حدّدت الأمم المتحدة يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر من كلّ سنة اليوم العالمي للمدن، وهو يهدف إلى تعزيز اهتمام المجتمع الدولي بالتحضر العالمي والتمدن، والمساهمة في التنمية الحضرية المستدامة في جميع أنحاء العالم. وينظّم برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشريّة سنويّا هذا اليوم منذ العام 2014، على أنّ يتمّ اختيار موضوع فرعيّ مختلف كل عام. وقد أُعلن موضوع العام 2023 أنّه “تمويل المستقبل الحضري المستدام للجميع”. إلّا أن ما نشهده اليوم في سياق الحرب على غزّة يبتعد كلّ البعد عن المستقبل الحضري والتنميّة، لا بلّ يعتبر جريمة إبادة جماعيّة لمدينة غزّة بمن فيها. وقد كنّا بيّنا في مقالٍ سابق، كيف ركّز 7 خبراء من الأمم المتحدة على تضمين جرم قتل المنازل Domicide ضمن تعداد كمّ من جرائم الحرب المرتكبة من قبل إسرائيل، في بيانٍ صدر عنهم في 19/10/2023، في معرض استكمال عدد من الجهود الأممية المبذولة سابقا بهدف تكريس الاعتراف بخطورة هذا الجرم وخصوصيته. ومن أهمّ هذه الجهود، تلك التي بذلها مقرر الأمم المتّحدة الخاص المعني بالحق في السكن اللائق بالاكريشنان راجاغوبال والذي طالب أكثر من مرة بضرورة الاعتراف بهذا الجرم كجرم دولي مستقلّ، علما أن مطالبته الأحدث عهدا حصلت في 13/2/2023، واتصلت مباشرة بسياسة إسرائيل المعتمدة في هدم البيوت وإقامة المستوطنات وحرمان الفلسطينيين من تصاريح البناء في الضفة الغربية.
وعليه، مواكبة لمساعي جعل جرم “قتل المنازل” جرما مستقلّا، سنحاول أن نبيّن نشأة هذا المفهوم وأهميّته.
1-نشأة مفهوم “قتل المنازل” أو ال domicide
استخدم تعبير “Domicide” للمرّة الأولى الكاتبان ج. دوغلاس بورتيوس وساندرا سميث في عام 1998 في كتابهما “Domicide: The Global Destruction Of Home”، وهو يعرّف بحسب الكاتبين على أنه “التدمير المتعمد والمخطط له لمنزل شخص ما، بهدف التسبب بمعاناة الساكن”. وأول ما ورد في كتابهما قولٍ لعالم الاجتماع الأميركي لويس ممفورد أن الناس ترتبط بالأماكن “بقدر ارتباطها بالعائلات والأصدقاء… وعندما تجتمع هذه الولاءات معًا، يتعزز شعور الإنسان بتماسك المجتمع البشري الذي ينتمي إليه”.
ومن هنا يعتبر الكاتبان أن المنازل هي “الأماكن التي تعتبر ملاذًا هادئًا من العالم الخارجي؛ الأماكن التي يمكننا أن نكون فيها أنفسنا ونعبر فيها عن كياننا ونطوّرها؛ الأماكن التي قد نختبر فيها، قبل كل شيء، الارتكاز والهوية والأمن”.[1] ونتيجة القيمة الجوهريّة للمنزل في حياة الإنسان، قد يكون “التدمير المتعمّد للمنزل الذي نحبّه واحدًا من أعمق الجروح التي تصيب هوية المرء واحترامه لذاته، لأن كلاً من هاتين الدعامتين للعقلانية تكمن جزئيًا في الهياكل التي نعتزّ بها”[2].
انطلاقا من عمل بورتيوس وسميث، وضع عالم الاجتماع الهولندي جان وليم دويفنداك تصنيفا لمعنى المنزل. فاعتبر أن تراكم العوامل التاليّة في مكان السكن (1) الألفة (معرفة المكان والشعور بالانتماء له)، (2) الملاذ (الشعور بالسلامة الجسدية والمادية والأمن والخصوصية)، و(3) الجنة (أي الشعور بالرضى والراحة النفسية الناجمين عن الهوية الجماعية لأفراد المنزل والتاريخ المشترك)، وترابطها تسهم في تكوين المنزل وتعطيه ما يمثله من أهميّة لقاطنيه[3].
ومن هنا، نظرا لأهميّة المنزل ودوره الحيويّ في حيّاة الإنسان، بشكل يتعدى القيمة الماديّة لهيكل المسكن، يستمدّ الضرر الناجم عن التدمير العمدي والممنهج لأماكن السكن، ما يسمى بجريمة “قتل المنازل” أو Domicide.
