاناة مصادرة الأرض: “صرنا نشوف الأرض بس من بعيد… الطرقات تسكرت، الرزق تركناه لعبث الاحتلال”.
في مروحين، اقتطع موقع جبل البلاط الإسرائيلي المناطق الشرقية فيها، وهو لا يزال يتوسّع على حساب أراضيها، فيما تحوّلت تلك الجنوبيّة إلى منطقة عازلة.
تمتدّ المنطقة العازلة هذه من البستان إلى راميا، وتصادر أراض اعتادت فاطمة عيسى زراعتها كلّ عام: “مستعدة أنزل أفلحها تحت الرصاص… بس أولادي قالولي حياتك أغلى. قلتلهم، بصبر، بس الأرض بتعادل الروح. بلا أرضي كأني مش عايشة”، تقول فاطمة.
نبقى في مروحين المهدّمة بأكملها، حيث لا يزال وسط القرية مفتوحًا لوصول الأهالي، وفيه خيم مؤقّتة نصبها شبّان، بعد أن أزيلت خيمهم بطلب إسرائيليّ – عبر اليونيفيل – من أطراف القرية.
بعد أيّام من الانسحاب، وليس بعيدًا من تلك الخيم، استهدفت مسيّرة إسرائيلية ورشة بناء منزل من ثلاث طبقات كان السبعيني عبد الله القاسم قد بدأها على نفقته الخاصة، في ظل غياب أي مؤشرات لبدء ورشة إعادة الإعمار الرسمية. أحضر القاسم معدّاته وبدأ بإزالة الركام، قبل أن تستهدف هذه المعدّات مسيّرة إسرائيليّة، في رسالة واضحة: الوصول هنا قد يكون مسموحًا، لكنّ محاولات إعادة البناء ممنوعة.
لاحقًا، دخلت البيوت الجاهزة على خطّ محاولات استعادة القرى. على الطريق المؤدي إلى محيبيب، وهي قرية لا تقع على الشريط الحدوديّ مباشرة، بينهما بليدا وميس الجبل، كان راعٍ عجوز يرعى قطيع غنماته وحيدًا يوم 12 نيسان. الطريق الذي جرفته القوّات الإسرائيليّة خلال الغزو مقتلعة إسفلته، امتلأ بالحفر والمطبّات، لكنّه لا يزال يقود إلى قمة التلة المعلقة بين الخراب وانتظار الإعمار.
محيبيب، القرية الصغيرة التي احتضنت على مدى قرون مقامًا دينيًا تاريخيًّا وبيوتًا متراصّة، عتيقة وحديثة، اختفت بالكامل. القرية فُجّرت بطريقة ممنهجة لا عشوائية: الحارات القديمة سُوّيت بالأرض، المقام التاريخي تحوّل كومة حجارة، مئة مبنى تحوّلت إلى ركام. غابة “الوعرة” دُمّرت والمقابر جُرّفت، ونُبشت جثث الأموات من أجداد أهل محيبيب. ولم يبق منها سوى أطلال لا معالم لها.
وسط هذا الفراغ الكامل، تصل أربعة بيوت جاهزة لتضعها جمعية “وتعاونوا” في فسحة خالية عند مدخل البلدة. المبادرة تهدف إلى إقامة مركز خدماتيّ مؤقت: وحدة بلدية، إسعاف صحي، ونقطة تنظيمية. تسلّم مختار محيبيب المفاتيح، تفقّد البيوت، أحكم أقفالها، وغادر.
في اليوم التالي، ومع حضور عدد من الأهالي، ألقت مسيّرة إسرائيلية قنابل صوتية فوق الموقع، نجا منها أحد المواطنين. رغم رسائل النار، ظلّ الأهالي يترددون بحذر، فاستُكملت الرسالة في الأيام التالية: قصفت المسيّرات البيوت الجاهزة على جولتين يومي 17 و18 نيسان. هكذا استهدفت المحاولة الأولى لإعادة تأسيس موطئ قدم في محيبيب تحت الضربات.
