“ما معنى صحافة لا تُغضب الحاكم العربي، ورجال استخباراته، ومشايخه، و«مثقّفيه»؟”
سماح ادريس-كاتب، ورئيس تحرير مجلة الآداب اللبنانية
نشرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيّين التقرير الذي أعدّته وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية حول الانتهاكات التي طالتْ الصحفيّين خلال شهر جانفي 2022. وقد عكست الاحصائيّات المنشورة تأزّم واقع الصحافة وتطوّر حجم الاعتداءات التي تطال مهنيّي القطاع والتي تعتبر الأعلى خلال الأشهر الستّة الأخيرة. هذا ومثّل تاريخ 14 جانفي 2022، ذروة التعاطي العنيف مع الصحفيّين خلال تغطيتهم أجواء الاحتجاج على تغيير تاريخ الثورة إلى 17 ديسمبر، والتي انتهت إلى عشرات الإيقافات واعتداءات جسدية ومنع من العمل وغيرها من مختلف أنواع الانتهاكات.
ورغم مطالبة النقابة وعدد من قوى المجتمع المدنيّ باعتذار رسميّ من السلطة عمّا حدث في ذلك التاريخ، إلاّ أنّ تركيز رئيس الجمهورية الذي ظهر لاحقا ليعلّق على الاحتجاجات، كان منصبّا على إحصاء عدد المحتجّين والتبخيس من حجمهم، متغافلا ومشيحا بنظره عن عمليات الإيقاف والضرب التي شهدتها شوارع العاصمة يومها ونقلتها الكاميرات.
هذا التقرير، إضافة إلى عدد من الممارسات التي طالت القطاع خلال الأشهر الفارطة، يدقّ نواقيس الخطر حول مستقبل حريّة الصحافة في تونس، التي وكغيرها من مكاسب 14 جانفي 2011 التي وُجّهت إليها معاول الهدم من أجل مشروع جديد مُبهم، قد تكون الساحة المقبلة لمعارك رئيس الجمهورية وهدفا لمقرراته التسلطية.
ارتفاع كمّ الاعتداءات على الصحافة
استعرض تقرير وحدة الرّصد والسلامة المهنيّة التابعة لنقابة الصّحفيين، والذي تمّ نشره في 11 فيفري الجاري، الاحصائيات الخاصة بالاعتداءات التي طالت المهنيين خلال شهر جانفي من نفس السنة في ظلّ “الأوضاع الاستثنائية” التي تعيشها البلاد منذ 25 جويلية 2021. وقد تمّ تسجيل 30 حالة اعتداء جسدي ولفظي ومنع من العمل من أصل 35 إشعارا، طال 33 ضحيّة موزعين بين 25 صحفيا وصحفية و8 مصورين ومصورات صحفيات وتوزعوا جندريا إلى 15 امرأة و18 رجلا. وهذا الرقم هو الأعلى خلال الأشهر الستّة الأخيرة، حيث ارتفع عدد الاعتداءات من 15 حالة في شهر أوت 2021 إلى 30 حالة في شهر جانفي 2022. هذا ومثّل انتهاك الحرمة الجسديّة للضحايا والاحتجاز التعسّفي ما يناهز 43% من مجمل الانتهاكات المبلّغ عنها، وهي التي تعتبر أشدّ وأخطر أنواع الاعتداءات.
وفي نسبة غير مسبوقة، انفرد الأمنيّون بثلثيْ الاعتداءات المسلّطة على مهنيّي قطاع الصحافة. بينما توزّعت باقي الاعتداءات على الموظفين العموميين والوزارات في اعتداءينإثنين لكل منهما، إضافة إلى نشطاء التواصل الاجتماعي ب 3 اعتداءات، ومسؤولين محليين وموظفين بشركة خاصة باعتداء وحيد لكل منهم. هذا وكان لمؤسسة رئاسة الجمهورية نصيب من الانتهاكات بانخراط رئيس الجمهورية في حملة تحريض ضد الصحفيّين والصحافيات من خلال اتهامهم بالافتراء والكذب وخدمة رؤوس الأموال واللوبيات.
عمليات التضييق على الصحافة والصحفيين في تونس لم تقتصر على العنف البدني أو اللفظي، بل تمثّلت في حرمانهم من المعلومة بفعل “المنشور المتعلّق بالاتصال الحكومي للحكومة” الصادر عن رئيسة الحكومة في 10 ديسمبر 2021. حيث أصبح المسؤولون في مختلف الإدارات المركزية أو الجهوية يمتنعون عن تقديم أي معلومات أو تصريحات للمراسلين الصحفيّين معلّلين الرفض بضرورة الرجوع إلى رؤسائهم لطلب الترخيص بالتصريح أو تقديم المعلومات. ويعتبر هذا المنشور عدد 19 مخالفا لأحكام المرسوم عدد 115 المؤرّخ في 2 نوفمبر 2011 والمتعلّق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، خصوصا في فصله التاسع الذي ينصّ أنّه “يمنع فرض أي قيود تعوق حرية تداول المعلومات او تحول دون تكافؤ الفرص بين مختلف مؤسسات الاعلام في الحصول على المعلومة”، وفصله العاشر الذي جاء فيه؛ “للصحفي حق النفاذ للمعلومات والاخبار والبيانات والاحصائيات والحصول عليها من مصادرها المختلفة”. وقد تمّ تسجيل 3 حالات حجب للمعلومة، و3 حالات تراوحت بين المنع أو التضييق من قبل قوات أمنية أو موظّفين عموميّين.