2-أهميّة تصنيف قتل المنازل كجرمٍ مستقلّ
حثّ المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في السكن اللائق بالاكريشنان راجاغوبال تبعاً لتقرير أعدّه في 19/7/2022، على ضرورة اعتبار ما أسماه “إهلاك السكنى” (بحسب الترجمة الواردة في تقرير الأمم المتحدة) جريمة قائمة بحدّ ذاتها بموجب القانون الدولي. وقد استهلّ مرافعته لهذه الغاية بأن عدد الأشخاص النازحين قسرا عن منازلهم عام 2022 تجاوز ال100 مليون شخص من أصل 7.8 مليار شخص في العالم، وذلك نتيجة للاضطهاد أو النزاع أو العنف أو انتهاكات حقوق الإنسان. وعليه بسبب موجات جديدة من العنف أو الصراعات طويلة الأمد في جميع أنحاء العالم، فإن سجل النازحين اليوم يفوق بكثير ما كان عليه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي تقريره، يوضح المقرر الخاص أن هناك إطارا شاملا متأصلا في القوانين الدوليّة لحقوق الإنسان والقانون الجنائي الدولي يحظّر جميع أشكال التدمير التعسفي للمساكن والتشريد التعسفي والإخلاء القسري وغير ذلك من انتهاكات الحق في السكن اللائق. بيد أن هذه الانتهاكات الجسيمة لا تفتأ تزداد في أوقات النزاع، وغالبا ما تبقى من دون عقاب أو تعويض، وتكون خيارات العودة الطوعية محدودة، وتغيب إعادة الإعمار، والحلول العادلة والدائمة. وعليه، يحثّ المقرّر الخاصّ على معالجة هذه الثغرات على عدّة أصعدة:
أ- الحماية الخاصّة للمنازل
اعتبر راجاغوبال من جهة أولى أنه وبالنظر إلى أن المنزل ضروريّ للعيش في سلام وأمن وكرامة، فإنّه لا يوجد سببٌ منطقيّ لعدم شمله بالحماية الخاصة نفسها التي تتمتع بها الأعيان غير العسكرية الأخرى في القانون الدولي الإنساني، مثل دور العبادة والتراث الثقافي والمناطق المنزوعة السلاح والبيئة الطبيعية.
ب- اعتبار “قتل المنازل” فعلا مكوّنا للجرائم ضد الإنسانية
من ناحية ثانية، بالرغم من إمكانية ملاحقة مرتكبي قتل المنازل قضائيا بوصفه عنصرا من العناصر المكونة للجرائم المرتكبة ضد الإنسانية أو جرائم الحرب أو جريمة الإبادة الجماعية، اعتبر المقرّر الخاص وجوب النظر في اعتبار هذا الفعل جريمة قائمة بذاتها. ويمكن أن يشمل ذلك، على سبيل المثال، إدراج إهلاك السكنى ضمن الأفعال التي تشكّل جريمة ضد الإنسانية أو الاعتراف قضائيّا بأن قتل المنازل فعل قائم بذاته من الأفعال اللاإنسانيّة.
ج- جريمة مستقلّة
أخيراً، رأى المقرر الخاصّ أن من شأن جعل قتل المنازل جريمة قائمة بذاتها أن يسدّ ثغرات الحماية، ويساعد على ضمان أن تحظى الانتهاكات الجسيمة والواسعة النطاق والممنهجة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بنفس الاهتمام في القانون الجنائي الدوليّ الذي تحظى به أيّ انتهاكات جسيمة أخرى لحقوق الإنسان. وقد يكون لذلك أهمية خاصة في الأوضاع التي لا يشكّل فيها تدمير المنازل جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، أو تنعدم فيه النية المحددة لإهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكا كليا أو جزئيا.