أكوام ركام منازل مهدّمة في محيبيب
محيبيب كانت أولى القرى التي تعرّضت للنسف الكامل خلال الغزو البري، ثم امتدت السياسة نفسها إلى معظم قرى الحدود. واليوم، تواصل إسرائيل النهج نفسه، ويمتدّ استهداف البيوت الجاهزة المستمر على طول قرى الحدود المهدّمة، ويشمل كذلك المنازل الجاهزة التي تستقدم لاستعمالات فرديّة، إسعافية أو تجاريّة.
في حولا، اشترى الشاب حسن نصرالله بيتًا جاهزًا وحوّله إلى مقهى صغير لاستقبال الناس وإعادة شيء من النشاط إلى بلدة حدوديّة شملتها أعمال التهديم الشامل. بعد أيام قليلة وتحديدًا في 28 آذار من استكمال التجهيزات، دمّرت مسيّرة إسرائيلية المقهى بالكامل. حسن الذي كان يأمل أن يكون المقهى رمز عودة، بحسب ما يخبر والده “المفكّرة”، وجد نفسه يعود إلى نقطة الصفر. ويقول الشاب، إن محاولته ورفاقه إعادة الحياة، سُحقت قبل أن تكتمل.
“عملت شهرًا ونصف الشهر على تجهيز القهوة. كنت أعمل تحت نظرهم، ولمّا اكتملت، قصفوها وأحرقوها”، يخبر حسن “المفكّرة”. قبل يوم من استهداف المقهى، استُهدف حسن ورفاقه بقنبلة صوتية، لكنّهم أصرّوا على استكمال الأعمال. ويقدّر الشاب خسارته بـ 13 ألف دولار أميركيّ، لكنّه يؤكّد أنه باقٍ في قريته.
مقهى حسن قبل التدمير وبعده
في بلدة في القطاع الغربي نتحفّظ على ذكر اسمها حفاظًا على هوية صاحب الشهادة، نصب موظّف في قوّة اليونيفيل بيتًا جاهزًا فوق أنقاض منزله المدمّر. بعد يومين فقط من تثبيته، استُهدف الموقع بقصف مسيّرة، ودُمر بالكامل، بحسب ما أظهرت معاينة “المفكّرة”. الرجل، الذي فضّل عدم ذكر اسمه لغياب إذن بالتصريح من جهة عمله، اضطر إلى مغادرة البلدة مجددًا، تاركًا خلفه حلم العودة. وفي عيتا الشعب، تعرّض مقهى بسيط افتتح بعد العودة للقصف يوم 23 آذار. حين عاد صاحبه حسن الزين في الصباح لتفقد الركام، سقط الشاب شهيدًا باستهداف مسيّرة: “هنا استهداف محاولات العودة إلى الحياة لا يتوقّف عند الهدم، بل يشمل قتل من يصرّون على البقاء”، يقول قريبه علي في شهادته، مؤكّدًا أنّ هدف حسن كان أن يعيد شيئًا من الحياة إلى قرية مهدّمة “بكلّ ما في هذا من تحدٍّ للاحتلال”.
وفي 5 أيّار 2025، استهدفت طائرات الأباتشي “باحة خدمات” أقامتها جمعيّة وتعاونوا، وأظهرت الصور تدمير المنازل الجاهزة الثلاثة فيها.
جمعية “وتعاونوا”، التي تشرف على توزيع البيوت الجاهزة ذات الاستعمال الخدميّ العام في القرى الحدودية، تؤكّد أنّ استهداف البيوت الجاهزة التي تقدّمها يتكرر في القرى التي شهدت تدميرًا شاملًا: “لكنّنا مستمرّون في مبادرتنا”، يقول جمال شعيب، المسؤول الإعلاميّ في الجمعية، كاشفًا أنّ تمويل البيوت الجاهزة يأتي من تبرّعات يجري جمعها.