14 جانفي 2022؛ قمع بقرار سياسيّ
شهد وسط العاصمة تونس يوم الجمعة 14 جانفي 2022، انتهاكات كبيرة طالت العشرات ممن تواجدوا في شارع محمّد الخامس وفي عدد من الأنهج المتفرّعة من شارع الحبيب بورقيبة إثر إغلاق هذا الأخير من قبل قوات الأمن منعا لأي احتفالات أو تظاهرات بذكرى 14 جانفي عقب قرار رئيس الجمهورية قيس سعيّد تغيير عيد الثورة إلى 17 ديسمبر بتاريخ 03 ديسمبر 2021 بجرّة قلم. وشملت الاعتداءات بالإضافة إلى المتظاهرين، عددا من الصحفيّين والصحفيات الذين كانوا بصدد أداء مهامهم في تغطية الحدث، من قبل قوّات الأمن المتواجدة في المكان.
وقد تراوحت الانتهاكات التي وثقتها وحدة الرصد، والتي بلغت 18 حالة، بين القرار بفرض وجوب الاستحصال على رخصة مسبقة للتصوير في الأماكن العامة من دون أي مسوغ قانوني، وحجز وثائق الهوية والإيقاف بمراكز الأمن وإغلاق أدوات التصوير أو حجزها والتهديد بتحرير محاضر بحث والاعتداء بالعنف البدني والسبّ والشتم والمطالبة بالتصوير في مكان آخر والاطلاع على المعطيات الشخصية المخزنة بالهواتف وطلب الاطلاع على الصور والفيديوهات ومطالبة الصحفيين بفسخها. هذا وأشار التقرير إلى تواتر وتشابه ما تعرّض له الصحفيّون والصحفيات من قبل أعوان الأمن وهو ما يؤشّر إلى أنّ تلك الممارسات لم تكن انحرافات فرديّة بقدر ما كانت أوامر مباشرة ونيّة مبيّتة للتضييق على التغطية الإعلامية للاحتجاجات يومها. استنتاج يتطابق مع ما جاء في المؤتمر الصحفي الذي تمّ عقده يوم الثلاثاء 18 جانفي 2022، في مقرّ النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين لتناول تفاصيل الاعتداءات الأمنية التي طالت المتظاهرين في 14 جانفي 2022، ودلالاتها حول مستقبل حرية التعبير والحريات العامة والفردية بتونس. فقد استنكر نقيب الصحافيين محمد ياسين الجلاصي القمع والاعتداءات الأمنية التي طالت المتظاهرين والصحفيين والصحفيات يوم 14 جانفي 2022 وسط العاصمة تونس، مشدّدا على أنّ العنف البوليسيّ لم يكن مجرّد قرار أمني، بل ترجمة لإرادة سياسية بمنع التظاهر في هذا التاريخ بالذات. وكان قد طالب في ذلك اليوم الرئيس قيس سعيّد بالاعتذار العلني ومحاسبة المعتدين وهو ما لم يتحقّق حتّى هذه الساعة.