بكلمات أخرى، وعلى الرغم من اعتبار استهداف المدنيين والأماكن السكنيّة المكتظّة جرائم حرب وفقاً لمبدأ التمييز بحسب القانون الدولي الإنساني، الذي ينظمّ الاستخدام القانوني للقوّة في النزاعات المسلّحة بشكلٍ يوجب على المقاتلين التمييز بين المقاتلين والمدنيين وبين الأهداف العسكريّة والمدنية، إلّا أن الحاجة تكمن في ضرورة الاعتراف بتدمير المساكن المتعمدّ والممنهج في النزاعات المسلّحة كجريمة مستقلّة[4]، وذلك بهدف تعزيز الوعي بخطورتها والإرادة في محاسبتها نظراً لما تمثلّه مؤسسة المنزل من قيمة معنويّة وحيويّة للإنسان. إذ أن تدمير المنزل لا يقتصر على تدمير الهيكل المادي، بل تعني تدمير ذاكرة وجهود قاطنيه، والقضاء على مدّخرات أسر بأكملها وعلى الراحة التي يولّدها الشعور بالانتماء. فجريمة إهلاك السكنى أو قتل المنازل تتسبب بصدمات اجتماعية ونفسية، عدا عن أنها تؤدي إلى تشريد الملايين وتتسبب في أبشع الانتهاكات لحقوق السكن مع تضييق خيارات العودة الطوعية. بمعنى أن يُلاحق إهلاك المنازل حتى ولو كانت خاليّة، أيّ لا تندرج في نطاق استهداف المدنيين.
د- منع بناء منازل أو التمتع بها
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن جريمة إهلاك السكنى Domicide، لا تقتصر فقط على التدمير المتعمدّ والممنهج للمنازل، بلّ قد تقع خارج أوقات الحروب أو النزاعات المسلّحة من خلال منع نشوء المنازل. وعليه تصنّف ضمن هذه الانتهاكات على سبيل المثال ممارسات الإخلاء القسري والتهجير القسري، وحجب رخص البناء. وقد يشكل حرمان المجتمعات من الوصول إلى سبل العيش الأساسيّة مثل المياه أو الكهرباء أو الغذاء في حدّ ذاته جريمة قتل المنازل.
3- الارتباط بالسياق الفلسطيني
بالعودة إلى السياق الفلسطيني، ليست المرّة الأولى التي يطالب فيها الخبراء الأمميون بمحاسبة إسرائيل على أعمالها التي تشكّل “قتلاً لمنازل” الفلسطينيين. ففي 13/2/2023، طالب ثلاثة من المقررين الخاصين، فرانشيسكا ألبانيز، و بالاكريشنان راجاجوبال وباولا جافيريا بيتانكور المجتمع الدولي اتّخاذ الإجراءات اللازمة لوقف عمليات الهدم المتعمّد والممنهج للمساكن والتهجير التعسفي والإخلاء القسري للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة. وقد اعتبر الخبراء في بيانهم ارتقاء الهدم الممنهج لمنازل الفلسطينيين، وإقامة المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وحرمان فلسطينيين في الضفة الغربية من تصاريح البناء إلى مستوى جريمة “قتل المنازل”، وتهديد للوجود الفلسطيني ذاته.
وقد وثّق البيان أحد الانتهاكات الإسرائيليّة المتكررة، والتي تندرج في سياق جريمة قتل المنازل، ألا وهو استهداف المنازل العائليّة وعائلات الفلسطينيين الذين ينفذون هجمات على المستوطنات الإسرائيليّة. ففي 29/1/2023 أعلنت السلطات الإسرائيلية عن تدابير للإغلاق الفوري لمنازل عائلات المشتبه بقيامهم بتنفيذ الهجمات التي وقعت يومي 27 و28 كانون الثاني في القدس الشرقية المحتلة، وتمّ إجلاء عائلتين قسراً من منزليهما، وأُلقي القبض على أكثر من 40 شخصاً، بما في ذلك أفراد الأسرة، على خلفية الهجمات، حسبما ورد.
[1] Porteous, J. Douglas, and Sandra E. Smith. Domicide: The Global Destruction Of Home. McGill-Queen’s University Press, 2001, Chapter 1 “Introducing Domicide” , p.3
[2] Porteous, J. Douglas, and Sandra E. Smith. Domicide: The Global Destruction Of Home. McGill-Queen’s University Press, 2001, Chapter 1 “Introducing Domicide” , p.5
[3] Bree Akesson and Andrew R. Basso, From Bureaucracy to Bullets: Extreme Domicide and the Right to Home (New Brunswick, New Jersey, Rutgers University Press, 2022), p. 7 :
“ The Politics of Home, Jan Willem Duyvendak:
I. Familiarity ‘Knowing the place’
II. Haven: secure, safe, comfortable, private and exclusive
Physical/material safety; mentally safe/predictable
Place for retreat, relaxation, intimacy and domesticity
III. Heaven: public identity and exclusivity
A public place where one can collectively be, express and realize oneself; where one feels publicly free and independent. Home here embodies shared histories; a material and/or symbolic place with one’s own people and activities”.
[4] The Case for the International Crime of Domicide, by Balakrishnan Rajagopal and Raphael A. Pangalangan, October 28, 2022