وصول البيوت الجاهزة إلى محيبيب
أبعد من بيوت جاهزة
ووثّقت “المفكرة القانونية” شنّ قوّات الاحتلال الإسرائيليّة 21 هجومًا ضدّ بيوت جاهزة مدنية في 12 قرية منذ بدء العودة عقب انسحاب 18 شباط، وذلك باستعمال المسيّرات، او من خلال قصف طائرات الآباتشي. بعضها أدى إلى تدمير بيوت جاهزة عدّة في الهجوم الواحد، فيما شنت بعض الهجومات على جولات متعدّدة. وقد أوقعت هذه الهجمات إصابات، وجُرح في إحداها مسعف.
وبحسب توثيق “المفكّرة”، استهدفت البيوت الجاهزة في الناقورة على الساحل الحدودي، مرورًا بطيرحرفا وشيحين والبستان، وبين الزلوطية ويارين، وصولًا إلى راميا، وعيتا الشعب، ثم محيبيب وميس الجبل وحولا، وانتهاءً بكفركلا. طالت الغارات الإسرائيلية البيوت الجاهزة في سلسلة قرى حدودية امتدت من البحر إلى أقصى الشرق، في محاولة ممنهجة لتدمير المأوى البديل الذي لجأ إليه أهل القرى بعد تهديم قراهم.
شملت هذه البيوت منشآت فردية مؤقّتة اشتراها المزارعون، استخدم بعضهم فيها تعويضات “الأثاث والسكن” التي تُصرف عبر مؤسّسة القرض الحسن، أو تلك الخدميّة التي قُدّمت بمبادرات تعاونيّة من خلال التبرّعات، مع غياب أي دعم رسميّ للعودة وإعادة الإعمار، أو تعويضات من الدولة للمتضرّرين.
بهذه السياسة، تواصل إسرائيل تنفيذ استراتيجية محاربة الوجود المدني: تدمير البنى التحتية، منع إعادة الإعمار، وحرمان السكان من أي فرصة للعودة الآمنة إلى قراهم.
ويتّضح بهذا العرض، كيف يتموضع الجنوب اليوم ضمن ثلاث خطوط متداخلة: (1) خط الاحتلال العسكري من خلال المواقع التي يتمركز فيها الجيش الإسرائيلي مباشرة داخل الأراضي اللبنانية، وما يضاف إليها من مراكز تُقضم تباعًا، (2) خط المنطقة العازلة بالنار: يمتد حتى كيلومترين داخل الحدود، يمنع الحركة المدنية بالقوة المسلحة. (3) خط القرى المدمرة بالكامل: حيث سُحقت البنية السكنية والاقتصادية، ويُمنع فيها إعادة البناء بشكل ممنهج.
بيت جاهز بعد تدميره في طيرحرفا – المصدر “وتعاونوا”
.. ومقاومة باللحم الحيّ
في وسط هذا الخراب، يحاول أهالي بعض الأحياء التي نجت جزئيًا من المحو، استعادة نبض الحياة. في ميس الجبل الحدوديّة، فُتحت بعض المطاعم والمتاجر التي لم يطلها التدمير الممنهج أبوابها مجددًا، رغم أنّ معظم أحياء البلدة السكنية، بما في ذلك الفيلّات الفخمة والبيوت المتواضعة، وكذلك مؤسّساتها الخدميّة والرياضية والصناعية، وتلك الرسمية فيها، قد سوّيت بالأرض.
في المقابل، تبرز بلدة شمع كنموذج فريد لحالة وسطى: ليست على الشريط الحدودي المباشر، لكنها تعرّضت للغزو الإسرائيلي خلال محاولة التفاف عسكري نحو الناقورة عبر أراضيها. ورغم أنّ القوّات الإسرائيلية واجهت مقاومة عنيفة وفشلت في الوصول إلى الناقورة خلال القتال المباشر، دفعت شمع ثمن الغزو بتعرّضها لدمار شامل وممنهج بعد التمكّن من السيطرة عليها، شمل تدمير بيوتها ومرافقها الحيوية من خلال النسف والتجريف.