تسخير وترهيب ومراسيم لتطويع الصحافة
تزامن صدور هذا التقرير مع تواتر تدخّل السلطة التنفيذيّة المتزايد في الشأن الإعلاميّ. حيث شهد مقرّ التلفزة الوطنيّة سابقة خطيرة في 12 جانفي 2022، تمثّلت في تطويق المبنى بحوالي 50 سيارة أمنية إثر إعلان عمّالها وموظّفيها قرارهم بالقيام بإضراب عام في اليوم الموالي، احتجاجا على تردي أوضاع هذا المرفق العمومي. إزاء هذه الخطوة، أصدر والي تونس، كمال الفقي، قرارا بتسخير عدد من التقنيين لتأمين سير العمل استنادا إلى الفصل 4 من الأمر رقم 50 لسنة 1978 المنظّم لحالة الطوارئ. قوّات الأمن لم تكتفِ بالتمركز الاستعراضي حول مقّر المؤسّسة ومحاولة ترهيب العاملين، بل عمد البعض منهم إلى الولوج إلى قاعة البث النهائي وقسم الإنتاج برفقة عواطف الدالي المكلّفة بتسيير المؤسسة في انتهاك صارخ لحقوقهم النقابيّة.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فبعد إعلان الإعلامي مراد الزغيدي عبر تدوينة على حسابة الخاص في الفايسبوك، عن استضافته للقاضي بشير العكرمي في برنامج “عنا أجندا” يوم السبت 12 فيفري الجاري على إذاعة IFM الخاصّة، عاد ليعلن بعد أقلّ من 48 ساعة عن أنّ البرنامج لن يُبثّ في موعده المعهود، من دون أي توضيحات أخرى. لكن في المقابل كشف نقيب الصحافيّين، محمد ياسين الجلاصي، في تدوينة لاحقة في حسابه الخاصّ، أنّ قرار التراجع عن بثّ الحلقة يعود إلى حملة رهيبة من التشويه والضغط والتخوين طالت المؤسسة وشخص الإعلامي بمجرّد الإعلان عن اسم الضيف من قبل مجموعات وأناس يبدو أنّها تنتمي إلى ما يُسمّى بأنصار رئيس الجمهوريّة. وقد حذّر النقيب من خطورة “رضوخ الإذاعة لمنطق التخويف وممارسة الرقابة الذاتية والتي ستكون أخطر من أيّ رقابة قد تمارسها السلطة”. مضيفا أنّه “وبالدخول إلى هذا المربع فإن الخروج منه سيكون أصعب مما نتصور وستصبح الهستيريا الجماعية هي المحدّد في ما يتناوله الإعلام.”
تواصل المؤشّرات الخطيرة على مرحلة جديدة من التعاطي الرسمي مع الإعلام تواصلت، لتكون حادثة إقالة شكري الشنيتي، المكلف بتسيير مؤسسة الإذاعة التونسية بصفة وقتية، من قبل رئيس الجمهورية مساء الإثنين 14 فيفري 2022، وإلغاء كل قرارات التسمية والتعيين التي تم اتخاذها من قبله. وتأتي هذه الإقالة ساعات بعد قيام الشنيتي بسلسلة تعيينات جديدة على رأس بعض الإذاعات والمراكز والتي أثارت جدلا على صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ واتهام بعض الأسماء بالدعاية لنظام بن علي. ولكن وبغضّ النظر عن الأسماء، تمثّل هذه الحادثة أيضا، حجم المراقبة اللصيقة على مختلف تفاصيل ومكوّنات المشهد الإعلامي وخصوصا العمومي منه، ومدى رغبة السلطة القائمة في التدخّل مباشرة وبشكل تعسفيّ وحاسم في أي جدل أو اشكاليّة بمراسيم أو أوامر دون فتح باب النقاش أو ترك مجال لأهل القطاع أو هياكله النقابيّة للحسم والتداول حوله.
إضافة إلى ما سبق، تُبرز الاحصائيّات الواردة في تقرير وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية أنّ الاشعارات حول مختلف الانتهاكات التي يتعرّض لها العاملون في القطاع الصحفيّ حافظت على نسق مرتفع بلغ 20 اشعارا كمعدّل عام منذ شهر أوت 2021. وهو ما يؤكّد أنّ شهر جانفي لم يكن استثناء أو لحظة توتّر طارئة لدى السلطة السياسيّة في “حقبة التدابير الاستثنائيّة”. بل هي تواصل لنمط التعاطي السياسيّ والأمنيّ مع الصحافة والاعلام ونتيجة مباشرة لخطاب التحريض الذّي مارسه رئيس الجمهورية بنفسه خلال أكثر من ظهور مصوّر. حيث عمد في العاشر من جانفي الفائت خلال استقباله رئيسة الحكومة نجلاء بودن إلى وصف وسائل الاعلام بالكاذبة مستشهدا ببيت شعر للشاعر العراقي مظفّر النوّاب؛ “يكذب، يكذب، يكذب كنشرة الأخبار”، مُبديا انزعاجه من وضع بعض الصحافيّين عبارة الاستشارة الإلكترونية بين معقّفيّن قائلا؛ “لو وضعوا أنفسهم بين معقّفين لكان أفضل”.
خطاب التحريض وبخس عمل الصحافة وضيق الصدر من حريّة الاعلام، والإصرار على صيغة التعميم، ممارسات تمثّل خطرا كبيرا عبر خلق رأي عام لا يثق في إعلامه بل ويستعدي الصحافيّين والصحافيّات. كما قد يعكس في جانب منه الرغبة المبطّنة في رئاسة الجمهورية لإعادة تشكيل الخطاب الإعلامي في اتجاه إعلام حكومي لا عمومي أو حرّ، مهمّته نقل الخطب ونصب البلاتوهات كمحاكم لمعارضي السلطة القائمة وشيطنة أيّ صوت مغاير. تصوّر لا يشذّ كثيرا عن المشهد الاتصالي الذي دأب الرئيس على الظهور عليه، خطاب واحد في اتجاه واحد ورؤوس تهزّ بالموافقة أو مطأطأة وشفاه تُبارك أو تصمت.