بيت محترق في شمع
اليوم، تجري في شمع محاولات متواضعة لإعادة البناء وسط حالة من عدم اليقين. الحسينية، التي كانت تشكل مركزًا اجتماعيًا لأهالي البلدة والقرى المجاورة، يُعاد بناؤها بتبرعات محلية “لما لها من دور اجتماعيّ يشجّع على العودة”، بحسب عضو مجلس بلديّتها حيدر حيدر. كما أُعيد بناء وتشغيل محطة المياه وبدأت محاولات لإعادة إضاءة الشوارع بالطاقة الشمسية، وكلّ هذا يجري بجهود فردية ومجتمعية من أبناء القرية، يقول حيدر.
وبين الأهالي المتجمعين في ساحة الحسينية، يعبّر أكثر من واحد لي عن قلقه من أن تكون إجراءات إعادة البناء هنا في عين الاستهداف، في ظل غياب معايير واضحة لما يُعتبر “مسموحًا” أو “ممنوعًا” في الحسابات العسكرية الإسرائيلية. وحين دوّى صوت غارة استهدفت بلدة الجبين المحاذية، لم يتوقّف العمال عن عملهم، واصلوا البناء بصمت، في معركة عنيدة لاستعادة الحياة.
وبالتزامن، وصل ثاني البيوت الجاهزة إلى القرية، لصالح شقيقتين مسنتين، لم تعودا تطيقا حياة التهجير، بحسب ما تؤكّد زينب مرعي إحداهما، فيما تنشغل الأخرى بتقديم واجب الضيافة للعمّال.
“احترق بيتنا، وبيت جيراننا، أحرقوا ما لم يهدّموه.. قدّام عينك محروق البيت”، تحكي زينب، وهي تشير إلى الجدران المتصدّعة والأساسات المتهالكة، التي لوّنتها النار.
زينب قرب غرفتها الجاهزة
“نحن وحدنا”
والناس على طول الحدود، يلاحظون غياب الدولة عنهم. لم تبدأ الدولة عملها، ولم تضع خططها بعد، في قرى مهدّمة ضاعت معالمها وحتى حدود عقاراتها. يقول مختار محيبيب إنّه “حتى اليوم، لا يوجد أي عمل رسميّ من قبل وزارات الدولة ومؤسساتها لتنظيم وضع القرية ودعم جهود العودة إليها، فضلًا عن إعادة البناء”، ويضيف: “نحن وحدنا”، يقولها كحقيقة أكثر منها شكوى.
وكلامه من القطاع الشرقيّ يتردّد صداه في سائر القرى الحدوديّة، وصولًا إلى تصريح نائب رئيس بلديّة شمع غربًا حيث المبادرة فردية وجماعية، من الأهالي.
في هذا الفراغ، يتحرّك الناس. تصبح عودتهم وتدابير إعادة الحياة إلى قراهم، تحت السماء المفتوحة على القصف، فعل مقاومة وتثبيت حقّ في وجه توسّع المنطقة العازلة وتمدّد الاحتلال، وفي وجه جريمة إسرائيليّة مستمرّة: جريمة لا تستهدف الأرض فحسب، بل الحق في الوجود، والحق في الحياة. جريمة تمتد عبر ثلاثة خطوط جغرافية، وخلفها جنوب يرزح تحت نيران المسيّرات والغارات المتنقلة، التي تمتد أحيانًا إلى البقاع، وتطال بيروت، في استمرارٍ للعدوان بلا حدود. ومن هنا، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يُترك الناس يقاتلون المحو وحدهم؟ أم أنّ معركة الإعمار، كما معركة التحرير، لا تزال تنتظر أن تبدأ؟
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.